قراءة تحليليّة لرواية «على درب مريم» لنادية حرحش
"على درب مريم" هي رواية تسبر أغوار التّاريخ الّذي لا تحكيه كتب الدّراسات. تجمع بين التّاريخ القديم والمعاصر والأساطير والدّيانات. تكشف عن ويلات النّكبة والتّهجير وعذابات الشّعب الفلسطينيّ. كما تكشف النّقاب عن ثورات "الرّبيع العربيّ" الّذي انقلب خريفًا، وما لحق سورية من دمار في السّنوات الأخيرة على وجه الخصوص. تخترق التّابوات السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة؛ فتدين التّطرّف الدّينيّ وتنادي بالمحبّة الإنسانيّة. كما تدين تابوات الشّرائع وتنتقد التّوجّهات المكبّلة بالموروثات السّلبيّة. ولا تخلو من علم الاجتماع وعلم النّفس والفلسفة. إنّها رواية رمزيّة قد تقرأ بأربع مستويات دلاليّة: نسويّة، فلسطينيّة، عربيّة وإنسانيّة.
هي رواية عن القدس/ المكان بقدر ما هي رواية عن مريم/ المرأة، فتقف الكاتبة على أسوار القدس القديمة وتاريخها. إنّها إعادة بعث للماضي وتوثيق تاريخه. إنّها إدانة التّاريخ وسؤال الحقّ والحقيقة؛ سؤال الماضي في مواجهة الحاضر، والعكس صحيح كذلك. لذا تأتي الرّواية توثيقيّة تسجيليّة تعتمد التّوثيق وإثبات المراجع، فتحمّل كلّ شخصيّة من الشّخصيّات اسم قرية أو مدينة فلسطينيّة تعرّفها الكاتبة في أسفل الصّفحة وتقدّم نبذة عنها، لتؤكّد بهذا أنّ الإنسان الفلسطينيّ يحمل تاريخًا على أكتافه؛ فمثقلٌ هو بتاريخه، وهو نتاج هذا التّاريخ المتراكم، ومحصّلة هذا التّشويه والظّلم. تؤكّد أنّ تاريخ الإنسان الماضي والحاضر هو ما يشكّله ويشكّل أفكاره وتوجّهاته وهويّته؛ منذ أن يولد يحمل إرثًا عظيمًا من التّرسّبات والموروثات، حتّى من اسمه وديانته.
تتناول الرّواية حكايات أربع نساء. كلّ واحدة منهنّ اسمها "مريم". تبلغ الرّواية 404 صفحات، مقسّمة لأربعة فصول أساسيّة. تخصّص الكاتبة كلّ فصل لإحدى المريمات. وتأتي الفصول الأربعة الأولى مرقّمة من واحد إلى أربعة بالتّرتيب، ثمّ يليها فصل قصير جدًّا لا يتعدّى خمس عشرة صفحة معنون بـ " تمار"، وتحته الرّقم صفر. لا أعتبره فصلًا، لأنّه برأيي جزء من الرّابع وحول هذا سأبيّن لاحقًا.
درست المريمات في مدرسة واحدة في القدس قبل عشرين سنة، ثمّ توزّعت دروبهنّ بين القدس ونابلس ورام الله وغزّة وأمريكا. تبدأ الرّواية بانتظار الغد للقاء يجمعهنّ مجدّدًا في القدس للاحتفاء بمئويّة المدرسة. تحكي كلّ مريم حكايتها في فصلها الخاصّ بها. تحكي بضمير المتكلّم وتبوح بمونولوج مباشر بذكرياتها البعيدة والقريبة؛ تاريخ أسرتها وأجدادها وما حلّ بهم بعد النّكبة، أحداث قصّتها في درب آلام عمره عشرون عامًا منذ تركت المدرسة. يضاف إلى ما كان منذ ولادتها، كاشفة عن علاقتها ببقيّة المريمات، متشوّقة للقاء الغد الّذي سيجمعهنّ في الاحتفال. وبعد أن تنتهي مريم الرّابعة من سرد حكايتها في الفصل الرّابع يتحقّق اللّقاء في "الفصل" المعنون بتمار. لكنّه لم يكن لأجل الاحتفاء بالمئويّة، بل يجتمعن في المستشفى حول سرير مريم الأولى بعد إصابتها برصاص جنديّ إسرائيليّ، حيث تقتل تمار في الحادثة نفسها إثر محاولتها كسر منع التّجوّل والإصرار على دخول المعبر إلى القدس. ثمّ تخرج المريمات لتوديع تمار إلى مثواها الأخير في المقبرة المطلّة على كنيسة مريم المجدليّة. وتنهي الكاتبة روايتها بنشيد من فردوس الكوميديا الإلهيّة لدانتي. هي إذًا القدس مركز الأحداث؛ فيها اجتمعت المريمات، هناك بدأ لقاؤهنّ، وهناك انتهى كذلك: "كم هي غريبة القدس! بقدر غرابة وجود أربعتنا في مكان واحد، وكأنّ الأسماء كلّها انحصرت في مريم، كالقدس نفسها، كأنّ المدن كلّها تقهقرت في جوف هذه المدينة"(ص185).
