مواويل القدر
إنها الحلم الجميل
لا إنها الوهم الطويل
بل هي الحلم المستحيل
ومرت سنوات غبراء، كانت خلالها وهماً خالصاً وأحياناً ألما، وانتظر انتظر، وصار حمامة تهدل في الفضاءات الحزينة ولا هم لها إلا أن تطير إليها في أي زمان ومكان، و فجأة ودون سابق إنذار، أعادها القدر وحقق حلمه الجميل.
كالحارس الذي لا يرتضي الهدوء ولا يعرف النوم، كان يحـرس دروبها، يعزف الأشواق لحنا خالدا ، وينثر من ثغر خصيب باقات من الـ «لو» وحيت لا تريه قامتها الفارهة، يرتدي ثوب عشقه العتيد, يدور في كل الفصول المؤلمة ، في الحدائق والفلوات، في مسارات الندامة والنحيب، في سفوح الصباح وبين أضواء القمر، يفتش عن رموش العين عن عطر الزهر، عن نبع الأنوثة عن أرضه وغنائه وسمائه ، عن مواويل القدر، ولكن أين يجدها وهي مثل قطاة متمردة لا تعرف العطش ولا تحن لآهات نايه الطويلة
ويا لها من فراشات، فراشاتها الزاهية التي تفر من دروبه، وتتركه محاصرا بين مضائق الحيرة وتنثر من حوله وفي سمائه عواصف الهوان والضجر.
مع فقدانها يكاد يفقد إحساسه ، وحين تصحو أحلامه النائمة إلى جانبه، يدور حول نفسه، يصرخ من ولهه ومن تعبه:" أواه من هذا الزمن، إلام سأشتاق إلى رائحة عطرها؟ إلام سأسكن في الريح وانتظر؟ متيم أنا حتى الانفصام، فعلام لا تزين دروبنا العتيقة بقامتها ووجهها المغمس بالعسل؟
المسافات شاسعة والزمن بينه وبينها يغطيه الشوق، وهو شاحب كالظلال لا يصيح ولا يثور، وإنما يتلوها حكايته، ويتوق إلى لحظة تبعد عنه الهموم، وآه من زمنه، إنه أرض فسيحة جدا، تغطيها مستنقعات سوداء لا يعيش فيها سوى طيور ملطخة بالطين وتموت موتا بطيئا.
يغافل زمنه زمنا، وآن يحين الأصيل ، يشعل مناراته بحب واشتهاء، يطوف بخيالاته في مدائن الحرير، يكتبها فوق أطراف حنينه، وعلى أوراق الدجى، ويظل ثقيل الخطو في عتم الشهور، يدور وأحيانا يثور، وتجأر خطواته، يمتد حنينه ، ولكنه لا يمل من وجهها النائم في وجدانه.
أحيانا كان يراها ظل حلم في البعيد، ويراها أمامه عارية من كل حلية، فتشتهيها مواويله وهي ترسل مع هديل الأنوثة باقات من القرنفل، ويراها جالسة فوق قرص القمر، بين أعمدة طويلة من الدخان الأخضر، تناديه بلوعة ، فيطير إليها، ولكن سرعان ما يحجب عن عينيه الرؤية ضباب كثيف، ويسقط فوق بيادر الهزائم، أما هي فتندب حظها وتمنح جسدها عويل الهم والغم، ويراها سمكة صغيرة خضراء ، تسـبح في نهر مليء بتماسيح مشحونة بالحقد، وتفاحة حمراء ناضجة فوق طاولته وبين كتبه، يهدهدها وتهدهدهه، يقضمها وتقضمه، يحاورها وتحاوره ولكنها لا تراه، وأحيانا لا يراها بتاتا، ولكن يرى وجوها غريبة، بل مريبة لا توافي بالأمان ، ألسنتها فاسدة، عيونها محيطات الحقد والحسد، وأفواهها مغارات تبوح بالعتمة والغرابة، فيسقط عندئذ في نار العذاب.
يا لصورتها المعلقة على جدران عمره، ورائحة إبطيها الشهية، ورنين ضحكتها التي لا تفارق أذنيه، كم باقات من الورد سيجمعه كي يهزم رائحة إبطيها؟ وتمر السنوات عجافا وهي تسكن أوردة جسده، وفي لحظة غير متوقعة، كان يظنها مستحيلة، شاهدها تقف إلى جواره بكل روعتها، فغابت شموس أحزانه كلها، وأقبل السحاب من هنا وهناك، واخضرّت براعم التشوف والوداد في مسمع روحه ووجدانه، ولم يتمالك نفسه، عبَر محيطات الكلام وشرح لها صدرها.
– آسرني سيد المال ولم أستطع أن أظل جارية من جواريه. قالت له بحرقة حين سألها:
– أين كنتِ كل هذه المدة يا بؤبؤ العين..؟ أين..؟
ثم أضافت وهي تمسح دموعها:
– ولأن الفل لا يلتقي إلا مع الجمال ، حطمت أسوار الجحيم وجئتك، فأنا لست الوهم ولا الألم، وإنما أنا البيت وأنت الدفء، وحيت تكون لي وأكون لك، سيمنحنا القدر مواويله الجميلة.