قلوب كبيرة
أبيض أبيض ، كلها ترتدي الأبيض ، الأرض والسماء والأشجار والقرية المطلة على الوادي تزهو بالأبيض ، أبيض .. والجو يزف كل كائن ببشائر الخير وهو أبيض ، الكل يفرح به ، حتى الريح اللعوب التي تبعثر ندف الثلج ويرافقها أنين خافت ترتدي الأبيض ، وحدها امرأة تسكن فوق الجبل الأبيض وترتدي الأسود.
إنها أم قاسم التي لم تنه عقدها الثالث بعد، تجلس في بيتها المستفيض بالزمهرير مع ولديها الجائعين ، اللذين لم يتجاوزا السابعة والخامسة من عمرهما، تهدهد نفسها وتهدهدهما، تدندن لحنا لأغنية حزينة ، وتداوي بدموعها جرحها العميق الغائر في عمقها الأبيض.
على غير توقع ، وفي غفلة من كلب شرس وجائع , يحتمي تحت صــندوق خشبي عتيق خلف الباب ، حط طائر مزركش يتوثب الحب في عينيه فوق النافذة ، انه لا يمكن أن ينسى هذه النافذة لأنه منها اتجه صوب الحرية التي يحبها ، نفض ريشه المبلل عدة مرات فاتجهت العيون صوبه بكل خنوع ، وصفقت له القلوب مع الأكف ، وحين أمعنت أم قاسم النظر فيه جيدا ، تملكتها دهشة لا تزول غير أنها شعرت بسعادة لا توصف فهي تعرفه تماما.
منذ شهر تقريبا، وفي صباح ماطر, فتحت النافذة، فوجدت الطائر ملقى فوق حافتها والدماء تغطي ريشه الجميل ، رأت في عينيه شيئا من الحب وشيئا من الرجاء ، فحملته برفق وقرّبته من المدفأة، مـسحت الدماء عن جسده الصغـير ، وقدمت له قطعة خبز مبلله
بالماء لم تكن تملك غيرها ، وكم كانت فرحتها كبيرة حينما قـبل الطـعام
من يدها ، وعندما تأكدت من أنه استعاد عافيته تماماً ، ساعد ته عـلى الطيران فطار ملوحاً بجناحيه وواعداً إياها بأيام جميلة ليس فيــها بعاد أو سكون .
أرسل نظراته إلى الوجوه الثلاثة ، فشعر بأنهم أهله وخلانه ، وبعد نظرات مليئة بالحب والعطف ، انطلق صوته الجميل يطير سابحاً بين ندف الثلج الكبيرة.
تقدم قاسم من النافذة وتبعته أمه ، ضمته بعينيها وروحها، فتحت النافذة بهدوء ، ابتسمت وأرسلت له عبارات الشوق فتوقف عن الشدو وتمنى أن يرتمي في حضنها ، بدوره تقدم شقيق قاسم باتجاهه فرأى في عينيه عطفا يشبه عطف الأب ، ورأى بين أجفانه بشائر خير وأغان جميلة عذبة ، ابتسم له ورش من حوله ترحيبه الحار ، فاستعد الطائر لأن يطبع قبلة حارة على خده ، لكنه غير رأيه في اللحظة الأخيرة وراح يتطلع إليه بحنان، وحين شاهد آثار البؤس والجوع على وجهه الصغير, انكسرت فرحته
وفارت من أعماقه ملامح حزن دفين ، وحينما لم يقدر على رؤية البؤس على وجوه أحبابه طار باتجاه الوادي الذي يتباهى بزيه الأبيض.
ما أكبر وفاءه وما أجمل قلبه , بعد ساعة ونصف أو أكثر بقليل، عاد برفقته طائران آخران يشبهانه تماما ، وكان قد بحث عنهما طويلا ًحتى وجدهما .
رفرف فوق النافذة من جديد ، ثم نقر الزجاج نقرات ناعمة ، شعرت أم قاسم بحركات خفيفة ، فهي لا تريد أن تغفو أبداً ، إنها دائماً تطرد النعاس كلما جاءها كي لا تغفل ولا تغيب نظراتها عن قاسم وأخيه ، أبعدتهما بهدوء عن ركبتيها ، ألقت بكل ما تحمله من هموم وتعــب على الأرض
واقتربت من النافذة وما إن فتحتها ومن خلفها ولديها حتى زقزق الطائر وكأنه يقول لها شيئا ، ثم وضع ثلاث حبات قمح كان يحملها داخل منقاره المدبب فوق حافة النافذة ، وبسرعة قلده رفيقــاه ، ثم رفرفت الطيور الثلاثة معا وغنت معا لدقائق ثم طارت وهي تلوح بأجنحتها الوردية الغصون وكأنها تقول : انتظرونا فنحن لا نتعب وقلوبنا لونها أبيض .
وقعت عينا المرأة على حبات القمح التسع فاهتزت اندهاشا ، وشعرت بإحساس غريب لم تشعر به طوال حياتها ، بالتأكيد كان إحساساً جميلاً ، حملت حبات القمح ، تطلعت إليها مليا ثم قدمتها لولديها اللذين نظرا إليها بدهشة لا توصف ، وما لبث الثلاثة أن غرقوا في الضحك ولم يتذكروا جوعهم وظلت الدنيا ترتدي الأبيض.