تجانس الشّكل والمضمون
"على درب مريم" هي "ملحمة" روائيّة معقّدة التّركيب والمضمون والمبنى. فحاكت الكاتبة حبكة روايتها بشكل متشابك، متين ومحكم. فتجانس الشّكل مع المضمون واستجاب الواحد للآخر بتناغم. ترتكز الرّواية على عدّة تناصّات أساسيّة تشكّل معانيها ومضمونها وأسلوبها ومبناها ورموزها وعتباتها، وأهمّها: "الكوميديا الإلهيّة" لدانتي، "لغز عشتار" لفراس السّوّاح، رواية "صبوات" لهنري ميلر، "طوق الياسمين" لواسيني الأعرج، "لماذا أكتب؟" لجورج أورويل، "المواقف والمخاطبات" للنّفّري، رواية "المنتظرة - سرّ مريم المجدليّة" لكاتلين ماك غوان. تستوجب هذه التّناصّات المكثّفة أن يكون القارئ على قدر كافٍ من الثّقافة والعلم والمعرفة واليقظة كي يدرك عمق هذا التّداخل النّصيّ والعلاقة الحواريّة بين هذه النّصوص المتشابكة، وأغراض توظيفها ودلالاتها. وتتميّز هذه الرّواية، إضافة إلى هذه التّناصّات، بخصوصيّة هندسة عتباتها المحبوكة والمدروسة بذكاء. فتبنى الرّواية من عتبات أو ما يسمّى "المناصّ" حسب النّاقد الفرنسيّ "جيرار جينيت". فمن "فردوس" كوميديا دانتي تجعل الكاتبة لها نصًّا علويًّا يقابل النّصّ السّفليّ/ المتن في كلّ صفحة تقريبًا. حيث يتحوّل نشيد الفردوس/ النّصّ العلويّ إلى نصّ المتن نفسه في نهاية الرّواية. فيشكّل المناصّ نصًّا موازيًا لا يقلّ أهمّيّة عن نصّ الرّواية ومتنها.
بين مريم وأسطورة عشتار
تدافع "على درب مريم" عن حقوق المرأة وتسعى لاستعادة ما سلب منها عبر التّاريخ القديم والمعاصر. تطرح عبر قصص المريمات هموم المرأة الخاصّة والعامّة؛ همومها كامرأة تبحث عن ذاتها في ظلّ عوائق شرسة يحاصرها بها مجتمعها الذّكوريّ السّلطويّ، ثمّ هموم الوطن والإنسان عامّة. ولمّا كان الزّواج في كثير من الأحيان مؤسّسة قامعة للمرأة فإنّ الطّلاق لا يقلّ عنه ظلمًا، بل يمسي وصمة عار تلاحقها. فتدين الكاتبة المجتمع الشّرقيّ الّذي هو أقلّ دعمًا للمرأة المطلّقة. وتنتقد بشدّة الزّواج من امرأة ثانية تحت غطاء الشّرع والدّين، خصوصًا في ظلّ التّعصّب الدّينيّ والإفراط بالتّديّن. ثمّ وجوب رضوخ المرأة الأولى كي تبدو بنظر المجتمع: "المرأة الصّالحة الّتي لا تعترض على أمر الله وشرع الواقع"(ص 92).
تتطرّق الرّواية كذلك إلى قضيّة الأحكام الجائرة الّتي يطلقها المجتمع الذّكوريّ على نسائه. وهذا يوضّح لماذا تناصّت هذه الرّواية مع المريمين: العذراء والمجدليّة. فالمجتمع الذّكوريّ الّذي يحصر المرأة في بوتقة أعرافه وشرائعه يطلق أحكامه ويوزّع "شهادات أخلاقيّة" من شأنها أن تترسّخ في الوعي الجمعيّ حتّى تمسي صيتًا راسخًا أو وصمة يصعب محوها؛ فتصبح "سجنًا" مجازيًّا يحاصر المرأة ويكبتها. إنّ المجتمع الذّكوريّ السّلطويّ المحافظ الّذي يختلط فيه الدّين بالأعراف والموروثات يقوم بهذا التّوزيع الآليّ للنّساء بين مجموعتين: المرأة العذراء الطّاهرة كمريم العذراء، أو اعتبارها "العاهرة الفاسقة" كمريم المجدليّة، على الرّغم من تأكيد براءة المجدليّة وطهارتها من هذه التّهمة في القرن العشرين. هو مجتمع يوزّع النّساء في قوالب وبوتقات. وهذه القوالب هي أحكام. وهذه الأحكام قد تبنى على آراء ذاتيّة ليست موضوعيّة. وقد تكون محكومة بتهم جارفة باطلة دون أدلّة أو شواهد.
وعليه، لم تختر الكاتبة اسم "مريم" لبطلات روايتها عبثًا. فهذا الاسم له إرث تاريخيّ ودلالة دينيّة واجتماعيّة. فتؤكّد الرّواية أنّ كلّ النّساء فيهنّ من مريم. فإمّا فيها من العذراء: الأمّ والحبيبة، المرأة والأمّ الثّكلى. وإمّا من المجدليّة: المرأة الّتي سلب منها صكّ الطّهارة، المظلومة المنكوبة الّتي سارت في درب آلام المسيح مع أمّه العذراء، مسلوبة الحقّ والمتّهمة بالعهر. فإمّا أن تكون المرأة مهمّشة مقهورة مظلومة بجور الأحكام والتّقوّلات، فتُضطرّ إلى رحلة البحث عن صكّ البراءة. وإمّا أن تكون الأمّ أو الحبيبة، فتبكي عذاباتها ومرارة الفقدان. إنّ المرأة هي أكثر من يعاني من القهر والألم والقيد في ظلّ مجتمع ذكوريّ يهيمن عليه الرّجل، وفي ظلال مفاهيم ذكوريّة مستبدّة تجعل الواقع جحيمًا والحياة أقرب إلى مقبرة في ظلال الوجود.
تكرّس الكاتبة روايتها في أعمق دلالاتها حول سؤال البحث عن تحقيق الذّات؛ بحث المرأة عن الحبّ والسّعادة والحرّيّة في ظلّ مجتمع ذكوريّ سلطويّ، ورجل أنانيّ استغلاليّ خائن وعنيف.
