كباش وأرانب
يجلس على كومة حطب يابس، ويلعب بفنن شجيرة زيتون طري وجدها مقلوعة في الطريق. استدار حولها بحيطة و استدارت عيناه في الاتجاهات الأربع. حاول أن يستعيد سحنات من مروا على هذه الطريق. عيناه المحمرتان كانتا شبه مغمضتين و كان باله مشغولا...
ينظر إلى المساحات الصفراء وإلى كباشه. كانت قرب الغدير ترعى و تشرب. تمنى لو خلق نعجة. سيكون رائعا لو خلق كبشا, فثمن النعاج بئيس مقارنة بالكباش. وبالتأكيد أنها تغني طوال الوقت ولا تضيع ولا تخبئ بين فروتها قارورة شراب رخيص كما يفعل هو, ولا تحتاج إلى مسكن آخر إن انعدمت فلوسها و رفض المختار الخمار أن يسلفها قارورة كما فعل معه في يوم السوق الأخير. الكباش لا تقلق إن انعدمت فلوسها, بل لا حاجة لها بها. يفضل الفلاحون أكل القرع الأخضر, مشويا أو مقليا أو بالمرق, في كل الوجبات. ويشترون العلف حتى تسمن الكباش. ويجعلون عليها حراسا, كما يفعل هو, ويشترطون أن تكون عيونهم لا تنام حتى لا تغدر نومهم مهارة سارق محترف.
الكباش تأكل البرسيم والزرع والحنطة والبر والشعير والفصة والعشب اليابس والطري وما نتأ من خيرات في البحيرة وما تدلى من الشجر.
إن العنزات هي التي ترفع رؤوسها وتأكل ما تدلى من الشجر. هو يعرف ذلك جيدا. وقد خبر هذا الأمر ونتائجه منذ أن كان يحرس قطيع القائد احماد. يطيب له أن يسميه القائد حمار. لم لا وهو الذي لم يكتف بطرده حين بدت له أشجار التين والزيتون منقوبة من جميع الجهات, بل هاجمه بعكازه القديم ولاك سيرته مع جميع الملاكين والفلاحين في مدشر العزارة. القائد حمار لم يسلمه حتى راتبه. حقا أن عيناه انغلقتا لبعض الوقت بعدما أكمل تدخين السيجارة الملفوفة ذلك اليوم الأغبر. أو بالأحرى، لم تكونا مغلقتين تماما, فقد شاهد العنزات وقد اشرأبت أعناقها إلى الأعلى.
لم يشاهدها بأم عينيه، التي سيأكلهما الدود, وهي تجتاح أوراق الأشجار المتدلية وثمارها، لكنه خمن ذلك ولم يمانع. كانت يقظة الراعي فيه قد استكانت بمفعول الحشيش. رأى في عمق عيونها العسلية فرحا كبيرا ولم يمانع. السعادة الحقيقية هي تلك التي نسرقها من متعة خاطفة. وسعادته كانت وستكون مع سعيدة, حبيبة القلب والطيور والكباش.
تخيل حجم فرحه وهي تحمل إليه صباحا في الحقل, قهوة وتينا طريا وكسرة خبز لذيذة, غير هذه التي يحملها في جرابه. فكر أنه راع فقير, يتذوق الأكل الجيد في الأعياد ومناسبات سكان المدشر.خاصة الأعراس. فقط الأعراس. أما الجنائز فتكون موائدها في عطلة, ربما لأن الموت تكون مفاجئة في أغلب الحالات.
سعيدة و سعيد. حتى اسميهما متماثلين. كل شيء في تفاصيل حياتهما مشترك. ليس كل شيء تماما. هي محظوظة قليلا لأنها ترعى قطيع والدها.
يخرج من جيب سترته البالية قنينة بلاستكية خضراء, من وسطها إلى قعرها تدرجات متراصة جعلت السكارى يطلقون عليها الفراكة. يصب بعض النبيذ في كأس بلاستيكي أخضر كذلك. كان قد شذب حواشيه بعدما قطع قنينة الأمس إلى شطرين غير متماثلين. و يشرب جرعة صغيرة. تحوم عينيه في الأجواء و يشرب ثانية و ثالثة ثم يعيد القنينة و الكأس إلى وضعهما السري.
