الاثنين ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم محمود إبراهيم

أحلام محترقة

مشهد داخل قطار الموت
القطار مازال بالمخازن. الساعة العاشرة مساءاً.أعداد غفيرة من الركاب تهرول ناحية المخازن لتلحق مقعدا بالقطار.يتساءل الحاج عبد الهادى عامل التراحيل: ياللا يا حسين بينا احنا كمان نلحق " الجطر".يرد حسين عامل الورنيش ذو الجسم النحيل والبشرة السمراء والعيون الحزينة:يا حاج عبد الهادى لسانا هنروح المخزن ما هيجينا " الجطر" لحد عندينا ……

  اسمع الكلام يا واد يا حسين نتمشى الشوية دول إحسان منوجف من هنا " لجنا".هم بينا ياللا.

  وهناك داخل القطار يفاجأ الحاج عبد الهادى

  " نجيت " يا فالح أهو الجطر كله ملان إياكش نعرف "نجف"

  يدخل الحاج عبد الهادى القطار ولا يجد مكان يضع به " قفة " محشية بملابسه.وبعض الملابس اللى اشتراها من الوكالة لولاده عشان يفرحهم.

  يجلس عبد الهادى وحسين كل منهما بجوار الباب بعد أن افترشا المنطقة بحاجاتهم وقففهم.

  يا ساتر يا حاج ما بلاش الجطر " دويتى" ونركب اللى بعده.

  يا ولد عيب عليك. الجرشين الزيادة دول أولى بيهم بوك العيان لجل ما تجيبله الدوا وداويه عند أحسنها طبيب.

  لازم تجلب على المواجع يا حاج هو أني ناجص.

على باب القطار يقف " سيد " المجند بالأمن المركزى يدير عينيه يمينا ويسارا بحثا عن مكان.فلا يجد.فيكلم نفسه قائلا

  استعنا ع الشجا بالله. هيلا هوب. وسع يا أخينا " يتمدد
سيد بجوار عوضين طالب الأزهر"

  ايه يا عم انت وين رايح.مفيش مكان. عميت ولا ايه.

  معلش يا بلدينا. نستحمل بعضينا.ينوبك صواب.منمتش بجالي ليلتين منه لله اللي فى بالي.

  طب يا خويا. انت هتشكيلي همك. تعالى.تعالى.جطعت جلبى.

" سمة صداقة متينة بدأت بين عوضين وسيدإ" كل منهما شكا للآخر وخلال ساعة كانت ضحكاتهم تجلجل فى العربة الأخيرة بالقطار.

  وعلى أحد الكراسى تجلس سعاد تحتضن ولدها ولا تكف عن تقبيله. وبجوارها محمد ومحمود التوأم ذو الخمس سنوات ينظران من الشباك فى انتظار ان يتحرك القطار ويتفرجوا على الدنيا.هكذا يقولون لأمهم سعاد.
يتحرك القطار. يصرخ محمد ومحمود .هييه.هييه.تبتسم سعاد." يا مسهل " يقولها عبد الهادى.

" سندوتشات. بيبسى. حاجة ساقعة. شاى."

  جعان يا واد يا حسين" يقولها عبد الهادى وهو يبلع ريقه "

  لسه المشوار طويل يا حاج. لما نوصل المنيا هاكل لجمة.
يضحك الحاج عبد الهادى" جعان كل دلوجتي. يا عالم هنوصل المنيا ولا لأ." يقولها عبد الهادي وهو يفتح قرطاس الطعمية
يتحرك القطار. يمر من أمامه فى الاتجاه المقابل قطار المكيف ويتوقف حسين عن الأكل.

  يا بوى. شايف يا حاج. الجطر عامل ازاى. ادفع نص عمري واركبه.

  احلم على قدك يا ولد.احنا غلابة يا ولدى والغلابة ميجدروش يدفعوا ثمن تذكرة الجطر دا أبدا. شايف البهوات اللى راكبينه عاملين ازاى كل. كل. كل يا ولدي.

  وانت اللي جابك هنا يا عوضين. موش بتجول انك تلميذ فى أسيوط.

  أنا كنت جاي أدور على شغلانة تساعدنى في مصاريفي بس ملجيتش.

  يووه ه . دا انت غلبان جوي.هي البلاد ديه.عاد فيها شغل.

يبتسم عوضين.وكأنه يقول فى باله.حتى انت يا سيد يا بتاع الأمن المركزى.عرفت ان البلد حالها واقف ومفيهاش شغل

" الناس كلها تستلم للنوم.والواقفين يحاولون النوم ويدوى صوت عم عبد الهادى "

  اجفل الباب دا يا حسين لحسان دا جايب ثلج.