فتدفع شخصيّاتها للبحث عن الحبّ كحقّ من حقوقهنّ، لأنّه هو الحبّ ما يمنح المرأة الإحساس بالحياة، قيمتها ووجودها. فهو الحبّ عندها معادل للحرّيّة والحياة. فتدين التّاريخ الذّكوريّ وتكشف عذابات المرأة منذ انهيار "فردوس الأرض" مع سقوط عشتار-الأمّ الكبرى وتحوّل المجتمع الأموميّ إلى مجتمع ذكوريّ أبويّ. فتتناصّ الرّواية مع أسطورة عشتار الإلهة ونزولها إلى العالم السّفليّ للبحث عن حبيبها وبعثه؛ "فمريم العذراء الّتي ظهرت في فلسطين ليست إلّا تجلّيًا للأمّ الكبرى عشتار"(ص7). فمع هذه العتبة ندرك أنّ مريم ليست إلّا عشتار؛ هي تجسيد لعشتار الّتي فقدت حبيبها تمّوز فنزلت إلى العالم السّفليّ للبحث عنه. وهي كذلك مريم العذراء الّتي فقدت ابنها وعاشت لحظات فقدانه المريرة فبكت آلامه.
تعيش المريمات مرارة جحيم الواقع وعذاباته، وتتوق الواحدة منهنّ إلى التّطهّر من ظلماته، وصولًا إلى "فردوسها" حيث تحقيق الذّات، الحبّ، الحرّيّة والسّعادة. تجسّد الكاتبة عشتار في شخصيّة مريم فتمنحها ميزاتها وملامحها، لكنّها لا تبدأ في الفصل الأوّل من العدم، بل من نهاية دورة سابقة. كانت مريم الأولى ابنة نابلس يتيمة الأب، كعشتار قويّة الشّخصيّة، ذات عنفوان ومختارة كأمّها. كانت كعشتار حين وجدت تمّوزها في شخصيّة "جبرين"، ابن العائلة المرموقة. عاشت معه أجمل قصّة حب لمّدة أربع سنوات في الجامعة ثمّ تزوّجا. كان جبرين كلّ أحلامها. لكن، بعد عدّة سنوات تفقد هذا الحبيب حين تكتشف خيانته لها مع مساعدته في العمل وزواجه منها. هنا تنزل مريم إلى العالم السّفليّ وتعترف أنّها بدأت "تعيش في الجحيم"(ص 80)، تتلوّى بمرارة الاغتراب والذّلّ، باحثة عن السّعادة المفقودة. يطلب جبرين الطّلاق لكنّها ترفض بشدّة، تتمسّك به وبعقد الزّواج. وانتقامًا منه تخونه مع قاسم، الموظّف في شركة زوجها والّذي كان مغرمًا بها. تخلع النّقاب وتبتعد عن كلّ ما كان يشكّل حياتها سابقًا. لكنّ تمار صديقتها الواعظة تعيدها إلى عالم التّديّن. فتصبح حياتها بين تمار وقاسم كأنّها تعيش في عالمين متناقضين.
أمّا مريم الثّانية ابنة غزّة فهي أكثرهنّ معاناة. تبدأ الكاتبة من حيث انتهت الأولى، أي من الجحيم، كجحيم دانتي. فتجسّد حياتها أفظع أنواع الجحيم وظلماته. فعلى الرّغم من أنّ والديها كانا على قيد الحياة إلّا أنّها عاشت "كاليتيمة، كالرّحالة، كاللّاجئة". وهي هنا تجسيد لحياة الفلسطينيّين الّذين كُتب عليهم "المنفى واللّجوء والحروب والفقر والكثير من الانتهاكات الإنسانيّة والنّكبة المستمرّة كشعب وأفراد"(ص116). في طفولتها اغتصبها أخوها فعاقبتها والدتها كأنّها هي الجانية، وأدخلتها مدرسة داخليّة في القدس. وفي الأوّل ثانويّ حين علم والدها بخروجها من المدرسة مع صديقتيها إلى البلدة القديمة لشراء عشبة لشفاء الخالة دالية تعاقب كما لو أنّها جلبت العار. وكان الشّرط لرجوعها إلى المدرسة هو قبولها بالخطوبة من ابن عمّها. ويتمّ عقد القران دون علمها فورَ تخرّجها. وقبل حفل الزّفاف يغتصبها خطيبها، فتسرق أحلامها منها، وتصبح بلمح البصر "حلالًا" لشبهِ رجلٍ تكاد لا تعرف عنه إلّا وحشيّته: "أدفع ثمن اغتصابه لي مرّةً، واغتصاب عمري من قبل أهلي الّذين باعوني هكذا عنوة"(ص126). تأكلها نيران جحيم آخر حين تصبح أمًّا لولدين بمتلازمة داون، يعانيان العذاب المرير في المستشفيات حتّى يقتلا إثر قصف على غزّة في إحدى حروبها مع إسرائيل. تسعى إلى الطّلاق وتتوق إلى تحرّرها لكنّها كانت رهينة أخيها؛ فمصيرها كان متعلّقًا بأخيها وزوجته (أخت زوجها)، وطلاقها يعني طلاقه. تبقى معلّقة بزواجٍ افتراضيّ، لم تكن فيه مطلّقة ولا متزوّجة. وتجد نفسها في جحيم أشدّ حين تكتشف أنّ أمّها "سارونا" كانت على علاقة شاذّة مع خالها صميل. تكتشف مريم حقيقة أسرار جحيمها حين عوقبت عقابها الأوّل على جريمة أخيها بحقّها، ثمّ عقابها بتزويجها لزوج أرادته أمّها لها للانتقام من شعورها بخطيئتها، فقدّمتها قربانًا لابنها المفضّل وسمحت بسفاح القربى وتغاضت عن اغتصابات زوج ابنتها وخياناته.
تساعدها مريم الثّالثة الّتي تمكث في أمريكا على إيجاد عمل لها في رام الله، فتنتقل لتعيش هناك. وفي رام الله تتعرّف على "فرعون الغوشي" حيث تصدّق أنّه "إنسانيّ" وأنّه يحبّها، لكنّها تكتشف أنّه كان يستغلّها، فتدرك أنّ الرّجل "الوحش" لم يكن زوجها فحسب، بل هم كثر. تنجح في التّخلّص من زوجها فتخلعه بعد عدّة أعوام لتجد حرّيّتها. وهنا تبدأ حالة من الارتقاء الرّوحيّ والتّطهّر كما لو أنّها في "المطهّر" في كوميديا دانتي، وذلك حين تحصل على شهادتها الجامعيّة وتصبح محاضرة في الجامعة وتتذوّق طعم الحبّ مع تلميذها "أسد"، رغم معارضة والدته لهذه العلاقة لأنّها مطلّقة.
