نديم العروضيين المجلس الثالث
سلامٌ عليكم، طبتم مساءً -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا، بسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاة على رسوله وسلامًا، ورضوانًا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاهم، كيف حالكم، كيف أمسيتم؟
بخير.
لله الحمد والشكر. بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسّر لنا ولكم كل عسير، وسهّل كل صعب!
كنا فيما سبق قد مهّدنا لعلم العروض بالتنبيه على أقصى ما يرجو متعلمه أن يصل إليه حين يُعرض عليه الشعر ليُخرِّجه، وعبّرنا عن ذلك في صفحة ملفنا الأولى، وفيها بطاقة التخريج العروضي التي ينبغي أن تستطيع بعدما تتعلم، أن تقدمها في كل شعر تُطالَب بتخريجه عروضيًّا. ثم رأينا أن نمهّد للعلم الذي هو كنز مفتاحه السؤال، بثلاثة وعشرين سؤالًا، تخيّلنا أنها تضم أشياء لا يستغني عنها طالب علم العروض، واعتذرنا بأننا إنما نقدم وجهًا من الجواب لا يُلغي غيره، بل قد طوّرنا فهومنا لبعض أجوبة هذه الأسئلة، ومضينا شوطًا لا بأس به.
نفرغ من ذلك اليوم، لننتقل إلى أنماط الأوزان، وقد بلغنا مبلغًا، فإلى أين وصلنا؟ وصلنا إلى إجابة السؤال...؟
الحادي عشر.
ها! إلى الحادي عشر؟ طيب! قبل أن ننظر فيه أحب أن أذكركم أننا سألنا: ما العروض؟ -أليس كذلك؟- وروينا لكم ما نقله الليث في العين عن أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، أنه قال: العروض عروض الشعر؛ لأن الشعر يُعرض عليه. وسنستفيد من كلمته هذه في جواب سؤال من الأسئلة، لكن ينبغي أن نُعيد عليكم هنا، أن علم الشيء هو منهج البحث عن طبيعة وجوده توصُّلًا إلى ضبطه، وقد اتفقنا على هذا. معنى هذا أن علم العروض هو علم طبيعة وجود العروض في الشعر، هو منهج البحث عن طبيعة وجود العروض في الشعر توصُّلًا إلى ضبطه؛ فإذا كان العروض هو ما ذكرناه من أنه تكرار مجاميع مرتبة من المقاطع يدركها السامع ويرتاح لها، فعلم العروض هو منهج البحث عن طبيعة وجود هذا العروض على الكيفيّات التي يكون عليها ويدركها السامع ويرتاح إليها، توصُّلًا إلى ضبطه.
هكذا ينبغي أن نتذكر -مهما كان في عبارة الخليل وعبارة الناس!- فعلم الشيء هو منهج البحث عن طبيعة وجوده توصُّلًا إلى ضبطه؛ تضبطه في نظريات، في قواعد، كما تشاء, لدينا إذن أشياء، ولدينا علوم هذه الأشياء. لدينا أشياء -سبحان الله كانوا قديمًا يسمون علم الطبيعة علم الأشياء، هكذا حتى في مصر كانوا يقولون أشيا، عندي أشيا، مقرر يسمونه الأشيا، الأشياء-! فعندنا الشيء، وعندنا علمه، فالشيء هو الوجود الطبيعي له، أما علمه فمنهج البحث عن طبيعة وجوده توصُّلًا إلى ضبطه!
فإذا كان العروض كما اتفقنا، هو تكرار تلك المجاميع المرتبة من المقاطع اللغوية الصوتية أو الصوتية اللغوية على النحو الذي يدركه السمع ويرتاح له؛ فعلم العروض هو منهج البحث عن طبيعة وجود العروض على هذا النحو في الشعر توصُّلًا إلى ضبطه في الآجروميات أو ما تشاؤون.
واضح؟ أحببت أن أذكّركم هذا قبل أن نمضي!
ما الصدر والعجز والعروض والضرب؟
مصطلحات لا غنى عنها، لا غنى بطالب علم العروض عنها، لأن المصطلحات أدوات، أدوات معالجة عمل العلوم، تختصر له كلامًا كثيرًا؛ فبدلًا من أن تقول النصف الأول من البيت تقول الصدر، وبدلًا من أن تقول النصف الثاني من البيت تقول العجُز، وبدلًا من أن تقول آخرة تفعيلات الصدر تقول العروض، وبدلًا من أن تقول آخرة تفعيلات العجز أو آخرة تفعيلات البيت تقول الضرب، وبدلًا من أن تقول كل ما في البيت مما سوى تفعيلتي العروض والضرب تقول الحشو، أرأيتم؟ هي إذن مصطلحات مفيدة.
لم يكن الناس قديمًا -مهما كان علمهم!- يستعملون المصطلحات؛ فالمصطلحات شعار نضج العلمية، شعار النضج. كان عند العرب قبل الخليل علمٌ ما -إرهاصات كما يقول محمد العلمي: إرهاصات العروضية- كما ذكرت لكم عن ذلك البدوي الذي جلس يعلم ابنه: قُل:
نعم لا نعم لا نعم لا نعم
نعم لا نعم لا نعم لا نعم
فقيل له: ما هذا؟ قال: شيء نعلم به أبناءنا الشعر. والحقيقة أنه يعلمه العروض؛ نعم لا نعم لا نعم لا: يسمونه التنعيم، لكن لم يكونوا يعرفون المصطلحات؛ فالمصطلحات إذن مرحلة من النضح العلمي.
ما البحر؟
البحر هو المصطلح الذي أطلقه الخليل على النمط الوزني، على الوزن المعين، على النمط الوزني المعين، وسماه بحرًا -سبحان الله!- فكانت تسميته موفقة جدًّا، كأنه لا ينفد على كثرة المغترفين، والكلمة قرآنية، ذكرها الحق -سبحانه، وتعالى!- في مقامات الإعجاز عن استيعاب علمه، وأنه لو صارت البحر حبرا، والشجر أقلاما، وانقطع الناس كلهم جميعا، واحدا واحدا يكتبون ما انكشف لهم من مواعظ الحق -سبحانه، وتعالى!- "لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"؛ فلعله من هنا استفادها الخليل!
كيف نثبت بالكتابة نسبة البيت إلى بحره؟
بالخطوات الأربع كما قدّمنا في صفحة التخريج، من يذكرها؟ الأولى: خطوة التقطيع؛ وفيها تقطّع أجزاء البيت قطعًا واضحة بين بعضها وبعض فواصل في النطق وفي الرسم، في النطق بالصمت وفي الرسم بالفراغ أو بالخطوط كما سترون بعد قليل، لا بد من فواصل واضحة تفصل بين أجزاء البيت، هذه هي الخطوة الأولى، فما الثانية؟
التلحين.
نعم، لأنك حين تُقطّع في الخطوة الأولى تقطّع بتلحين؛ ففي الخطوة الثانية إذن تكتب هذا التلحين. أنا أدرّس هذا العلم لقسم الموسيقى، ربما لحّنا بالبيانو، بالكمان، بالناي -ليكن ما يكون- إيمانًا منّا بأن هذا الكلام في أصله كان مغنًّى، ينبغي أن يُغنّى، أن يُؤدى بغناء.
والتلحين عندكم في عمان، موجود، ما زال موجودًا إلى الآن، تستطيع أن تجده في بعض الأمسيّات. كان أبو سرور العماني يلحّن شعره، سمعته في بعض الأمسيات يفعل ذلك، وسالم الكلباني يلحّن كذلك، مات أبو سرور -رحمه الله!- وما زال سالم حيًّا، يزورنا في كلّيتنا كل مدة، ويلحّن شِعره! لكم طريقة؛ فأنتم أقدر الناس على فهم علاقة الشعر بالغناء. فنحن نكتب التلحين، نكتبه بالدندنات: للمتحرك ضربة بالآلة، نكتبها دالًا، ونكتب عدم الضربة نونًا، وهكذا ددن دن ددن دن...