  معرفش أجفله يا حاج.وبعدين ما كده كده الشبابيك مفيهاش جزاز وجايبه هيه كمان تلج يقف عم عبد الهادى متجاهلا حسين ويستجمع قواه فيقفل الباب بصعوبة شديدة ثم يستسلم للنوم.
" شاى.حاجة ساقعة.منديل يا باشا.سجاير يا حاج.ساعدونى.كل سنة وانتم طيبين يعود عليكم الأيام بخير "

تخترق تلك الكلمات الصمت الرهيب.مع دوى أغنيات صعيدية لا تفهم منها شيئا تنبعث من كاسيت أحد الركاب الكل استسلم للنوم.وإن كان أحدهم لم يستطع النوم لأن الليلة ستلد زوجته.هكذا قالوا له فى التليفون " ……

إيه رأيك فى كوباية شاى يا وِلد.يقولها عبد الهادى وهو يخرج الوابور.ويرد حسين بابتسامة كأنه أعجب بالفكرة.يا ريت يا حاج !!

هدوء غير عادى يشوب القطار والكل نائم ويحلم.سعاد تحلم بابنيها محمد ومحمود ازاى تربيهم وتعلمهم أحسن علام.وعوضين يحلم يخلص ويلاقى شغل علشان يتجوز بنت عمه اللى بيحبها وبتحبه.وسيد يحلم باليوم اللى يخلص فيه الجيش ويوقف جنب أبوه ويريحه ويشيل المسئولية عنه.وحسين يحلم أن يحوش الفلوس اللازمة لعملية أبوه.أما عم عبد الهادى فكل حلمه أن يشوف بنته عروسة.ويعملها أحلى فرح.
هدوء تام.الكل ينام.وطموحات حطمتها حياة الواقع فخرجت فى صورة
أحلام …!!

ابتسامات ترتسم على الوجوه.ابتسامة حلم.!!

سعاد.تلك التى أرغمتها ظروفها الاقتصادية الطاحنة أن تعمل كخادمة فى احد منازل الطبقات الراقية.تحلم بمحمد ومحمود وقد كبرا وتعلما أحسن علام.أما حلمها لنفسها فمات مبكرا منذ أن أرغمت على الزواج من رجل يكبرها بعشرين عاما …!!

سيد.مجند الأمن المركزى.الذى حرمته الظروف حتى من أن يتعلم القراءة والكتابة.فلا يستطيع أن يحلم إلا بأن ينهى فترة خدمته فى الجيش ويشيل المسئولية عن أبوه.مسئولية آن الآوان أن يتحملها عنه …!!

عوضين.ذلك الانسان المثقف الذى أجبر يوما بعد يوم ان يتنازل عن حلم بعد حلم.واقتنع تماما بأن الانسان لازم يحلم "على أده".واقتصرت أحلامه على مجرد توفير نفقات دراسته …!!

حسين.ذلك الذى لم يتعدى مرحلة الطفولة بعد.اخترق الحياة مبكرا.وتغلغل فى صعوباتها لم يكن يحلم غير بتوفير نفقات عملية أبوه.!!

أما عم عبد الهادى.فصورة ابنته لا تفارقه حتى فى الأحلام.وكل حلمه أن يراها عروسة ويعملها أحلى فرح اتعمل فى البلد …!!

ابتسامات مختلسة.ولا تخرج إلا فى الأحلام.فى زمن أصبحت فيه الابتسامات اقتصادية.وظروف نجحت فى رسم "تكشيرة" على الوجوه.لا تمحوها غير الأحلام.التى ربما لا تأتى سعيدة …!!

ركاب العربة الأخيرة بقطار الدرجة الثالثة المتجه للصعيد ما زالوا يحلمون.ودفء يشوب المكان.ويزداد الدفء ويذوب ثلج الشتاء وينقلب لحرارة جهنم.صراخ يملأ المكان.النيران تغزوا العربة الأخيرة بقطار الدرجة الثالثة المتجه للصعيد.الكل يحاول الهرب من الموت." من اجل من يعيش لهم ".؟؟!!

سعاد تحتضن ولديها وتجرى بحثا عن مكان آمن.لكن أين تهرب فلا هرب من حقيقة.عم عبد الهادى يحاول مساعدتها لكنه يفشل لمجرد أنه احترق.!!

وحسين يصرخ - لا من الألم -.لكن على نقود تعب السنين الذى أكلته النيران.يحاول القفز من الباب.لكنه يفشل أن يفتحه – تماما كما فشل فى أن يغلقه.!!!
عوضين وسيد يموتان وهما يحاولان انقاذ بعض الركاب.!!

هدوء تام.ورائحة الأجساد المحترقة تملأ المكان …سكون.وهدوء.حزن.ساعات يسيطر الهدوء التام على المكان.لكن بعد أن احترقت الأحلام.وتبددت الآمال ولتعلن دقات ساعة الحياة أن انقضت ساعاتهم وماتت أحلامهم
… أحلام محترقة.!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى