أزمات غزة بين العاجل والآجل
اقرأ الأزمات المتتالية وفق صيرورتها اللحظية دون النبش أو البحث عن أصولها، أو جذورها الأساسية التي اختلقت هذه الأزمات. لأننا نعتمد على منهجية التفسيرات الآنية أو التعامل مع اللحظة، وتقديمها لشعبنا كحقن تخديرية، وإشغالها عن التفكير بعمق للبحث عن الأسباب الفعلية، وهي سياسة أدركنا وأوصلنا شعبنا لهذه الحالة المزرية من التفكير، بعدما انتهجنا ثقافة تعميم الانتصارات، وأدلجة الأحداث التاريخية البطولية إلتفافًا على الحقائق والإرتباطات الجدلية بين الحدث والأزمة ومسببها الأصلي، والربط بين الجذر والفرع.
في قراءة واقع الحال في غزة وأزماتها، فإن الظاهر يؤكد أن فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006 هو بداية الأزمات وتلاحقها، حيث ارتبطت الذاكرة العابرة بهذا الفوز كمسبب أساسي في جل هذت الأزمات الحياتية وغير الحياتية، المعبر عن أزمة ملموسة لدى الشعب الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة، وإن كان هذا المسبب حق لكنه يراد به الباطل، لأننا تجنبنا الغوص عميقًا في النبش عن مصدر تأصيلي للأزمات، ومسببها الباطني الذي يمكن لنا ان نضع يدنا عليه، ونحلله، ونصيغ له الحلول الجذرية، وخاصة فئة المثقفين التي تُدرك الأزمة لكنها تتجاهل ذلك، لأن معظم هذه الفئة تبنت سياسة المصالح الشخصية، وغياب المثقف الوطني الحقيقي الذي لا يسعى لمنصب أو وظيفة عليا أو الذي لا يريد التسابق على وسائل الإعلام والاسترزاق.
ولنراجع معًا جملة المسببات لهذه الأزمات وتجلياتها منذ أن وقعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي في أوسلو عام 1993، ثم أوسلو 2، وتوابعه اتفاق طابا، واتفاقية باريس الإقتصادية...إلخ، وما منحته هذه الإتفاقيات من حقوق، وهنا؛ لا أتحدث عن الحقوق الوطنية لأنها مرئية، ولكن عن الحقوق المعيشية التي تتضح تجلياتها في هذه المرحلة، ومراحل سابقة، دون أن تصاحبها الهالة الإعلامية الضخمة معلومة الأهداف، بما أن هذه الاتفاقيات منحت الفلسطينيِّين سلطة على الشعب الفلسطيني في بعض المناطق المصنفة ضمن أحرف أبجدية " أ. ب.ج" دون أي سلطات على الأرض، أو على الموارد، أو على الاقتصاد الفلسطيني، بل وضعت قيود واشتراطات خطيرة ومقيدة لأي تحركات فلسطينية تؤسس لاقتصاد فلسطيني مستقل، أو تأسيس بنى اقتصادية استراتيجية مستقلة، هذه القيود قيدت أي حرية أو سيطرة اقتصادية على مقومات الشعب الفلسطيني ومقدراته، وربطته مباشرة بعاملين؛ الأول: المساعدات الأمريكية الأوروبية، والعربية المشروطة بشروط الراعي الأمريكي، والثاني: ربطت الاقتصاد الفلسطيني بؤوس الأموال المحلية المرتبطة بمصالحها مع أوروبا وسياساتها ضمن قانون خصخصة الاقتصاد الفلسطيني، وسيطرت هذه الرؤوس المستثمرة على أهم موارد الشعب الفلسطيني وموارده مثل" الكهرباء، المياه، الاتصالات، التعليم الجامعي، البنوك...إلخ" وهنا أصبحت هذه الخدمات الحيوية تحت سيطرة رأس المال المتحدث غير المباشر بلسان السياسات الاقتصادية الأوروبية – الأمريكية- الإسرائيلية، إضافة لقوانين وسلطات سلطة النقد الفلسطينية التي تعتمد على اتفاق باريس الاقتصادي، وهو ما منح البنوك الفلسطينية، والعربية العاملة من جمع مدخرات الشعب الفلسطيني الداخلية، ونقلها للاستثمار خارج فلسطين، مع تبني بعض الخدمات التسويقية مثل" رعاية فريق كرة، أو تقديم بعض المنح لطلبة الثانوية المتفوقين" وهي خدمات تسويقية ضمن التنافس بين البنوك، دون تقديم أي مشاريع حيوية وهامة للشعب الفلسطيني، وبناه الاقتصادية... والسؤال هنا أين دور البنوك في الحصار المفروض على غزة؟! الإجابة هنا أن البنوك العاملة في غزة تطبق سياسات مالية رقابية معقدة، أي أنها تطبق السياسات الأمريكية- الإسرائيلية في حصار غزة.