ثم في الخطوة الثالثة نراعي العلم الذي اخترعه الخليل فنكتب رموز التفاعيل التي اخترعها، فنكتب هذه: ددن دن، فعولن، هكذا رَمَزَ إليها. كان يعرف هذا الإيقاع "ددن دن"، بدليل أنه كان يذهب إلى سوق الصّفّارين أي النحّاسين، فيأخذ من أوعيتهم، يضرب عليه، هذا يدل على أنه كان يعرف هذا، لكن عند التحصيل، عند العمل العملي الذي رأى أنه أنفع للناس استعمل رموز التفاعيل -نعم!- وكان ذكيًّا جدًا موفّقًا؛ فكلمة "فعولن" هذه تُخَيِّل لك الوزن صوتًا وصورة، تكتبها فتتخيّله، وتنطقها فتتخيّله.
فنحن في الخطوة الثالثة نُضيف رموز التفاعيل، ثم بعد هذا نُضيف أوصافها، لأننا لاحظنا أنها تتغيّر؛ فإذا جاءت على الوضع الأول جعلناها سالمة، وإذا غُيّرت عنه جعلناها مغيّرة، وسميناها باسم التغيير الذي علّمنا إياه الخليل، بهذا نُثبت نسبة البيت إلى البحر.
وفي الاختبار أو في الواجب أو في أي شيء، لا يعنيني أن تُسمي البحر مثلما يعنيني أن تخطو هذه الخطوات؛ فإذا افترضنا أنك سميته خطأ، وخطوت الخطوات صوابًا- كنت جديرًا بالدرجة كاملة! لكن إذا عكست؛ فسميته صوابًا، وخطوت خطأ- لم تكن جديرًا بشيء أصلًا، لم تكن جديرًا بشيء! أتذكرون بطاقة التخريج؟ كانت من بحر الطويل، فمن قال منكم: القصيدة طويلية، ولكنه أفسد الخطوات الأربع، فلن يأخذ أي شيء! ومن عكس فسمّاه البسيط مثلًا أخذ الدرجة كاملة، إذا ما خطا الخطوات سليمة! لكن عند التمييز بين المتفوقين أقدم الذي سمّاه الطويل على الذي سمّاه البسيط، لأنني بلا ريب سأختار منكم الأوائل، وسأكرم الأفضل بهدايا عليها توقيعي، وسيندم عندئذ كل من لم يصل إلى هذا المستوى، سيكون مشهدًا يندم فيه من لم يصل إليه؛ ففي هذا المستوى مثلًا ينبغي أن أفرق بين من عرف أنه الطويل، مَن أحسن الخطوات، وضبطها، وفعل كل شيء، وسمّاه الطويل، ومَن فعل كل شيء وسمّاه البسيط. قطعا، لابد!
وإذا شئتم فالحقيقة أن الأسماء طوارئ، طوارئ، أتذكرون أغنية فيروز "أسامينا"؟ من أروع ما غنّت فيروز، تقول باللبنانية: "أسامينا، شُو تِعْبُوا أهالينا، تَ لاقوها، وشُو افتكروا فينا، الأسامي كلامْ، شُو خَصِّ الكلامْ، عِنَيْنا هِنِّ أسامينا"! يعني ما الذي أراده أهلنا حين سمونا هذه الأسامي، تحقيق حقائقنا؟ مستحيل، حقائقنا شخصياتنا، تصرفاتنا، ممارساتنا، مشاعرنا التي تظهر على وجوهنا، سميته محمدًا، وهو شيطان!
كان اسم السامري -لعنه الله!- موسى كاسم سيدنا موسى -عليه الصلاة والسلام!- قال الشاعر -وهذه من فوائد مولانا الشعراوي، رضي الله عنه!-:
"إذَا لَمْ تُصَادِفْ مِنْ بَنيكَ عِنَايةً فَقدْ كَذَبَ الرَّاجِي وَخَابَ الْمُؤَمِّلُ
فَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ جِبْرِيلُ كَافِرٌ وَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ فِرْعَوْنُ مُرْسَلُ"؛
وموسى السامري ربيب جبريل -عليه السلام!- وموسى النبي ربيب فرعون -عليه اللعنة!- فانظر كيف صار هذا نبيًّا من أولي العزم، وكيف صار ذاك شيطانًا يُعَبِّد أهله للعِجل الذي صنعه لهم بالذهب الذي سرقوه من مصر! لتكن إسرائيليّات أو غير إسرائيليّات؛ فهي نافعة في هذا المقام!
أسماء أهم منها أربع خطوات التخريج، لكن إذا أصبتها كان أحسن.
هكذا نُثبت نسبة البيت إلى بحره، لكننا لا نكتفي بتخريج الوزن، بل نُخرّج معه القافية، والقافية جزء مهم من آخر كل بيت؛ تدل عليه كلمة قافية نفسها كما سنتعرض لها مطمئنين مرتاحين حينما تأتي. جزء محدد لا يجوز أن تضيف إليه ولا أن تحذف منه، آخر ساكنين في البيت مع ما بينهما من متحركات والمتحرك الذي قبلهما، أو كما يقول القدماء: من آخر ساكن في البيت إلى أول متحرك قبل ساكن يليه. لا يجوز أن تضيف إليها ولا أن تحذف منها.
كيف تدلني عليها؟
بخط تحتها، أو دائرة حولها أو مربع، أو تثقيل خطها، أو تغيير لونها، أو ما شئت، المهم أن تحددها لي.
طيب! حددناها، فوجب أن نغوص فيها، ليجب هذا السؤال:
ما أجزاؤها إذن؟ ومِمَّ تتوقع أن تتكون وهي أصوات لغوية؟
أن تتكون من أصوات يسميها القدماء حروفًا وحركات، ويسميها المعاصرون أصواتًا صامتة وصائتة، سواكن وحركات.
ماذا تتوقع؟
هذه لغة -يا أخي!- ما هذه اللغة؟ أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم كما قال ابن جني؛ فأجزاء القافية صوامتها في كلام المعاصرين -حروفها في كلام القدماء- وأهمها؟
الرَّوِيّ.
نعم، هذا أثبت الحروف المكررة، وأظهرها للسمع، وأقواها، وقد وجدنا أنه العين في البيتين، ولهذا يُقال: هذه عينية سويد، وتلك سينية البحتري، وهذه نونية ابن زيدون، وهذه دالية المعري، وهذه لامية العرب، وتلك لامية العجم.. إلخ.
من يعرف لامية العرب؟
للشنفرى.
ماذا يقول؟
"أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ (...)"!
من يعرف لامية العجم؟ لا أحد، ها! لا أحد. لا تعرفونها على رغم أنها مشهورة وخرجت فيها الكتب، هاه! للطغرائي:
"أَصَالَةُ الرَّأْيِ صَانَتْنِي عَنِ الْخَطَلِ (...)"!
هذه لامية، ولكنها من وزن آخر غير وزن لامية العرب، كان ينبغي له إذا ما أراد أن يتحدى الشنفرى أن يقول من وزن لاميته، لكنه مع الأسف قالها من البسيط ولامية الشنفرى من الطويل، وكأنه يريد أن يقول لنا: لا بأس عليكم؛ البسيط أخو الطويل، كما سيعلمك علم العروض!
لنعُد! وأهم حروفها الروي. وأهم صوائتها في مصطلحات المعاصرين التي يسميها القدماء حركات، حركة الروي نفسه، هذا الذي ذكرناه آنفا؛ فهو أهم الحروف، وحركته أهم الحركات؛ فالعين التي حددناها في الأبيات التي بدأنا بها كانت هي الروي، وماذا كانت حركتها؟ الفتحة، وهي الَمْجرى، أهم الحركات من أجزاء القافية؛ فالقافية حروف وحركات من آخر البيت، ربما كانت تفعيلة، أو أكثر أو أقل.