إذا كانت مريم الثّانية قد حرمت من الحبّ وفرض عليها الزّواج دونه فإنّ مريم الثّالثة قد أحبّت دانيال منذ أن كانا صغيرين، ثمّ تزوّجت منه بعد تخرّجها من المدرسة وانتقلت إلى أمريكا معه، ثمّ أنجبت ابنتها كاترين. إلّا أنّها تسقط في الجحيم حين تكتشف شذوذ زوجها الجنسيّ وخيانته لها على سريرهما. تصاب بصدمة عصبيّة حادّة لمدّة ستّة أشهر. تكتشف أنّها خدعت بهذا الحبّ، كعشتار فقدت حبيبها، وكعشتار ستبحث عن حبيبها الحقيقيّ خارج هذا الجحيم. وكي ترتقي خارج هذه الظّلمات تلتحق بكلّيّة الصّحافة، حلمها الأبديّ، فتعمل عند سيمون. أحبّته لكنّ حبّها هذا كان ناقصًا ومحرّمًا، فسيمون متزوّج وأكبر منها بكثير. كما أنّه تعامل معها كما لو أنّه قفصها وهي عصفورته. وهذا يفسّر لماذا كان يناديها بعصفورته! يمثّل سيمون الرّجل الذّكوريّ الأنانيّ الّذي يرفض تفوّق المرأة عليه فيحاصرها في سجنه. ويتجلّى هذا في رفضه أن تكتب مريم رواية. الأمر الّذي يجعلها تبحث عن حبّ مقرون بالحرّيّة، منزوع القضبان وغير مشوّه بذكوريّة متسلّطة: "رجل كامل، لا يحمل شبه إنسان محطّم"(ص 254-255).
تجسّد مريم الثّالثة رحلة البحث عن الحبّ و"الرّجل الكامل" دون شوائب ذكوريّة قامعة. فلم يكن عبثًا أن تتوق إلى التّحرّر من "عقد الحبّ الخاطئ": "كنت أحتاج أن يموت سيمون بداخلي. كنت بحاجة لإعلان الوفاة ودفنه من حياتي". كانت بحاجة إلى هذا الموت كي تتحرّر من سيطرته عليها فتفكّ قيده وتتطهّر منه. علّ موته يبعث حبًّا جديدًا أشدّ نقاء. تسعى إلى تطهير ذاتها منه كي تحقّق ما فعلته عشتار بنزولها إلى العالم السّفليّ؛ النّزول فالتّطهّر فبعث الحياة من جديد ثمّ الصّعود والارتقاء الرّوحيّ. وهذا بحدّ ذاته لا يختلف في حقيقته عن رحلة دانتي في "الجحيم" ثمّ "المطهّر" ثمّ "الفردوس". وهذا يعيدنا كذلك إلى سبب تخصيص الفصل الثّالث لمريم الثّالثة المسيحيّة. فالثّلاثة رمز ثالوث المسيحيّة، وهي البعث والقيامة. يتحقّق تحرّرها منه إذًا حين تحقّق حلمها في كتابة الرّواية ونشرها، ثمّ سفرها إلى سورية لتغطية أخبار الحرب، حيث تتعرّف إلى "جهاد"، الفنّان السّوريّ، فتعيش معه قصّة حبّ ترتقي بروحها من جحيم الأرض إلى نور الفردوس. لكنّ هذا الفردوس لا يكتمل بسبب معارضة أهلها زواجها من جهاد المسلم: "فما تفرّقه بيننا الحروب، وتمزّقه الأوطان يهلكه الدّين"(ص287). لم تحقّق حلمها بالزّواج منه حتّى نهاية فصلها. وتنتهي الرّواية دون أن يعرف القارئ، كما في فصل مريم الثّانية، إذا ما كانت ستتزوّج منه رغم معارضة الأهل أم لا.
وإذا كانت الثّالثة قد اقتنعت بضرورة زوال الدّيانات لأنّها تستغلّ عند الكثيرين للتّفرقة، ولمّا كانت هي العائق أمام حبّها، فإنّ الكاتبة تحقّق مع مريم الرّابعة الكمال المرجوّ حين تجمع فيها كلّ الدّيانات والثّقافات فتزيل هذه التّفرقة: فجدّتها الأولى قبطيّة، والثّانية يهوديّة، وهي الفلسطينيّة المسلمة. وإذا كانت الثّالثة لم تحقّق الزّواج من حبيبها "التّمّوزيّ" فإنّ الرّابعة تحقّقه. فهي الأكثر اكتمالًا وتطوّرًا وتطهّرًا بين كلّ المريمات. كانت أمّها "دالية" طبيبة، "ملاكًا حقيقيًّا" وذات شخصيّة قويّة كعشتار. أخذت الرّابعة تمارس أمومتها بعد وفاة أمّها وهي في مرحلة الثّانويّة، فنجحت في تدبير أمور البيت وقيادته على الرّغم من أنّ والدها حيٌّ يرزق. إذ تتعمّد الكاتبة تهميش دوره لتحقّق أسطورة عشتار، فتجعله بخيلًا غير قادر على إدارة البيت، مقابل تعزيز شخصيّة مريم الرّابعة الّتي بدت كعشتار كذلك. والبخل عاهة ورذيلة كما ورد في كوميديا دانتي.