ينظر إلى قطيعه الذي كان قد جثم على قوائمه و شرع في عملية الاجترار...تساءل إن كان الاجترار عملية طبيعية توالي التخمة, أم أنها طريقتها لزجي الوقت. الكباش تفكر كالبشر. و تأكل و تشرب و تتغوط. لكن بشر المدشر لا يجترون سوى الكلمات و سيرة بعضهم البعض, و لا يأكلون إلا القرع الأخضر مقليا أو مشويا أو بالمرق.
هز يديه تباعا حتى يطرد الذباب الآثم الذي استرخى على وجهه و أخرج كسرة الخبز من جرابه, فكر أنه سيمضغها بمهل كما تفعل كباشه.
كانت بعض سنابل القمح مرتخية و قد يبست بذورها أو سقطت. قديما, كانت أمه تصر على جمعها حبة حبة, ليتغذى بها الدجاج و الأرانب. لا تأكل الأرانب إلا الثمار أو ما تقعر من شاي و نعناع في قعر الإبريق. الأرانب كالفئران...تأكل كل شيء تقريبا. لكنها لا تستطيب حبات القمح المنسية و المحروقة بالشمس.
كلما فكر في أمه, أغرقته رغبة الزواج من سعيدة. لديه أحلام كبيرة سيحققها جميعها و تلزمه امرأة تشاركه جمع الثمار و الأحلام. من المستحب لو كانت سعيدة. تلك الصبية التي لا يفارق اللحن صوتها... مع أن جميع الشبان يجمعون على رداءته.
أحيانا يسمع صدى حبليها الصوتيين من أمام منزل أبيها. يخمن أنها تغسل الأواني الفخارية التي تضعها النسوة أمام البهائم أو الدواجن حتى تشرب. و سعيدة تحرص أن تكون المياه باردة و نقية. لذا, لا تخلف موعدها و لا تنسى أن تطلق صوتها..." جمافو علقايد, جمافو عالحاكم..." إلى آخر الأغنية.
تعجبه هاته الأغنية. تذكره بالقائد احماد. و أجرة عشر شهور التي نكرها مرة, و اعترف, مرة أخرى, أمام الملأ أنه لن يكحل بها عينيه. القائد احماد كلب كبير. كم خسر من الثمار التي أتت عليها أفواه العنزات؟. ربما كانت ستأتي عليها أيادي عابري السبيل. وخيرات الله على أرضه لا تحويها عين إنسان!.
سمع نداء بعيدا فأمال الطاقية عن وجهه و جمع عينيه محاولا أن يستبين من يناديه. رأى قامة توفيق الصغيرة تظهر و تختفي بفعل حرارة الشمس, فاستكان إلى قيلولته من جديد.
– يقول أبي أن تورد القطيع و تعود فورا. دجاجتي ولدت بيضتان هذا الصباح.
– حقا؟. لماذا علي أن أعود فورا؟
فرغ الطفل من لهاثه و جلس قربه.
– لقد ولدت بيضتين. ستكون لي دجاجتان في المستقبل.
– ربما ثلاث... أعد الحساب.
انهمك لحظة في عد أصابع يديه. كان يشهق حين يخطئ و يعيد الحساب مرة أخرى..
– ستكون دجاجتان...لدي فقط بيضتان.
– بإضافة الدجاجة الأم, ستصير ثلاث.
– أمي تقول إنها ستذبحها في عاشوراء. دجاجة يمينة ولدت بيضة واحدة...
– الدجاج يبيض يا توفيق. و الأمهات كأمك تلد.
– هل كنت بيضة حين ولدت؟
– كنت طفلا صغيرا...
– و من أين خرجت؟ من أي مكان تخرج الدجاجات بيضها؟. يمينة قالت إن البيض يخرج من المنقار. ليس صحيحا. فقد كانت غاضبة لأن لدجاجتي بيضتان...
– ماذا قال أبوك؟
– لم يقل شيئا. هل أمي كانت دجاجة قبل أن أولد؟
– حين ولدت, كنت خرنقا صغيرا
– و يمينة؟
– كانت خرنقا.
– و أمي؟ هل كانت أرنبا كذلك؟
– تقريبا...
– و أبي؟. عندما أخبرته بشأن دجاجتي, أمرني أن أبلغك أن تورد القطيع و تأتيه في الحال... أمي تقول إن الماء قد نفذ من البيت. لماذا تلف الجرار بالأسمال البالية؟
– كي تبقى باردة و لا تضر المصارين.
– و ماذا تفعل المصارين في المعدة؟
– تمرر الطعام الذي نأكله إلى سائر الأعضاء.