ما أنواع هذه القافية بعد ما حددتها؟ ما أنواعها؟
سيأتيك سؤال مهم: ما هذه القافية؟ ما نوع هذه القافية؟ نوّع قوافي قصائد هذا الديوان؛ أي انسب كل قافية إلى نوعها! على أي أساس تحدد النوع؟ على أساس رويّها، تنسبها إلى رويّها، وإلى حركته، وإلى ما قبله، وإلى ما بعده، على النحو الذي أضفناه بعبارة البيانات أسفل بطاقة التخريج، ماذا قلنا هناك؟ قلنا: القصيدة طويلية كذا كذا كذا، عينية مفتوحة مجردة موصولة بالألِف، هذه العبارة "عينية مفتوحة مجردة موصولة بالألِف"، هي نوع القافية، هي المنتظرة منك حين تنوّع. فما هذه العبارة؟ كل ما في هذه العبارة أنك تلاحظ الحرف المهم، وتنسب إليه القافية، وإلى حركته، وإلى ما قبله -إذا كانت قبله ألف أو واو أو ياء ساكنات أو لم يكن قبله من هذا شيء- وإلى ما بعده، إذا كان بعده ألف أو واو أو ياء أو هاء أو ما إلى هذا، فقط! لكن هذا مهم بلا ريب، لأنه يُخيّل للمتلقي خصوصية القافية، لأن القافية تظل في الذهن تقرعه وتؤثر فيه، قالت سيدتنا الخنساء -رضي الله عنها!-:
"وَقَافِيَةٍ مِثْلِ حَدِّ السِّنَانِ تَبْقَى وَيَهْلِكُ مَنْ قَالَهَا"!
الله على الكلام الجميل! ماذا قالت سيدتنا -وهي صحابية جليلة- ماذا قالت؟ قالت: وَقَافِيَةٍ كأنك تغرس بها رمحًا في الصدر، إذا كانت قافية موفقة كنت كأنك تغرس بها رمحًا في الصدر أو في العقل، رمحا يظل وإن مات صاحبه!
هاه! نعم يا أحمد!
ماذا تعني كلمة مجردة؟
سيأتي كلام كثير، لكن التجريد -كما يبدو من اسمه، عدم وجود الشيء، يقال: فلان مجرد من كذا، مجرد من الثياب، مجرد من المشاعر، مجرد من كذا، أي ليس له ولا فيه شيء منها؛ فالقافية المجردة هي الخالية قبل رويّها من الألف والواو والياء كما سيأتي.
في تلك الأهمية التي انتبهنا إليها في القافية، هذا السؤال:
تُرى هل كانت هذه الأهمية وراء تخصيصها بعلم وهي داخلة في العروض؟
نعم؛ هذا الذي كان. فإذا ما سئلت: أليست القافية من البيت؟ اللهم بلى. فلماذا تفصلها وتقول: هذا علم العروض، وهذا علم القافية؟- فقل: على طريقة قول الحق -سبحانه وتعالى!-: "فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ"، فهما من الفاكهة، ولكنه فصلهما تنبيهًا عليهما وتنويهًا بهما! والقافية تاج الإيقاع الشعري، ترون التاج؟ أليس التاج من الملابس؟ هو من الأشياء التي يلبسها الملك، لكن كيف تسوّي التاج بالعباءة مثلًا؟ كيف هذا! هذا التاج كأنه شعار، كأنه شعار المُلك، وتيجان العرب العمائم، لم يكن العرب يتخذون تيجانًا من الذهب كما كانت الروم، تيجان العرب العمائم! المهم أنها تاج، القافية تاج البيت، وعندكم في المكتبة كتاب بهذا العنوان: "القافية تاج الإيقاع الشعري"، لأستاذي الحبيب الدكتور أحمد كشك -بارك الله فيه!- وقد كان قريبًا معي هنا في مناقشة علمية، وقد عمل سنوات هنا من قبل. انظروا كيف سمّى كتابه! بِمَ وصفها؟
بالتاج.
نعم؛ بالتاج، وهذا تشبيه بليغ فعلًا، تأتي أخيرًا، متى يُلبس التاج؟ قبل الملابس أم بعدها؟
بعدها.
يكون في الوسط أم في الطرف؟ بل فوق الرأس هناك، ويُرى أولًا، يُلبس أخيرًا ويُرى أولًا -سبحان الله!- ومثله القافية تقرع الذهن وتستقر فيه، وتظل تُذكَر بها القصيدة، تقول: هل سمعت سينية فلان؟ تذكر قصيدته بقافيتها!
لماذا استقلّت بعلم وهي داخلة في علم العروض؟
هنا نتذكر عبارة الخليل التي رواها عنه الليث في العين: ما "العروض عروض الشعر، لأن الشعر يُعرض عليه"؛ هل يُعرض علينا الشعر بوزنه دون قافيته؟ لا، بل بوزنه وقافيته جميعا معا؛ فلماذا استقلّت؟ تجد في المكتبة كتابًا في علم العروض، وكتابًا في علم القافية، وربما تجد كتابًا في علمي العروض والقافية -هكذا!- في علمي العروض والقافية، كيف هذا والقافية داخلة غير مستقلة! هذا من باب العناية الزائدة والتنبيه على الأهمية على طريقة قول الحق -سبحانه وتعالى!-: "فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ".
ما أساس تخريج القصيدة في علم العروض؟
أساسان، عندنا أساسان هنا لتخريج القافية في علم العروض، سبقت الكيفية، والكلام الآن في التأسيس، سبقت كيفية تخريج الشعر في علم العروض، بما فعلنا في بطاقة التخريج، لكن ما أسُس هذا التخريج؟ ضبط النطق، وضبط اللحن.
ضبط النطق بحيث لا خطأ، لا خطأ، لا مجال للخطأ! هناك أخطاء يسيرة، أخطاء سهلة لكن ينبغي ألا تخطئها. يا أخي هذا خطأ سهل لا يكسر الوزن، لا ينكسر به الوزن! لا، ينبغي ألّا تقبل الأخطاء اليسيرة لكي لا تقع في الأخطاء العسيرة؛ التبسّط في الأخطاء اليسيرة يوقع في الأخطاء العسيرة، ينبغي أن تغلق هذا الباب. يقول: أتيتَ -والفعل أتيتُ- فتخطئه؛ فيقول: ما لك، "أتيتَ" في الوزن العروضي ددن د، مثل "أتيتُ"، هي هي، فتقول له: سبحان الله! كيف يتكلم عن نفسه فتشوّه كلامه وكأنه يتكلم عن آخر! أتيتُ أتيتَ، معقول هذا!
الأساس الأول إذن ضبط النطق بحيث لا يكون للخطأ مدخل.
الأساس الثاني: اللحن. سنتعلم لكل وزن لحنًا نلحّن به القصيدة، وسنعرضه من خلال قصيدة كاملة، حتى نتدرب كثيرًا على تلحينه من الأول إلى الآخر -وربما كانت في ثلاثين بيتًا أو أكثر أو قريب من هذا- نظل نلحّن اللحن نفسه الذي تدربنا عليه أو تعلمناه حتى يستقر -كأنك تصب عسلًا في طبق مثلًا!- حتى يستقر.
إذا ضبطت النطق وضبطت اللحن فلا شيء بعد هذا، كل ما بعد هذا هيّن، تمضي لتعالج خطوات التخريج كما تعلمتها في بطاقة التخريج.
كيف نخرّج القصيدة في علم العروض؟
بالخطوات التي تعلمناها هناك، ما هذه الخطوات؟ أربع -ها!- الأولى التوقيع، ثم؟
التقطيع.