على الطرف الآخر مؤسسات المجتمع المدني التي انتهجت سياسات تقديم الخدمات الاستهلاكية الترويضية دون أن تضع أي سياسات استراتيجية أساسية لمحاربة الفقر محاربة حقيقية، أو محاربة البطالة، أو الأمراض المجتمعية، بل تحولت هذه المؤسسات لمؤسسات وظيفية تطبق سياسات الممول، والأهداف السياسية، وإثراء للقائمين عليها، ونهب وهدر الأموال المجتمعية التي تعتبر من أهم مقومات الاستثمار في القوى البشرية الفلسطينية.
عليه فإن هذه السياسات، والاتفاقيات تعاملت مع الفلسطينيِّين بقدر وحجم التنازلات التي قدمتها وتقدمها القيادة السياسية، وبقدر التطور في الحالة السياسية القائمة لحظيًا، مع حرمان الفلسطينيِّين من الحريات الاقتصادية، مثل الاستيراد والتصدير، وبناء وتطوير القاعدة الإقتصادية المحلية دون مراقبة وموافقة الجانب الإسرائيلي، والممول الأوروبي، بل أكثر النجاحات التطويرية في البنى التحتية كانت للمؤسستين الشرطية والأمنية بما أنهما ذات مهمات تتطلب التطوير، ورفع المقدرات والأداء.
ولكي نؤكد هذا الجانب النظري بالجانب العملي على الأرض، فإن ما مسمح به للعمال الفلسطينيِّين بسوق العمل الداخلي في فلسطين 1948، كان مرتبط بقدر التوافق بين القياديتين السياسيتين ، وقدرة المتنازل الفلسطيني عن تقديم ما في جعبته من تنازلات، وفي أي محاولة للثبات أو الصمود في المفاوضات كانت تتم إجراءات وقيود كبيرة ومتعددة ضد العمال، تقلص من أعدادهم، وتزيد من أعمارهم، أما على صعيد فرص العمل في السوق الداخلي فإنها اقتصرت على مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية المدنية والأمنية، ضمن سياسة " إن لم تركعه جوعه"، أما السوق الحر فهي اقتصرت على عمليات تدوير التشغيل في المشاريع العامة الإسكانية، أو الطرق، أو البطالة المؤقته...إلخ، في حين أن الإقتصاد الإنتاجي الفلسطيني لم يشهد أي تطور أو تقدم ملحوظ في عملية بناء قاعدة أو بنية اقتصادية أساسية استراتيجية، وما يؤكد ذلك الحرب التي شنتها " إسرائيل" على البنى التحتية الاقتصادية الفلسطينية في أعقاب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، وتدميرها الممنهج للمصانع، وللبنى الاقتصادية المحلية، وتقييد حركة الاقتصاد الداخلي، وتقويضه، وإعادة لنقطة الصفر، بما فيها بنى عامة مثل تدمير شركة توليد الكهرباء في قطاع غزة في أعقاب أسر المقاومة للجندي الصهيوني شاليط، وتدمير ميناء غزة، وكذلك مطار رفح الدولي، مع التحكم الكلي بالمعابر سواء المسيطرة عليها مباشرة أو بشكل غير مباشر.
