نافذة الغرفة السابعة
أدير المفتاح في فتحة الباب العتيق، أغمض عيني لمقاومة صريره العجوز، أمرق عبر الرواق الضيق نصف المضاء إلى فناء أوسع متجاوزا النافورة الصغيرة الهامسة، تهرول أمي تستطلع خطى القادم: « هذا أنت» ترحب من جديد بوقارها المعروف كما لو كانت تبتلع غصة، ما تحسنه أمي أكثر هو أنها تقتصد، تختصر كل شيئ حتى ابتسامتها. لا في انتظار موسم تقطير الورد، حرفة أمي منذ رحيل زوجها، أعني رحيل أبي بطريقة غامضة. ربما هو أسلوبها في تقطير الألم مع الورد، تحرس أمي أزهارها كما لو كانت تعتني بصبية صغار هي في واقع الأمر تملكهم.
في الفناء المفتوح على السماء تستظل جدتي بأغصان دالية هرمة تجاوزت سن اليأس وتعبت من غزل الريح، تتململ وتبتسم في الفراغ. يدها مازالت تلعب بعصاها الظريفة تضرب الأرض بلطف، ترفع رأسها نحو وجهي بعينيها الخضراوين البراقتين، تضحك بصوت عال فيه بحة هي صدأ الأيام الخالية، تمد يدها نحوي: خذيني إلى غرفتك لنعد الجهاز، تومئ أمي برأسها: «خذها ستعاودها النوبة».
أقودها متجاوزا غرفة الاستقبال ثم غرفة أمي وغرفتي، أنظر نحو الغرف المقابلة إلى أن أبلغ الزاوية حيث الغرفة المهجورة، غرفة الهمس والصراخ الليلي والملائكة التي تلتحف البياض. ربما مازلت حتى هذه الدقيقة أعيش كوابيس الغرفة المظلمة، تنبت الأشواك على جسدي كلما التفت نحو بابها المغلق على الدوام كالسر المحرم. تتحسس جدتي حزامها و تحل عقدة المفتاح بخفة: عجيب أمرهذه الجدة التي تعتقد أن كل الناس ابنتها ولا تخطئ مفتاحا منذ سنوات. أقول في نفسي: " ربما هي ليست مريضة ".
ألج الغرفة بقشعريرة الطفولة، القشعريرة ذاتها، تتبعني جدتي ويدي كمشبك صلب بيننا ونقرات عصاها الرتيبة لا تغير الإيقاع، تفوح رائحة عتيقة مزيج من الذكريات والأحزان، تصدمنا، تعطس جدتي عطسات متوالية، توشك مع كل عطسة أن تفقد توازنها، أسارع لفتح النافذة و تمد خطواتها المرتبكة. أجلسها على حافة السرير وأسمع لهاثها وتلاحق أنفاسها وأرى العرق ينز من جبينها، لا أكاد أصدق، هل شفيت جدتي؟ ولا أقوى على مغادرة الغرفة لأسأل أمي بصوت عال: هل شفيت جدتي؟.
تقوم إلى الخزانة تفتح الباب تخرج حقيبة بيضاء مازالت تحتفظ بطقوس العرس، آه يا جدتي، كيف أمكنك إدارة المفتاح في القفل؟ وأنت التي لا تعرفين ما الذي تفعلينه بالملعقة وتضحكين بطفولة. وهاهي ذي تبتسم ابتسامتها الصافية وترفع الغطاءو تضحك بفرح وتشير: انظري ما حضرت لك، خبأته خصيصا لهذه الليلة ليلة عرسك. تلهث، انظري: هذا حرير الذهب وهذا حرير الفضة، هذي قطيفة الهوى، هذا المجبود. تقلب الأقمشة في غبطة غامرة وتلهث: هذا حرير مكة والنيلو المخير جابوه الجنود، تحرك رأسها وتغمض عينيها وتغرق في لحن كئيب:
ـــ الجندي خويا ما تمشيش فا لغرقة
الجندي خويا ما تمشيش فالغرقة
يشوفك القومي ويقتلك بالدرقة
.....................................
وهذا قماش زدام تصفق: ازدم ازدم آزدام... يخشوشن صوتها وتتلاحق أنفاسها، تتمايل تمد يديها وتحرك كتفيها ورأسها في حركة راقصة. هل أضحك أم أبكي؟ :" همّ يضحك وهم يبكي."
من جديد تفتح صندوقا صغيرا: وتفوح رائحة الطيب وزيت الياسمين ومزيج من الروائح الأخرى التي لا يعرف أنفي تصنيفها، تهمهم جدتي ضاحكة: هذا المقياس بو حبة داروه غير بنات الرجال، وهذا اللويز وأبوك رجل. هذا دمه، دمه صار أموالا وقطعا ذهبية... هأ هأ هأ...
كنت أعرف أن أمي استبدلت الذهب بقطع نحاسية صفراء رخيصة، لتلهو بها جدتي كلما عادتها نوبة الطفولة تلك.
تهتف جدتي:
الطيارة الصفرا روحي ما تضربيش
تقلب الصندوق، فتحدث أساورها وخواتمها وسلاسلها جرسا خافتا فوق أرضية البلاط الأحمر المتآكل، تسقط ورقة مطوية، ألتقطها على عجل أخفي السر في قبضة يدي ألتفت إلى النافذة وأقرأ :
جوان 1995
كانت رسالة مقتضبة يعلن فيها كاتبها أن خطيب خالتي يحضر لها مفاجأة، بخط رقيق معوج مثل الأظافر كتب: " انتظريني عند الثالثة وخمسين دقيقة، إن تأخرت بدقيقة واحدة فأنا لا أستحق قلبك الكبير ".
في الموعد المحدد وصلت الهدية في صندوق بني محكم الإقفال، ترقد فيه جثة الدركي الشاب.
الغريب أن خالتي لم تقل شيئا، بقيت كما هي بهيئة العروس، الثوب المطرز ذاته والحناء والماكياج والتسريحة الملوكية الشامخة.
بعض المكاتيب ــ تقول أمي ــ لها قرون وأسنان وتردف " اللي ما كتباش من الفم تطيح "
قرأت خالتي الرسالة ثم طوتها ودخلت الغرفة. قالت: سأرتدي ثوبي ــ تعني ثوب الزفاف ــ ولم تخرج انتظرناها نصف ساعة ثم ساعة، ناديناها و دققنا الباب فلم تحدث استجابة وانتهى بنا الأمر إلى كسره. و حين دخلنا كانت خالتي نائمة على هذا السرير ذي الغطاء الزهري، نائمة فحسب بثوبها الأبيض الأنيق وبحذائها الصغير العالي الكعب، ومروحتها أيضا ترقد إلى جانبها وباقة الأزهارمنثورة فوق البلاط، والرسالة مطوية داخل قبضتها. بوجهها الطفولي وقامتها الرهيفة.يداها الظريفتان مسدلتان كغطاء سلام، كانت ترقد فحسب. إذا كنت سأقول بأن هناك نسخة أصلية عن جدتي فهي خالتي، خالتي إيمان، التي ارتعشت شموعها ليوم واحد ثم انطفأت إلى الأبد. توقف الهمس، سكنت خشخشة الأثواب و تلاشت الأغنيات. وحين عدنا إلى الأرض ولامست أقدامنا التراب، ورجعنا إلى أزمنة الرماد والريح النتنة. وحدها جدتي لم تستطع العودة من العالم المطمئن الذي ولجته، كأنها ظلت تغط في نوم طفولي عميق كما هي في هذه اللحظة .