التقطيع، ثم التوقيع، ثم التفعيل، ثم التوصيف. ولا تنفصل القافية من الوزن، بل نخط تحتها، أو نلونها بلون مخالف، أو ندير عليها دائرة أو مربعًا، أو ما شئت، المهم أن تميّز الجزء الذي يؤدي القافية. هذا في الصورة، ثم تضيف بعد هذا البيانات، وبهذا تكون قد قدمت بطاقة كاملة للتخريج العروضي.
كيف مكنَنا مولانا الخليل بن أحمد من هذا التخريج الذي وصلنا إليه؟
لولا ما فعله الخليل من تجزيء الأجزاء ما وصلنا إلى هذا المستوى، هو الذي جرّأنا على أن نميّز الأجزاء من داخل الأجزاء من داخل الأجزاء، على ما فعلنا في الدوائر التسع، تذكرون الدوائر التسع؟ ها! هو الذي مكننا وجرّأنا على أن ندوّر هذه الدوائر من داخل الدوائر من داخل الدوائر، ولم يمكنه زمانه من أن ينزل إلى الذبذبات الصوتية، ولو شهدَنا هذه الأيام لوصل إليها وإلى أكثر منها، وإذا لاحظتم اختراعات العلماء هذه الأيام وجدتم كثيرًا منها لا يعدو أن يكون اكتشافات تجزيء الأشياء. ما الذي فعله زُويل؟ اكتشف، استطاع أن يكتشف جُزْءَ جُزْءِ جُزْءِ كذا، وفلان استطاع أن يكتشف جُزْءَ جُزْءِ جُزْءِ كذا، وهكذا. سبحان الله، على أي أساس يجترئون على التجزيء؟ على أساس إيمانهم بأنه ليس في الدنيا بنيان لا يتجزأ. خلق ربنا الخلق بنيانًا، أتذكرون الفيلم الذي يأتيكم على الواتساب، يبدأ بمكاننا على الأرض، ليبتعد يبتعد يبتعد، حتى نرى المجرات من بعيد، ليعود مرة أخرى إلى مكاننا على الأرض، كأنه يريد أن يقول لك: العالَم أكبر مما تتخيل، والنظام فيه واحد يدل على خالق واحد؛ فالذرة بنيان -والذرة عند العرب يسمون هي النملة- بنيان كامل، تصعد منه في الحضيض تصعد تصعد، إلى السماء، ثم المجموعة الشمسية، ثم المجرة، والبنيان هو البنيان، كل شيء من خلق الحق -سبحانه، وتعالى!- بنيان يدل على أنه الواحد. ما شرط البنيانية؟ أن يكون الشيء مركبًا من عناصر، لكل عنصر منها استقلاله في نفسه وعلاقته بغيره، لو لم يكن هذا لم يكن الشيء بنيانًا.
مكننا الخليل من ذلك لما مشى في سبيله خطوات، فميّز في الشعر شعر العرب من شعر الأمم، ثم ميّز في شعر العرب شعر الشعراء بعضهم من بعض، ثم ميّز في شعر الشاعر قصائده بعضها من بعض، ثم ميّز في قصيدة الشاعر أبياتها بعضها من بعض، ثم ميّز في أبيات القصيدة أشطارها بعضها من بعض، ثم ميّز في أشطار الأبيات تفاعيلها بعضها من بعض، ثم ميّز في تفاعيل الأشطار أوتادها وأسبابها بعضها من بعض، ثم ميّز في أوتاد التفاعيل وأسبابها حروفها المتحركة والساكنة بعضها من بعض. بهذا مكننا من أن نصف، لأنك إذا أردت أن تصف وجب أن تجزّئ الأجزاء. قرأتُ لناقد من نُقّاد الفن التشكيلي، قوله: إذا أردت أن تنقد لوحة فنية وجب أن تجزئها إلى أجزائها حتى تتكلم عن هذه الأجزاء! أرأيت! هذه هي الفكرة السابقة نفسها، لن تستطيع أن تحلل فتصف أي شيء حتى تكتشف أجزاءه، مكوناته، وقد جرّأنا الخليل في العروض على هذا، ومنه ننطلق إلى النظر إلى العالم كله. إذا طُولبتَ أن تنقد نصًّا، قصةً، مسرحيةً -ها!- مقالًا، أي شيء- وجب أن تكتشف أجزاءه! المقال ما أجزاء المقال يا أستاذ؟ اجتهد، اجتهد، ليس هناك مقال لا يتفصّل على فصول، مستحيل! يا أستاذ هذا تكلُّف! لا، حاول أن تفعل وأن يكون لك في فعلك منطق، وانطلق منه، وانقُد، وستُوفَّق -إن شاء الله!- أنا متأكد! أرأيت! هذا في كل شيء، في كل شيء.
لماذا نحتاج إلى وصف البيت تفاعيل وقافية؟
تلاحظون أن الخطوة الأخيرة من خُطانا تسمى التوصيف! ما سبب هذه الخطوة؟ وما الداعي إليها؟ لو كان كل طالب من طلاب الجامعة يدخل على هيئة خاصة واحدة، لا تتغير ملبسا ومركبا وحركة مثلا- لتميزوا بهيئاتهم الخاصة بعضهم من بعض! ولكنهم يدخلون بهيئات مختلفة، فنحتاج إلى تمييزهم بغير هيئاتهم. كانت البطاقات الشخصية قبل اختراع التصوير تشتمل على وصف الملامح وصفا دقيقا -ربما ضحكنا اليوم منه!- ثم بعد اختراع التصوير جُعلت الصُّور بدل وصف الملامح؟ ولو كان الناس كلهم على ملامح واحدة ما انتُفِع في البطاقات الشخصية بوصف الملامح ثم تصويرها. كذلك هنا، لو لم تتغير التفاعيل والأبيات وكذا وكذا، ما احتجنا إلى الوصف؛ فنحن نصف لنضبط مدى التغيير الذي يصطنعه الشاعر.
ولكن كيف يستبيح الشاعر أن يغيّر من البيت؟
يا أخي، أنت الذي قنَّنْتَ قانونك، وكان يمكنك ألا تُقنِّنه، كان يمكنك أن تعكس فتجعل المغيَّر هو السالم والسالم هو المغيَّر! هذه مسألة إجرائية كما يقولون، يصفون بعض الأعمال -يا جماعة!- بأنها إجرائية؛ ما معنى أن هذا العمل إجرائي؟ أنه خطوة منطقية ضرورية حتى نتحرك، حتى نحرّك العمل فقط، لكن كان يمكننا أن نخطو غيرها. نريد مثلًا أن نصف هذا الفصل، نستطيع أن ندخل من هذا الباب وأن ندخل من ذلك الباب، لكن لا بد أن ندخل من باب، هذا هو. فهذا معنى كلمة الإجراء، إذا صادفتها في الكلام، إذا قيل لك: يا أخي، هذه خطوة إجرائية، فمعنى هذا أنها خطوة منطقية لازمة، لكن كان يمكننا أن نستبدل بها غيرها. المهم أنها لا بد أن تكون؛ كأنها فرض كفاية، نعم؛ هي كفرض الكفاية. وما زال السؤال: كيف يستبيح الشاعر أن يغيّر من البيت؟
أتذكر حينما قلنا: ... يدركه السامع ويرتاح له، وكنا نتكلم عن أن العروض هو تكرار ترتيب مقاطع الأصوات على النحو الذي يدركه السامع ويرتاح له؟ إذا ما اطمأن الشاعر إلى أن السامع يدرك ما يفعله توسّع ووسّع على نفسه حتى يعبّر، لأن الإطار محدود ومشاعره لا تحدّها حدود، كيف تعبّر عن المطلق بالمقيد! البيت مقيد والمشاعر مطلقة، كيف أعبّر بالمقيد عن المطلق! ينبغي أن أبحث لنفسي عن متنفسات؛ فحينما تطمئن إلى أن وزنك قد أدركه السمع وارتاح له، تفعل ما تشاء. وقديمًا ذكر ابن جني في "الخصائص"، أن الشاعر إذا أَمِنَ فَهْمَ معناه لم يبالِ باللفظ، بطش باللفظ! أي اجترأ عليه، ولم يبالِ بتغييره؛ ففعل أشياء غريبة من باب الإدهاش بعدما اطمأن إلى أن المعنى واصل.