تتابع الرّابعة درب أمّها وتمارس أمومتها دون أن تكون أمًّا. تعلّمت وعملت طبيبة نفسيّة، فأصبحت امرأة واعية لذاتها وللنّفس البشريّة، مثقّفة، قادرة على التّعامل مع الآخرين، قادرة على تحليل النّفسيّة والبحث في الذّات وإدراك الصّراعات. كانت تدرك كيف تتكيّف مع كلّ الظّروف ودائمة الاستعداد للمصيبة القادمة. فبدت أقرب إلى المثاليّة من كلّ المريمات، وتنجح في تطهير روحها من كلّ الأدران البشريّة وبلوغ حالة من الصّفاء والتّحرّر كما لو أنّها مرّت في جحيم دانتي ثمّ مطهّره وصولًا إلى أعلى سماواته حيث الفردوس. ويتجلّى "الفردوس" وتكتمل ذاتها بتعرّفها على المحامي "فارس" الّذي هو تجسيد لعشق الرّجل في أجمل تجلّياته، فتتذوّق معه طعم الحبّ الفردوسيّ وتتزوّج منه وتحمل بـ "يافة"، لكنّ ابنتها تموت بعد ولادتها فتتجرّع أسى الفقدان. هكذا تتذوّق "فردوس" السّعادة وتبلغها لكنّها لا تحقّقها بمفهومها الكامل المطلق.
وعليه، حتّى نبلغ أعماق الرّواية يجدر بنا أن نعتبر المريمات واحدة. فبقدر ما تختلف وتنفصل وتتميّز الواحدة منهنّ عن الأخرى بقدر ما يمثّلن كلّهنّ معًا صورة متكاملة لمريم واحدة في رحلة حياتها، بكلّ مراحل تطوّرها العشتاريّة، وفي كلّ مراحل "ملحمة الكوميديا الإلهيّة" عند دانتي. هكذا يتّضح كيف نسجت الكاتبة حبكة روايتها بين هذين الكتابين فحاكت أحداث روايتها وبَنَت شخصيّاتها. فتوظّف الكاتبة أسطورة عشتار وتغلّفها بحياة المريمات تحت ستار من الرّموز والإشارات الكثيفة. فتقوم المريمات بتمثيل أسطورة عشتار وتجسيدها بكلّ مراحلها. ويحدث التّطوّر على امتداد فصول الرّواية الأربعة. تمامًا كفصول السّنة وكدورة الحياة في الأسطورة. تمزج هذا مع دانتي في رحلته في الكوميديا الإلهيّة: الجحيم، المطهّر والفردوس. في كلّ فصل تصعد مريم قليلًا عبر سماوات دانتي فتتطهّر وتتزوّد بأسلحة تمكّنها من إعادة صياغة تاريخها كي تخرج من الجحيم الّذي سقطت فيه منذ سقوط عشتار وهيمنة الذّكوريّة القامعة، وكي تصعد إلى فردوسها حيث السّعادة والحبّ والحرّيّة والنّور الإلهيّ. فنجد الرّابعة أكثر المريمات قدرة على بلوغ هذا، وأكثرهنّ تمرّسًا ووعيًا في المشي في درب الآلام.
وبرأيي، تجسّد الكاتبة من خلال المريمات التّحوّل في مكانة المرأة عبر العصور التّاريخيّة، وتدين بشكل خاصّ التّطرّف الدّينيّ وظلمات إرهابه في هذا العصر. فبدأت مع الأولى من عصر كانت للمرأة فيه مكانة مرموقة في مجتمعها، مثقّفة متعلّمة. كانت "مختارة" كعشتار مهيمنة على واقعها، ندًّا للرّجل؛ رجل حبيب يحبّها ويقدّرها. إلّا أنّ التّدهور يبدأ مع تشدّد المجتمع الذّكوريّ حين يبلغ مع مريم الثّانية أقصى درجات جحيمه مع تفاقم التّطرّف الدّينيّ والمغالاة في التّديّن والتّعصّب، فتفقد المرأة مكانتها وتتحوّل إلى سجينة للرّجل، تمسي سلعة في يده، يغتصبها وينتهك حقوقها ويتحكّم بها باسم العادات والشّرع والدّين. أمّا الثّالثة فتوحي بحالتها إلى التّغيير الحاصل مع المرأة في العقود الأخيرة، حيث أخذت تزداد وعيًا لحقوقها، ونجحت في الكثير من الأحيان باستعادة مكانتها وحرّيّتها واستقلالها، رافضة هيمنة الرّجل عليها وتملّكه لها، وصولًا إلى الفصل الرّابع حيث تحقّق الكاتبة مع مريم الرّابعة ما تتوق إلى تحقيقه في أرض الواقع؛ واقع أشبه بالفردوس، تسوده المحبّة، دون نزاعات أو صراعات دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة. واقع فيه الرّجل فارسًا يحبّ المرأة ويقدّرها، والمرأة فيه قد حقّقت وجودها وذاتها وحرّيّتها. إلّا أنّ الكاتبة لا تنجرف بخيالها، بل تدرك أنّ الواقع ليس رومنسيًّا فردوسيًّا إلى هذه الدّرجة، بل هو أقسى من الخيال.
فلا شكّ أنّ المرأة قد حقّقت انتصارات عظيمة واخترقت التّابوات القمعيّة الظّالمة إلّا أنّ هناك تحدّيات وعوائق لا تزال تعرقلها، لا بل ازدادت شراسة وقمعًا في العقود الأخيرة. وحتّى تؤكّد ذلك تميت ابنة الرّابعة لحظة ولادتها فتنقص من "كمال" سعادة الأمّ مريم وتخدش "فردوسها". ويتزامن هذا مع موت "تمار"، تمار الّتي اكتملت مريم الرّابعة بها ومعها. إنّ موت الابنة ثمّ موت تمار هي إشارة إلى النّزول إلى العالمّ السّفليّ من جديد. ممّا يعني أنّ الرّواية تنتهي من حيث بدأت بالضّبط. إذ بدأت مع موت "دالية" أمّ مريم الرّابعة. ودالية هي عشتار. وابنتها مريم الرّابعة ليست إلّا عشتار الّتي أكملت دورة أمّها. إنّها إذًا نهاية تحمل إيحاء بدورة جديدة وبداية جديدة.