إن جل الأزمات المعيشية التي تشهدها غزة اليوم هي أزمات وليدة استراتيجيات ممنهجة صاغها اتفاق أوسلو وتوابعه اتفاقية باريس الاقتصادية، والتي استهدفت في المقام الأول استحلاب القيادة الفلسطينية السياسية، وسياسية التركيع التي كانت تمارسها وتمليها عليه، وفي حالة أي تعنت أو تصلب في الموقف الفلسطيني يتم تعطيل وسحب كل هذه الصلاحيات بما فيها بطاقات VIP التي تمنح لقيادة السلطة الوطنية.
مع هذه الحقائق جاء فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006 ليعمق من الأزمة التي خلقتها " إسرائيل" نتيجة تعطيلها وتراجعها عن الإتفاقيات الموقعة، والتعامل مع غزة كمنطقة ذات سيادة مستقلة، وبذلك فض يدها عن مسؤوليتها كقوة احتلال مسؤولة عن المناطق المحتلة وفق القوانين الدولية، وهو ما تسوق له إعلاميًا، دوليًا، وإنه غير مسؤول عن قطاع غزة المستقل، والتعامل معه ككيان قائم بذاته،ـ مع عد فهم حركة حماس العميق لهذه التعقيدات السياسية التي جُرت إليها مع سبق الإصرار والترصد، واقحامها في نفق السلطة ووقوفها عاجزة عن التعامل مع ما هو قائم، وتحقيق متطلبات شعبنا الفلسطيني بنفس الوقت، بل قابلتها حركة حماس بخيارين؛ إما أن تتساوق مع هذا النهج القائم وتقدم ما قدمته حركة فتح وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو، وتصبح جزء من منظومته السياسية المتفق عليه اقليميًا، ودوليًا كحماية للكيان، أو الثبات على منهجها ونهجها وهو ما حاولت أن تثبت عليه، وبذلك وضعت قدم في الجنة محاولة تسويق نفسها كحركة إسلامية وسطية يمكن أن تتعايش مع كل الظروف، وقدم في النار وعدم قدرتها على إعلان هزيمتها، والانسحاب من سباق الحالة، وترك ساحة السلطة لمن اختارها طوعًا، بل حاولت اختيار الجنة والنار معًا، فاختارت أن تواجه القوى المنافسة لها، وجعلت من ذلك معركتها الأهم، وهو ما دفعها لممارسات وسلوكيات داخلية عاقبت بموجبها شعبنا الفلسطيني، ضمن سياسة العقاب الأمني والعسكري، والاقتصادي، وهو السلوك الذي دفع بشعبنا الفلسطيني للتعارض مع الحركة وسياساتها، فهي إن عجزت عن تقديم تنازلات – وفق رؤيتها- فقد عجزت عن تهيئة شعبنا للإلتفاف حولها، وتحمل تبعات الحصار، والتضييق والضغط عليها،.
هذه القراءة التي تؤكد أن أي قوة فلسطينية تريد مستقبلًا أن تُعدل من المسار التنازلي والثوابت الفلسطينية لا يمكن لها خوض غمار هذه المعركة دون استراتيجيات تعتمد على تكتيكات علمية مردوسة في مواجهة الزندقة الإقليمية والدولية، وما تملكه" إسرائيل" من مقومات ضغط، وأول هذه التكتيكات المصالحة مع الشعب الفلسطيني، وتهيئته لمواجهة هذه التحديات، دون القفز عنه، والانزواء بالشعار وطرح الشعارات فقط، في حين أن الممارسة على الأرض معاكسة للشعار.
هذه الخطيئة التي ارتكبتها حركة حماس من خلال سياساتها على الأرض، وخاصة مع أهل قطاع غزة، حيث فرضت عليهم الخضوع لها بقوة الإجبار العسكري والأمني، ومايزت اقتصاديًا بين أبناء الشعب الفلسطيني، واستحوذت على سياسة التوظيف لعناصرها ومناصريها، وهو ما ترافق مع حملات تحريضية من المنافسين السياسيين، ومن قوى اقليمية متعارضة مع منهج وسياسة الحركة... والمقاومة.