كذلك نقول في العروض، إذا اطمأن إلى أن "دن دن ددن= مستفعلن" واصلة، جعلها "ددن ددن= مُتَفْعِلُن"، و"دن دددن= مُسْتَعِلُن"، و"ددددن= مُتَعِلُن"، كل هذا يدركه الناس مع "دن دن ددن= مستفعلن"؛ فلماذا لا ينتهز هذه الفرصة ولا سيما أنه يعبّر بالمقيّد عن المطلق؟ مشاعره مطلقة، أما نظام البيت فمقيّد؛ كيف تتخيّل أن يستوعب المقيّد المطلق! كيف! إنه يحتاج دائما إلى أن يتحرر ما دام ما سينتجه مدركًا مرتاحًا إليه.
ما هذا التغيير الذي يفعله الشاعر؟
هذه أسئلة قديمة وأجوبتي عليها متواضعة، ولهذا تجدونني أتوسع الآن عند الكلام، وربما وجدتم من يتوسع أكثر ويعبّر أفضل! ما هذا التغيير الذي يرتكبه الشاعر في عروضه؟ تستطيعون أن تقسّموا التغيير على قسمين لا ثالث لهما: سهل وصعب، سهل يسير، وصعب عسير، سهل خفيف، وصعب ثقيل، سهل وصعب دائمًا، ولكم أن تعمّموا تسمية القسمين. ونلاحظ أن السهل الخفيف الذي يخف على الناس حتى ربما كان أحسن من عدمه، تغيير يصيب ثواني الأسباب -أي يصيب مواضع معينة من التفعيلة- خفيف، أحيانًا يكون شديد اللطافة. أما الثقيل فتغيير يبطش بكل شيء، فيبدو ثقيلًا جدًّا يوشك أن يُشعر السامع بأنه كَسْر ونَشاز؛ لهذا يسايسه الشاعر.
لا بد للشاعر من أن يُحسن مسايسة التغيير الثقيل؛ فكيف يسايسه؟ بأن يجعله في الأطراف، في أطراف الأبيات والأشطار، لماذا؟ لأن الأطراف مواضع يمكن للشاعر والمتلقي أن يقفا عليها قليلًا؛ فإذا وقفا عليها قليلًا فقد عالجا التغيير الثقيل. وأنا أشبّه هذا دائمًا بشدّ الخيط من البكرة، إذا استقام سهلًا فبها ونعمت، وإذا تعثكل كما تقول العرب -أي دخل بعضه في بعض- فما الحل؟ أن تقطع وتبدأ من جديد، وكذلك ما هنا! إذا ما كان التغيير ثقيلًا سايسه الشاعر بأن يجعله في الأطراف، والأطراف عندنا -يا جماعة- هي الأواخر لا الأوائل، على رغم أن الأوائل أطراف كذلك. عندكم مثلًا في الإملاء يتكلمون عن الهمزة المتطرفة، ما الهمزة المتطرفة؟ التي في أولى الكلمة أم التي في آخرها؟
التي في آخرها.
معروفة؛ وعندكم مثلًا في الصرف حينما يتغيّر كذا إذا كان في الطرف، وحدث كذا، قُلب كذا، كل هذا كلام عن الآخر لا الأول قطعا؛ فالطرف في اللغة الآخِر، على رغم أن الأول طرف أيضا. أين طرفا هذا الفصل مثلا؟ هذا؟ متأكد؟ كلاهما طرف، لكنك في اللغة بلا ريب تبدأ من موضع وتنتهي إلى موضع- البدء طرف، لكنهم لا يخشون هذا الأول، يخشون الآخر الذي ستقف عليه. ها! فهكذا تقف، انظروا كيف يقولون؟ تقف عليه، فهو موضع وقف، هذا الوقف كفيل بأن يعالج المشكلة من التغيير الثقيل؛ إذا وقفت ثم بدأت مرة أخرى فقد عالجت التغيير الثقيل؛ لهذا ستجدون التغييرات الثقيلة في الأطراف؛ في أواخر الأشطار والأبيات.
يمكنني أن أفصّل من شأن الأسباب والأوتاد وهي أجزاء التفعيلة، والاسمان كما ترون، من واقع حياة البدوي: الأسباب جمع سبب، والسبب الحبل. والأوتاد جمع وتد، والوتد العود المركوز في الأرض ليربط به حبل الخيمة. مصطلحات من حياة البدوي؛ فهذا العلم عربي من أصله فمصطلحاته عربية- ولكنني أكتفي بهذا، وأؤخّر بقية التفصيلات إلى وقتها. تلك كانت أسئلة التقديم لعلم العروض، وهذه أجوبة طرحناها على سبيل الجواز لا على سبيل الوجوب؛ فمن شاء فليقبلها، ومن شاء فليبحث عن أجوبة أحسن منها، بل ربما سمع منى في المجالس القادمة ما يفضلها، إن شاء الله، تعالى!
بحر المتقارب
الآن اسمحوا لي أن أنتقل إلى نمطنا الوزني الأول، من خلال هذه القصيدة التي نظمها عبد الله البردّوني الشاعر اليمني الكفيف المتوفى سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف الميلادية (١٩٩٩). شاعر يمني كبير جدًّا، طُبع ديوانه في مجلدين كبيرين، وهما متاحان مجانًا على الشبكة، بدلًا من أن تشتريهما بعشرين ريالًا أو ثلاثين تحملهما مجانًا!
وقد لقيت هذا الرجل كفاحا، لقيته سنة سبع وثمانين، قبل أن تُولدوا بسنين طويلة قطعا- لقيته بمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي اختتم أيامه أمس. ذهبت إليه وكنت أعرفه -كنا قد درسنا بعض شعره، على صديقه أستاذنا الدكتور طاهر مكي- وسلمت عليه: أنا تلميذ الطاهر مكي. قال: حيّاك الله، حيّاك الله! ولم يكن يسافر إلا بمساعد يعينه على الحركة؛ لم يكن يستطيع أن يتحرك وحده.
انظروا إلى كلامه الجميل في قصيدته "مغنٍّ تحت السكاكين"!
مُغَنٍّ تَحْتَ السَّكَاكِينِ
بِعَيْنَيْهِ حُلْمُ الصَّبَايَا وَفِي حَنَايَاهُ مَقْبَرَةٌ مُسْتَرِيحَةْ
لِنَيْسَانَ يَشْدُو وَفِي صَدْرِهِ شِتَاءٌ عَنِيفٌ طُيُورٌ جَرِيحَةْ
بِلَادٌ تَهُمُّ بِمِيلَادِهَا بِلَادٌ تَمُوتُ وَتَمْشِي ذَبِيحَةْ
بِلَادَانِ دَاخِلَهُ هَذِهِ جَنِينٌ وَهَذِي عَجُوزٌ طَرِيحَةْ
وَآتٍ إِلَى مَهْدِهِ يَشْرَئِبُّ وَمَاضٍ يَئِنُّ كَثَكْلَى كَسِيحَةْ
زَمَانَانِ دَاخِلَهُ يَغْتَلِي دُجًى كَالْأَفَاعِي وَتَنْدَى صَبِيحَةْ
وَرَغْمَ صَرِيرِ السَّكَاكِينِ فِيهِ يُغَنِّي يُغَنِّي وَيَنْسَى النَّصِيحَةْ
فَتَخْضَرُّ عَافِيَةُ الْفَنِّ فِيهِ وَأَوْجَاعُهُ وَحْدَهُنَّ الصَّحِيحَةْ
أَيَا شَمْعَةَ الْعُمْرِ ذُوبي يُلِحُّ فَتَسْخُو وَتُومِي أَأَبْدُو شَحِيحَةْ
فَيُولَدُ فِي قَلْبِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَحْمِلُ فِي شَفَتَيْهِ ضَرِيحَهْ
يُوَالِي فَيَرْفُضُ نِصْفَ الْوَلَاءِ وَيُبْدِي الْعَدَاوَاتِ جَلْوَى صَرِيحَةْ
لَهُ وَجْهُهُ الْفَرْدُ لَا يَرْتَدِي وُجُوهًا تُغَطِّي الْوُجُوهَ الْقَبِيحَةْ
يُعَرِّي فَضَائِحَ هَذَا الزَّمَانِ وَيَعْرَى فَيَبْدُو كَأَنْقَى فَضِيحَةْ
تَرَى وَجْهَهَا الشَّمْسُ فِيهِ كَمَا تَرَى وَجْهَهَا فِي الْمَرَايَا الْمَلِيحَةْ
الله الله الله على هذا الكلام السهل! ومع هذا نغريكم بحسن الأداء حتى نوفّي ضابطنا الأول، أساسنا الأول "ضبط النطق"، لإغرائكم بالقراءة: من قرأ قراءة لا خطأ فيها، لا خطأ، لا خطأ- أعطيته خمس درجات ولا أبالي!