وعليه، إذا كانت الرّواية تنتهي بفصل الرّبيع والقيامة والخلاص إلّا أنّها تنتهي بغُصّة عشتاريّة. فإذا كانت الكاتبة لدوافع نسويّة جعلت مولودة الرّابعة بنتًا لتشير إلى الألوهة المؤنّثة ونسلها فقد جعلتها تموت عند الولادة بالضّبط. وهذا إيحاء إلى سقوط عصر المجتمع الأموميّ وألوهة عشتار، وإيمان الكاتبة باستحالة عودته في هذا العصر. وإلّا فلماذا لم يكن الجنين ولدًا ذكرًا؟ كما تؤكّد الكاتبة أنّه على الرّغم من كلّ إنجازات المرأة الّتي حقّقتها إلّا أنّ بطولاتها ناقصة. وإلّا فلماذا تموت ابنتها عند الولادة، وتحديدًا عند بلوغها "الفردوس"؟ أمّا على الصّعيد السّياسيّ فيجسّد فقدانها لابنتها "يافة" إيحاء لفقدان الوطن. وإلّا لماذا لم تختر الكاتبة اسمًا غير "يافة"؟! إنّ "يافة" هي مدينة "يافا" الفلسطينيّة بما يحمله فقدانها من تداعيات وطنيّة وسقوط بالمعنى السّياسيّ. وعليه، في عصر الذّكورة الشّرسة هذا على الصّعيد النّسويّ، وعصر الظّلم وضياع الحقّ ونور العدل على الصّعيد الدّينيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ والفلسطينيّ والعربيّ والإنسانيّ أجمع، لا اكتمال ولا سعادة مطلقة في جحيم الأرض؛ "فالعالم الّذي يسكنه البشر عبارة عن محاولة فاشلة لمحاكاة عالم النّور الحقيقيّ"(ص62).
هكذا، كلّ مريم تكمل الأخرى وتبدأ من حيث انتهت سابقتها. فتكتمل الواحدة بالأخرى لتكمل دورتها حتّى انتهاء الرّواية بفصل الرّبيع، أي تجدّد الحياة. تكمل الواحدة الأخرى تمامًا كما عند دانتي. وتمامًا كما في دورة الحياة وفصول السّنة الّتي لا تتوقّف عن الدّوران، وتمامًا كما في أسطورة الخصب والبعث في أسطورة عشتار. إذًا هنّ المريمات يشكّلن مريم واحدة.
وخلاصة القول: من هي مريم؟ وعمّ تبحث؟ مريم هي كلّ امرأة، بدروب آلامها، في رحلة حياتها على درب المجدليّة والعذراء، وبدمائها النّازفة عبر التّاريخ. هي كلّ امرأة مثقّفة واعية لحقوقها تبحث عن تحقيق ذاتها ووجودها في ظلمات مجتمعها الذّكوريّ المهيمن. منذ بدء الرّواية تدخل كلّ مريم رحلة البحث عن حرّيّتها، الحبّ المتكامل والسّعادة حيث الحبّ غير الأنانيّ مع رجل منزّهٍ عن الذّكوريّة المتسلّطة، رجل متحرّر من كلّ التّشوّهات والموروثات؛ "فالحبّ في قلبٍ وجسد إنسان ليس حرًّا سيبقى منقوصًا"(ص384). هي إذًا رحلة بلوغ الفردوس على الأرض. أمّا على الصّعيد السّياسيّ فمريم هي كلّ فلسطينيّ يبحث عن خلاصه وحرّيّته وتحقيق وجوده. يبحث عن العدل، الحقّ والسّلام. أمّا على الصّعيد الإنسانيّ فهي الإنسان المقهور المظلوم الباحث عن العدل والحرّيّة في جحيم الأرض.
لقد استفادت الكاتبة بالاعتماد على آليّة التّناصّ من توظيف أسطورة عشتار لفراس السّوّاح والكوميديا الإلهيّة لدانتي وتطويعهما هنا في خدمة تشكيل مضمون روايتها، معانيها وحبكتها. ويأتي كلّ هذا لتجسيد حياة تمار كذلك. فمن يقرأ الرّواية دون أن يعير اهتمامًا لشخصيّة "تمار" لن يصل إلى أعماقها وستبقى الدّلالة ناقصة. إنّها برأيي شخصيّة محوريّة لا تقلّ أهمّيّة عن المريمات. فمن هي تمار إذًا؟
تمار والمريمات- بين التّماثل والتّعالق والتّضادّ
تمار من عائلة قديمة من القدس. تعرفها المريمات من أيّام المدرسة. كانت تكبرهنّ بعدّة سنوات. درست في الجامعة الفنون الجميلة وسافرت إلى فرنسا لإكمال دراستها العليا. عاشت هناك قصّة حبّ فردوسيّة مع "برناردو". تكلّل حبّهما بالزّواج لكنّه يموت فجأة. ومع موته تموت روحًا ويظلّ جسدها عالقًا في جحيم الواقع، فتمارس العيش وهي "ميّتة". تعود إلى نابلس وتقبل الزّواج من "أيّوب" الرّجل المتديّن، لكنّها تبقى في حداد لا ينتهي وتصبح حياتها انفصامًا بين حياتين: عالم نفسيّ روحانيّ تعيش فيه في اللّاوعي مع برناردو، وعالم خارجيّ هو الواقع بجحيمه. وبين هذا وذاك تتوق إلى الموت كي تلتقي ببرناردو، إلى أن يتحقّق أخيرًا بقتلها برصاص جنديّ إسرائيليّ عند محاولتها الدّخول إلى القدس. يلتقي القارئ بتمار في الفصل الأوّل حيث تتكشّف له العلاقة الوطيدة الّتي تربطها بمريم الأولى. إذ كانت لها الصّديقة الواعظة والملاك الحارس.