– لم أفهم.
– أترى هذه الجداول التي تخترق الحقول؟
– أجل.
– نحفر الجداول كي تمرر الماء إلى كل النباتات. كذلك تفعل المصارين في جسم الإنسان.
– هل تقوم المصارين بنفس الشيء حين نكون أرانبا؟
– تقريبا...
– و كيف كان أبي حين كان أصغر مني. أرنبا كذلك؟
فكر الراعي, و هو يقود القطيع و يمشي خلفه بمهل, في مهمة جلب الماء من الساقية و الشمس الحارة و رائحة فمه الفاضحة.
– أبوك كان كبشا.
– و هل تتزوج الكباش بالأرانب؟
أسئلة الطفل الصغير مضنية. تجعله يفكر أكثر مما يبغي و ينبغي. لكنه يحرص أن تكون إجاباته صحيحة. أو يحاول ذلك. علاقته مع الأطفال جيدة جدا و ربما مثالية. و هو يحاول أن يكون طيبا معهم. أحيانا, أكثر من اللازم. فإضافة إلى متعة الإنصات إليهم, يجرب صلاحيته كأب لأطفال سعيدة مستقبلا. في المستقبل القريب كذلك.
التفت إلى توفيق. كان يمشي خلفه واضعا يديه في جيوبه الصغيرة. خمن أنه يفكر في أمر ما. الأطفال استثنائيون, لأنهم يحملون كل الأمور على محمل الجد. و يحبون أن يفهموا كل شيء, و يكرهون ألا يفهموا شيئا من أمور الكبار.
– لماذا ولدت دجاجتي بيضتين و دجاجة يمينة بيضة واحدة؟
حار الراعي في الإجابة. يختلف العدد عند النعاج و الأبقار و الكلاب و القطط. بل حتى النساء في بعض الحالات, تلد التوائم.
– إنه أمر الله. حين ستكبر ستفهم كل شيء.
– من هو الله؟
– هو الذي خلقك و خلقني و خلق أباك و أمك و كل الرجال و النساء الذين تراهم في سوق الأحد.
أدرك الراعي حيرة الطفل و تمنى أن تقنعه الإجابة و لكن عبثا..
– لكن...أمي هي التي خلقتني.
– أمك ولدتك و الله خلقك. الدجاج تبيض. الأرانب و الأمهات تلد و الله يخلق كل الكائنات.
– هل كنت خرنقا صغيرا حين خلقني الله, وكان أبي كبشا وأمي أرنبا كبيرا؟.
استحالت عليه الإجابة هذه المرة. ربت على كتفه وحثه على الإسراع. كان يتوقف ويقتلع بعض الأعشاب البرية ويلوكها كي يخفي رائحة النبيذ الرخيص. وككل مرة, عندما بدت له مشارف منزل أبي توفيق واضحة. حمل الصغير بين ذراعه وأمره أن يقبله.
– كيف هي رائحتي ؟
– حامضة. هل كان أبي كبشا و أمي أرنبا حين خلقهما الله؟
اقتلع المزيد من الأعشاب ولاكها دفعة واحدة ثم أكمل المسير. يسبقه القطيع وقدمي توفيق الصغيرتين.
في المساء, كانت بردعة الحمار تحمل براميل ممتلئة بماء الساقية البارد. و كان الراعي يغني و قد لعبت آخر قطرات النبيذ برأسه. قرر أن يشتغل عاما آخر عند أبي توفيق, و يدخر كل فلوسه, ويشتري الشراب مرة واحدة في الشهر, ويواظب على مصاحبة الصبي حتى يطمئن على مستقبله الأبوي. و يتزوج بسعيدة في شعبان القادم.
كانت كل أحلامه على ما يرام. وهو يقطع الوادي ويجفف رجليه بعدئذ. وهو ينغز الحمار بفنن الشجيرة الذي وجده في الصباح الباكر. وهو يغني و يلعن القائد احماد الكلب الذي نكره في أجرة عشر شهور...
كان كل شيء على ما يرام, تقريبا. حتى وصل مشارف المنزل ولاك الأعشاب البرية وتعمد أن يصرخ " هووه" في ظهر الحمار ليسمعه أبو توفيق.
وكان أبو توفيق وأمه ينتظرانه, بصرة ملابسه, عند مدخل الزرب...
" الكبش هو أبوك.."
" الأرنب هي أمك.."