لكن قبل هذا.. قبل هذا نأخذ الحضور لكي لا تستهينوا به.
فيصل!
نعم.
أصيلة علي!
نعم.
عمر!
نعم.
حنين!
نعم.
أنوار!
نعم.
مهلّب!
نعم.
مروة!
نعم.
منى!
نعم.
منى!
رحمة عبد الله!
نعم.
أمل سيف!
نعم.
ميسون سعيد!
نعم.
ابتسام علي!
نعم.
سليمة علي!
مريم عبد الله!
نعم.
نورة مبارك!
نعم.
نورة سالم!
نعم.
بدرية علي!
نعم.
مسعود!
حاضر.
سالمة!
نعم.
كاذية!
نعم.
لميس!
نعم.
راية!
نعم.
أزهار!
نعم.
حنان!
نعم.
مسعد!
نعم.
مروان!
موجود.
أماني!
نعم.
ذكرى!
نعم.
خديجة!
نعم.
انتصار!
نعم.
هاجر!
نعم.
أصيلة محمد!
شفاء!
نعم.
نوف!
نعم.
مناهل!
نعم.
أحمد!
نعم.
غياب واحد هيّن، لا بأس. ها! من يقرأ ولا يخطئ، بخمس درجات، بخمس درجات، من غير خطأ لا صغير ولا كبير، ولا عظيم ولا حقير، مَن، مَن، مَن؟ لكن بشرط إذا أخطأ خطأ واحدًا طردناه، طردناه من هنا، ها! مَن، مَن؟ لا أحد، إذا أخطأتِ خطأ واحدًا طردناكِ فورًا، فورًا، ها! ما اسمك؟
أصلية.
والعائلة؟
الكلبانية.
منكم سالم الكلباني! طيب، يا أصيلة، نقدّر لكِ هذه الجرأة، يبدو أنها تحمست بذكر سالم الكلباني؛ وهو شاعر قوي جريء جدًّا، واسع الحفظ، طريف! تفضلي، يا أصيلة، اسمعوا، اسمعوا، اسمعوا، وتسقّطوا الأخطاء!
بِعَيْنَيْهِ (...)
لنِيسان
خطأ!
لنَيسان يَشْدُو وَفِي صَدْرِهِ
لا، غلط! برا، برا! انتهى، شَرَطْنا.
لنَيسان
قلتِ لنِيسان.
لنَيسان.
أخطأتِ، يا أصيلة، خطأ، برا، مسكينة؛ لن تستطيعي أن تسمعي هذا من أي أحد في العالم، هذا الكلام الذي نقوله هنا لا يقوله أي أحد في أي مكان، مع السلامة! شرطت على نفسك! "الشَّرْطُ أَمْلَكُ، عَلَيْكَ أَمْ لَكَ"! سبحان الله؛ ما زالت جالسة! قد اتفقنا، تظن أنني أمزح! طيب، نحذف منها خمس درجات؟
لا!
أصيلة الكلبانية، ناقص خمس درجات. ها! مَن يُحب؟
أنا.
مَن؟
أنا.
ما هذه الجرأة! ها! مَن؟ ذكريني! مريم؟
أمل.
ما هذه الجرأة يا أمل! طرد أو خصم! إما، وإما، البحر من أمامك، والعدو... البحر من خلفك، والعدو من أمامك، تفضلي!
بِعَيْنَيْهِ (...)
وَرُغْمَ صَرِيرِ السَّكَاكِينِ
ها!
وَرَغْمَ
بس حركة!
ناقص خمس درجات أو الطرد! اختاري.
الطرد.
إما القتل أو الذبح، القتل أو الذبح! وما الفرق؟ ها! أمل! إما حَرَق، وإما شَرَق!
أمل ضد الاثنين.
أمل! ها! جالسة!
بطلع برا!
ناقص خمسة، ها، اختاري! ناقص؟
لا لا.
ها! مَن؟
أنا.
عبد الرحمن؟ لا يجوز؛ أنت ضيفنا، لا يجوز أن نطردك! ها، متأكدة، ما اسمك؟
رحمة.
رحمة، إمّا، وإمّا! ها! تفضلي! لماذا أفعل هذا يا جماعة؟ لماذا أفعل هذا الذي أفعله الآن؟ لكي أزيدكم حرصًا على ضبط النطق، هذه عقيدة، عقيدة، لا تراجع ولا استسلام، منتهى الإتقان، منتهى الإتقان، لأن كل ما يأتي مبني عليه؛ فإذا استخففت بهذا ضاع من بين يديك. ها! شكرًا أمل، بارك الله فيكِ! طبعًا هي بِتِلْعَنَّا الآن، لكن ولا يهمها، كله هيّن في سبيل ما نريد!
لكن في اللقاء السابق أدّت بنت اسمها شروق من المرة الأولى، ولم تخطئ، لم تخطئ؛ ففازت من المرة الأولى، ولم أكن أتخيل أصلا، لأنها يبدو عليها أنها مهملة، وأنها مترفة وليست من أهل العلم، فجأة، على العكس! هذا أهم ما في الموقف، أنها على العكس أصابت تمامًا، ولم تخطئ!
طيب، اسمعوا -ها!- رحمة، اسمعوا، ستخرج بعد قليل، إن شاء الله!
بِعَيْنَيْهِ (...)
فَتَخْضَرُّ عَافِيَةَ الْفَنِّ
برا، برا، يا مسكينة!
ها، اختاري!
دكتور، ما هو!
اختااااري: برا، أو ناقص خمسة!
دكتور أنا هطلع!
برا، أو ناقص خمسة؟ مع السلامة. شوفي أصيلة المسكينة خافت شافت الموضوع جدّ قالت لا أنا بطلع أحسن، خمس درجات ممكن تخرج الميّت من الحي، لا الحي من الميّت! يلا! ها! طيب! الآن بعد أن يئسنا...
ما يئسنا!
بعد أن يئسنا من التحدي...
ما يئسنا!
يئسنا.
لم نيأس!
لا، يئسنا! سمعناه أكثر من مرة، الثالثة ثابتة، سمعنا ثلاث مرات، والثالثة ثابتة -كما يقولون-، الآن نستمع لأي أحد، ربما كان أفضل من المتوقع مثلًا، نستمع.. نستمع.. نستمع من مسعود! تفضل! مسعود ليس أي أحد قطعا، هو عزيز لدينا، لكنه الآن خارج التحدي! هه، تفضل، اسمعوا، اسمعوا، اسمعوا ها السَّمْعَة!
مُغَنٍّ تَحْتَ السَّكَاكِينِ للبردّوني
بِعَيْنَيْهِ حُلْمُ الصَّبَايَا (...)