يتجسّد تجانس الشّكل والمضمون كذلك في التّضادّ في مبنى الرّواية بين النّصّ العلويّ والنّصّ السّفليّ، إذ يبدو العلويّ نصّ الأسطورة، النّور، النّجوم والفردوس مقابل السّفليّ: الأرض، الجحيم، الموت والظلّام. وينعكس هذا التّضادّ بشكل بارز في عدّة نقاط مضمونيّة أخرى كذلك. منها ملامح شخصيّة تمار ودلالة اسمها: "تمار يوسف المانويّ"، والمانويّ اسم يدلّ على التّضادّ بنفسه، حيث ترتكز عقيدة المانويّة "على المقابلة بين قوى النّور والظّلام"(ص62). الأمر الّذي يثبت أنّ اختيار الكاتبة لهذا الاسم لم يكن عبثًا، بل هو تجسيد وتمثيل لحياة تمار الّتي كانت تعيش بين عالمين: نور الفردوس وظلام الموت والجحيم. وإذا كان اسم تمار المانويّ يحمل التّضادّ بحروفه فإنّ هذا يتشابه كذلك مع اسم "مريم" الّذي يحمل هذا التّضادّ في إيحائه إلى العذراء أو المجدليّة وفقًا للذّاكرة الجمعيّة الّتي لا تزال تتمسّك به ظلمًا وجورًا. كانت حياة تمار مع برناردو في باريس كأنّها "جنّة خلقها الإنسان"(ص53)، حيث كان برناردو يدعوها ببياتريس خاصّتّه. وبياتريس هي حبيبة دانتي؛ برناردو في الكوميديا الإلهيّة الّتي رافقته الصّعود إلى الفردوس. وكان برناردو، حبيب تمار، يؤكّد لها بأنّها ستلقاه في فردوسهما الجامع في حلقات الكوميديا الإلهيّة مثلما التقى برناردو مع حبيبته بياتريس.
مع موت برناردو تتحوّل حياتها إلى جحيم، وتتحوّل إلى عشتار كالمريمات، فتنزل إلى العالم السّفليّ للبحث عن حبّها المفقود، فتفقد اتّزانها العقليّ و"تبدو كالمجنونة". تعيش حالة مرضيّة بين عالمين تجعلها تذهب إلى مريم الرّابعة، الطّبيبة النّفسيّة في القدس، طلبًا للعلاج. كانت تمار تعيش في حالة تضادّ بين عالمين متناقضين متناحرين: "إنَّ هناك كتابين يشكّلان عالمي"، "أعيش بين كتابين: "المواقف والخطابات" للنّفّري ودانتي(56). كانت حياتها مثالًا لتضادّ النّفّري؛ بين الرّوح والجسد؛ تضادّ متناحر دامٍ بين عالم حسّيّ جسديّ وعالم نفسيّ روحيّ؛ عالمين منفصلين بين وعظ وتديّن ونقاب من جهة، ورسم وفنّ من جهة ثانية. كانت داعية أقرب إلى النّبيّة في عيون تابعيها من النّساء، متفانية تجاه عائلتها. أمّا في مرسمها فمارست شخصيّتها المناقضة. عاشت منفًى خاصًّا بها، وأعادت الحياة لروحها الميّتة بالفنّ. وفي رحلتها نحو الموت تتطهّر من كلّ أدران الدّنيا. والتّطهير لا يكون إلّا بالفنّ والرّسم. فتمرّ بتطهير كعشتار في الأسطورة الّتي تعرّت من كلّ شيء بنزولها إلى العالم السّفليّ. تجعلها الكاتبة تدخل كما عند دانتي إلى المطهّر بعد الجحيم؛ رحلة إعداد وتطهير تمهيدًا للارتقاء الرّوحيّ، حيث تعدّ نفسها للفردوس. وهذا ما تعترف به لمريم الأولى: "منذ رأيتك عرفت أنّ طهارتي بدأت. أعيش حاليًّا في مرحلة الجحيم، أعدّ نفسي إلى الفردوس". "منذ قدومي للعيش هنا كنتُ قد أخذت قرار الموت". "اختبائي هنا في هذا المرسم هو ممارسة لطقوس موتي.. أهيم في هذه الدّنيا في انتظار لحظة الموت"(55- 56). ويتحقّق الموت أخيرًا بقتلها حين تحاول الدّخول إلى القدس. تموت هي وتصاب مريم الأولى في الحادثة نفسها. هكذا حقّقت أمنيتها بالموت، الموت الّذي هو بعث وخلاص ولقاء الحبيب مثلما وعدها برناردو، وكما هو عند دانتي. وهذا يفسّر لماذا اختارت الكاتبة نصًّا علويًّا من فردوس دانتي مقابل المتن الجحيميّ.
كانت تمار بالنّسبة للمريمات النّور الإلهيّ والشّفاء والرّاعية ودرب الخلاص. ومنهنّ اكتسبت هي خلاصها وطهارتها ونورها الذّاتيّ كذلك. ممّا يعني أنّ العلاقة بينهنّ الخمس كانت علاقة متبادلة الأثر والتّأثير، ولم تسر باتّجاه واحد. ارتبط دربهنّ بدربها، سواء بعلاقة مباشرة مع الأولى والرّابعة أو غير مباشرة مع الثّانية والثّالثة. فتبدأ الرّواية حيث تكون تمار هي الشّفاء للأولى، وتنتهي مع الرّابعة حيث تكون مريم هي الشّفاء والنّور لتمار من خلال عملها كطبيبة نفسيّة. كانت الأولى انعكاسًا لتمار، وبالمقابل تجد الرّابعة في حالة تمار انعكاسًا لحالتها هي: "أحلم بتمار وأعيش معها في جزء ما، بعالم فصلته عن العالم الواقعيّ... وبداخلي إيمان أنّ ما يمثّل نصفي الآخر فقد بفقدانها، فأسترجعه بأحلامي في محاولة لأبقى على قيد الحياة أمام العالم المادّيّ. فأراني ألتمس لنفسي العذر في الانشغالِ بحالة تمار. فأنا في الأصل أنشغل في حالتي وفي ألمي الّذي أحاول التّعافي منه خارجيًّا"(379-380). كانت تمار منبعًا اكتسبت منه الرّابعة تطهّرها وتعافيها من أدران العالم وشوائبه وهي تدرس حالتها كطبيبة نفسيّة.