فَتَخْضَرُّ عَافِيَةُ الْفَنِّ فِيهِ وَأَوْجَاعَهُ
ها!
فَتَخْضَرُّ عَافِيَةُ الْفَنِّ فِيهِ وَأَوْجَاعُهُ وَحْدَهُنَّ الصَّحِيحَةْ
(...)كَمَا تَرَى وَجْهَهَا فِي الْمَرَايَا الْمَلِيحَةْ
أحسنت! بارك الله فيك! ترى وجهها الشمس فيه لا العكس، المنتظَر أن الناس يعرضون أنفسهم على الشمس، لا، هذا تعرض الشمسُ نفسَها عليه، كما كان سيدنا عمر يقف أمام حذيفة: ها! كيف تراني؟ منافقًا تراني، أم مخلصًا؟ فقد كان أوتي الفراسة، أوتي هذه الموهبة، فكان سيدنا عمر يعرض نفسه عليه: كيف تراني؟ وكذلك كانت لسيدنا عثمان فراسة يعرف بها البرَّ من الفاجر، رضي الله عنهم أجمعين! فانظروا إلى الشمس تعرض نفسها عليه، وله الحق لأنه مخلص؛ إذا أراد أن يتكلم عن عيوب أحد تكلم عن عيوب نفسه أولًا: يا جماعة، أنا أخطأت في كذا وكذا، وقد لاحظت عليكم أنكم أخطأتم في كذا وكذا؛ يبدأ بفضح نفسه! مَن هذا؟ أين تجد هذا؟ في الجنة -إن شاء الله- لا ريب ألّا خطأ في الجنة، لا شيء غير النعيم فقط، قصدت مستحِقَّ الجنة. واضح؟ إذا أحببت أن أتكلم عن هذا المعنى لم تكفِني الكتب، وفي المحاضرة السابقة لم أترك لنفسي فرصة نقد النص، فلعلي أعالج ذلك اللقاء القادم! دعوني الآن أفعل شيئًا آخر بعد أن ارتحنا إلى الأساس الأول، واطمأننا!
ها! ضبطنا النص في اللغة ضبطًا تامًّا، وتحدّينا، وفعلنا ما رأيتم رأي العين، لنبني الآن على هذا، سنختار للتخريج كما فعلنا في بطاقة التخريج، بيتين من هذه القصيدة نطمئن بتخريجهما إلى تصويرهما طبيعة القصيدة، سنختار المطلع لأهميته، وبيتًا من الخلال نحسّ أنه يطمئننا من غير خداع، لأن الأبيات الثانية والثالثة والرابع تجري مجرى الأول حتى إذا بدأ الخامس خالفهم، أنا أعرف، هذا عملي! وسيكون عملكم فيما بعد.
أستطيع أن أختاره أو أختار التاسع، ها! ويمكنني أن أختار العاشر، سنختار العاشر إذن، في المحاضرة السابقة اخترت الخامس، سأختار معكم العاشر مع المطلع الذي هو شعار القصيدة، سنكتب هذين البيتين على السبورة كذلك كتابة لا خطأ فيها، كتابة تعرض علمنا، تدل على علمنا، بلا خطأ، لا إملائي ولا تشكيلي.
بسم الله، ها، ماذا يقول؟
بعينيه، بعينيهِ... حلم الصبايا، بعينيه حلم الصبايا وفي... حناياه... مقبرة... مستريحة
ها، والعاشر؟
فيولد...
ها، ما العاشر؟
فيولد...
فيولد، فيولد في قلبهِ... كل يومٍ -ها!- ويحمل...
في شفتيه...
في شفتيه ضريحة
كتبنا وأحسنّا الكتابة؟ نشكّل؛ عسى أن نحسن التشكيل كما أحسنّا الكتابة، وشعارنا "التَّشْكِيلُ التَّامُّ أَوِ الْمَوْتُ الزُّؤَامُ"! بِعَيْنَيْهِ حُلْمُ الصَّ... انظروا كيف أشكّل! أنا أنطق في وقت التشكيل كي لا أخطئ، لأن بعضكم يُرحِّل، يشكّل أي تشكيلٍ، يرحّل، يكتب ما يستحق هذا على هذا وذاك، يسمون هذا ترحيل الحركات، ترحيل الحركات.
بِعَيْنَيْهِ حُلْمُ الصَّبَايَا وَفِي حَنَايَاهُ مَقْبَرَةٌ مُسْتَرِيحَةْ
فَيُولَدُ فِي قَلْبِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَحْمِلُ فِي شَفَتَيْهِ ضَرِيحَهْ
تلاحظون أنني كتبت لهذه التاء نقطتين، وربما خطر لبعضكم كما خطر لغيركم ألّا يكتبوهما، يقولون: يا أخي، تنطقها هاءً "مستريحه"؛ فهلا حذفت النقطتين! وهذا ما كنت أفعله في مرحلة سابقة، لكن لم أعد الآن أفعله، لماذا؟ لأنني رأيت أن وضع النقطتين على أية حال، يميّز مثل "ضريحه"، من مثل "مستريحة"؛ فالهاء في "ضريحه" ضمير، والهاء في مستريحة"، منقلبة عن تاء. هذه فائدة لكنها ثانية؛ فأما الفائدة الأولى أو الداعي الأول فأنني اكتشفت أنني أكتب الشعر على طريقة كتابة عموم الكلام -إذ لم نستعمل للشعر إملاءً خاصًّا- فلماذا لا أفعل هنا؟ ألا نكتب "في قلبهِ"، هكذا مثلًا على رغم أن كسرة الهاء ممدودة، أكتبها في الشعر كما أكتبها في النثر "في قلبه"، ولا أكتب لها ياءً مثلًا؛ فلماذا آتي إلى هنا فأغيّر! فرجَعت -كل هذا كنت أكتبه أصلًا كما في ملفاتي القديمة، وربما عثرتم على بعضها عند إخوانكم، من غير نقطتين تمثيلا لنطق الهاء- فصحّحت، لأنني وجدتني أناقض نفسي، أستعمل طريقة الكتابة النثرية في كتابة سائر أحوال الشعر، أستعمل الإملاء نفسه، فلماذا أخالفه هنا؟ ومع هذه الفائدة الأولى تلك الفائدة الثانية التي قدمتها لكم؛ فصرت أميِّز بوضع النقطتين هنا، هذا من ذاك، لأنني لا أنطقها في العادة "مستريحهُ"، لا، بل "مستريحةً"، أما "ضريحهُ"، فأقف عليها "ضريحهْ"، وهكذا.
طيب، كتبنا، فأحسنّا الكتابة، وشكّلنا، فأحسنّا التشكيل بحيث لا خطأ، لا خطأ، لأننا نعبّر بهذا للقارئ عن عِلمنا، وإذا أخطأنا ألبسنا عليه فشككناه في علم نفسه. ومن العجائب أن بعض الممتازين منكم يجهلون بعض قواعد الإملاء -ها!- ومنهم مَن صار الآن أستاذًا جامعيًّا، يخطئ في الإملاء، يخطئ في الإملاء وهو أستاذ جامعي، ولا ريب في أنه إذا كتب فهمه الناس خطأ، قالوا: هذا جاهل، هذا جاهل، وهو أصلا عالِم، هذا مثل أي عالِم لا يُحسن التعبير عن نفسه، إذا ما وقف في المحاضرة -وهو عالِم كبير- لم يُحسن العبارة، هذا موجود، عندنا ناس علماء لا يحسنون المحاضرة والعكس، عندنا محاضرون ليس عندهم علم كثير، لكن عندنا ناس يجمعون بين هذا وذاك، وكان بعض أساتذتنا يسميهم الأساتذة الكاملي الأستاذية، يحسنون البحث والمحاضرة جميعا معا -ها!- هكذا كان يقول: لدينا في هذه الكلية ستة أساتذة كاملو الأستاذية وأنا منهم، يذكر نفسه في البَيْن وله الحق، ينبغي للعالِم أن يعرف نفسه! أتدرون مَن هذا؟ ادخلوا الشبكة، وابحثوا عن أستاذنا الدكتور محمد فتوح أحمد، نجم كبير في سماء النقد والأدب والشعر، منذ كان طالبًا صغيرًا إلى الآن! طيب! كتبنا فأحسنّا الكتابة، وشكّلنا فأحسنّا التشكيل بحيث لا خطأ، فالآن نلحّن، الآن أعلمكم لحن هذا الوزن العروضي، لأننا سنبني على ضبط اللحن كما بنينا على ضبط اللغة، نبني على أساسين من ضبط اللغة وضبط اللحن، لا كما كنتم في الثانوية أو غيرها تفعلون، لا، كنتم تخطئون، وآن لكم أن تتعلموا الصواب؛ فإن الشعر غناء، ينبغي أن تغنّوه، فإن لم تغنّوه وبقيتم ترسمون الرموز العابثة التي تعلمتموها أولًا وتبنون عليها، فسد الشعر، هكذا انظروا كيف نغني!
بِعَيْنَيْـ ـهِ حُلْمُ الصْـ ـصَبَايَا وَفِي حَنَايَا هُ مَقْبَـ ـرَةٌ مُسْـ ـتَرِيحَةْ
فَيُولَـ ـدُ فِي قَلْـ ـبِهِ كُلْـ ـل يَوْمٍ وَيَحْمِـ ـلُ فِي شَـ ـفَتَيْهِ ضَرِيحَهْ
هكذا! ونحن مختلفون؛ بعضنا أندى من بعض صوتًا، ليكن! لكن مع هذا نحقق هذا، لن يصعب على أي واحد منا -مهما كان صوته بشعًا!- أن يؤدي هذا الأداء الأوليّ الساذج. هكذا، ما الذي فعلناه؟ لحّنّا، لحّنّا ضابطين النطق ضبطًا تامًّا، واستفدنا من هذا في ذاك ومن ذاك في هذا، كيف؟ سترون، سأُنزل ما فعلته الآن، سأقطّع ما قطّعته في التلحين: بِعَيْنَيْـ... هكذا، لو كنت على جهازي -مثلًا- لفصلت بعلامة الفصل، بضربة الفاصلة فصلت، لكنني هنا على السبورة، فماذا أفعل؟ لا حيلة إلا أن أستعمل الخطوط التي كالسكاكين من أعلى إلى أسفل: (...) ـهِ حُلْمُ الصـ (...)، أين أضع هذا الخط؟
بعد الصاد.
لا، ليس بعد الصاد، يا مسكين!
في الصاد.
في الصاد، لأن هذه الصاد المشددة صادان، صاد ساكنة، وصاد مفتوحة، هذا الخط ينبغي أن يكون بينهما، فماذا تفعل؟ ماذا تفعل وقد كتبت هذه الكتابة؟ لا ري في أن هذا المأزق هو الذي التي يحتجون به للكتابة العروضية!
هل سمعتم عن الكتابة العروضية؟
يغيّرون، يكتبون، يعيدون الكتابة، يكتبون بطريقة كأنها أَحْجِبَة؛ كأنها ألغاز، أحاجيب من أحاجيب العارفين والسحرة! ها، لا، لا نحتاج إلى هذا، نحتاج إلى معرفة ما أمامنا فقط بعد ضبط اللغة واللحن، نعرف أن الصاد صادان فنحن نضع الخط في وسط الشدة أعلى الصاد، أعلى الحرف،(...) هُ مَقْبَ، بعد الباء، رَة مُسْـ، ـتَرِيحَة، هكذا، فَيُولَـ، دُ فِي قَلْـ، بِهِ كُلْـ، أي؟
في اللام.
في اللام، أي نكتب شدة، وننزلها من فوق إلى تحت، لأننا سنأخذ اللام الأولى لنختم بها التفعيلة السابقة، والثانية لنبدأ بها اللاحقة- ـلَ يَومِ، وَيَحْمِـ، ـلُ فِي شَـ، ـفَتَيهِ، ضَرِيحَه، هكذا.
سأشرح قطعا، أتكلم كلامًا أوّليًّا، لحّنت، وفي التلحين قطّعت، قطّعت قطعًا، فحين أردت أن أكتب لم أستطع أن أعبّر عن هذا التقطيع إلا بخطوط، بخطوط كأنها سكاكين تقطيع. طيب! أنا حين لحّنت كنت أغني، كنت أعزف وأغني، أعزف، أريد أن أكتب صوت العزف، صوت العصا، عَزِيف العصا كما أقول، أريد أن أكتب عزيف العصا، والعزيف صوت الجن، ها! صوت الجن يُسمى عزيفًا! ما شاء الله! وهل سمعت الجن! تخيل! تخيل! تخيل! "طلعها كأنه رؤوس الشياطين"، هل رأيت الشياطين! تخيّل! تخيّل!
بعينيـ= ددن دن، كيف تكتب؟ أكتب للضربة أي للمتحرك دالًا، ولعدم الضرب أي الساكن نونًا: بِعَيْـ= ددن، نَيْـ= دن، ـهِ حُلْمُ الص= ددن دن، صَبَايَا= ددن دن، وَفِيْ= ددن، حَنَايَا= ددن دن، ـهُ مَقْبَـ= ددن د، ـرَة مُسْـ= ددن دن، ـتَرِيْحَة= ددن دن. فَيُولَـ= ددن د، دُ فِي قَلْـ= ددن دن، بِهِ كُلْـ= ددن دن، ـلَ يَوْمٍ= ددن دن، وَيَحْمِـ= ددن د، لُ فِيْ شَـ= ددن د، ـفَتَيْهِ= ددن د، أو ددن دن، على حسب ما تريد، ضَرِيْحَة= ددن دن.
لم أشرح بعد، أنا أمارس، أعيش، طيب! ما الذي بقي؟ التفعيل، رموز تفاعيل الخليل: بعينيـ= فعولن...
أقدم لكم يا أبنائي -من خلال هذه القصيدة- بحر المتقارب، هنا ينبغي لي أن أذكر هذا؛ حينما كتبت "فعولن"، اضطرتني كتابتها إلى تقديم البحر لكم، ربما قلتم لي: تذكر اسمه أخيرًا! سبحان الله! ندرس بحر المتقارب من غير أن تسميه لنا في أول المحاضرة! أنسيتم ما قلت لكم منذ قليل؟ أهم شيء أن تعرف الكيان، هذا أهم من أن تعرف اسمه؛ من جاء في الاختبار فقال لي: هذه القصيدة من بحر المتقارب. ولم يفعل ما نفعل، صفر، صفر! أما العكس فمن فعل كل هذا وسماه الكامل مثلًا أخذ الممتاز. هذه التسميات لا قيمة لها، ها! لكن عند تمييز الأوائل سأفضّل الذي سماه باسمه على الذي حصل على الدرجة كاملة ولكنه لم يسمِّه باسمه، ها!
طيب! أقدّم لكم بحر المتقارب؛ وهو كما أخرجتْه للخليل دوائره، البيت منه: "فعولن فعولن فعولن فعولن" مرتين، إذن ما البيت من بحر المتقارب؟ "فعولن فعولن فعولن فعولن" مرتين، أي "فعولن" ثماني مرات، لكنّ الخليل يكتفي على دوائره بشطر البيت، لأنه يتمسك بأقل مقدار من الكلام الموزون يقدم الوزن، وأقل مقدار يقدم الوزن شطر البيت؛ لينبهك بعد ما تخرج الشطر من الدائرة على إعادته إذا أردت أن تقدم بيتًا تامًّا؛ فالبيت التام: فعولن فعولن فعولن فعولن مرتين. جميل؟ جميل.
ما "فعولن" هذه؟
تفعيلة، كتلة، مجموعة مقاطع. "فعولن" تتكون عند الخل