لم تتوقّف علاقة تمار بالمريمات عند هذا الحدّ، بل هناك تعالق وتماثل بينهنّ. إذ تجسّد تمار حالة المريمات معًا. حياتها هي تصوير وتمثيل لحياتهنّ. فينعكس التّطوّر من مريم لأخرى من خلال تمار. فنزول مريم الأولى إلى عالم الجحيم، العالم السّفليّ، كان بموازاة نزول تمار إلى جحيمها. ومنذ أن التقت بالأولى بدأت رحلة تطهّرهما معًا. وبدء صعود تمار وارتقائها كان كذلك بموازاة ارتقاء الثّالثة. وإذا كانت تمار قد عاشت في عالمين متناقضين متناحرين فإنّ مريم الأولى والثّانية قد عاشتا في الجحيم مثلها أيضًا، وكذلك بين عالمين. فالأولى بعد فقدانها لزوجها جبرين: "عاشت في غيبوبة، منعزلة عن الحقيقة، ترتدي السّعادة الزّائفة"، "كأنّني أعيش في عالمين، عالم خياليّ وعالم حسّيّ"(ص 100). هكذا كانت حياة تمار حين رفضت تقبّل فكرة موت برناردو فعاشت في عالمين هي أيضًا. لكنّ حبيبها برناردو كان يأتيها روحًا تاركًا جسده في عالم الموت. أمّا مريم الأولى فقد خانها جبرين "ولم يعد يأتي إلّا بجسد"(90).
يتجسّد التّضادّ في حياة مريم الثّانية تمثيلًا للتّضادّ في حياة تمار. فتقول الثّانية: "اسمي مريم... مريم العذراء كنت عندما اغتصب طفولتي أخي، ومريم المجدليّة صرت عندما اغتصب شبابي زوجي. وبين المريمين عشتُ حياتي"(ص108-109). تمسي حياتها تضادًّا ومتاهة بين متناقضات إلى درجة اغتراب الذّات وسقوطها في الجحيم: "أأنا الظّالمة أم المظلومة؟ القاتلة أم الضّحيّة؟"(ص132). تجسّد مريم الأولى والثّانية تضادًّا جليًّا سلب حرّيّتهما وشوّههما. يستمرّ هذا التّناحر حتّى عند الثّالثة، لكنّها مع نهاية فصلها تتصالح ذاتها مع نفسها وتبلغ السّعادة والسّلام الرّوحيّ تمهيدًا للرّابعة الّتي كان صراعها أقلّ منهنّ جميعًا، حيث عاشت توازنًا واتّزانًا نفسيًّا، وحقّقت حالة من الاكتمال والكمال. ويأتي هذا التّضادّ عند تمار والمريمات تجسيدًا لتضادّ الإلهة عشتار. وهنا يتجلّى التّناصّ بقول عشتار عن نفسها: "أنا البغي وأنا القدّيسة، أنا الزّوجة وأنا العذراء، أنا الأمّ وأنا الابنة"(السّوّاح، 2002: ص 7).
وإذا كانت تمار الرّسّامة قد عاشت حالة التّطهير في مرسمها فهي صورة عن الثّالثة كذلك، تتماثل معها وتتعالق. فالثّالثة تعيش الفنّ والإبداع في الكتابة. لذا لا غرو أن تقارن الكاتبة بين الشّاعر والرّسّام مقتبسة من "الجنس والفزع" لباسكال كنيار(ص49-50). تودّ الكاتبة بهذه المقارنة الرّبط بين إبداع تمار وإبداع مريم الثّالثة. فإذا كانت تمار قد تطهّرت من أدران الجحيم بواسطة الفنّ لتلتقي في مرسمها حبيبها برناردو، وتستعيد الحياة الّتي تحلم بها وترتقي بها إلى نور الفردوس، فكذلك كانت مريم الثّالثة. كانت تشعر في الكتابة أنّها تحيا وتستعيد الحياة الّتي سلبت منها في جحيم ماضيها. إنّ ممارسة الفنّ لكليهما هو فعل التّطهير والتّفريغ. إنّه آليّة علاجيّة لتحرّر الذّات من أدران الجحيم والصّعود نحو نور الصّفاء وفردوسه. فإذا قالت تمار: "أنا خُلقتُ لأرسم"(ص55)، فإنّ مريم الثّالثة كانت الكتابة عنوان وجودها وانعتاقها: "تيّار الكتابة الّذي طالما أردته عنوانًا لوجودي"(ص271)، "كنت أحاول استرداد براءتي"، "الكتابة لأبقى على قيد الحياة، لأحارب الكذب والخوف الّذي أعيشه"، "الكتب هي فعل الإنسان في الموت"(ص 264). تجسّد مريم الثّالثة إذًا البحث عن معنى الوجود والحياة والحرّيّة. فبالكتابة وجدت الحياة مثلما وجدت تمار نبض الحياة بالفنّ فبُعثت من جحيم الموت. وإذا كانت تمار قد رأت بموتها خلاصها فإنّ مريم الثّالثة تجد الخلاص وتحقيق الذّات بالكتابة. فالمرأة تحيا بالكتابة. هكذا كانت الثّالثة هي المقابلة لتمار؛ نزلتا إلى العالم السّفليّ؛ تمار ماتت لتبعث وترتقي إلى الحبيب أمّا الثّالثة فنجت بنجاة روايتها.
وإذا كانت الثّالثة كاتبة فإنّ الرّابعة طبيبة نفسيّة حيث الحكي والبوح آليّة العلاج عندها. وهذا يرتبط ويتعالق مع الثّالثة بمفهوم أنّ الكتابة بوحٌ. والبوح تطهير وتفريغ. كما كانت الرّابعة شغوفة بالقراءة مؤمنة بأهمّيّة دور الرّواية في معالجة الذّات وتطهيرها: "من الممكن للرّواية المعالجة بالذّات، أن تكشف معظم الأمكنة السّرّيّة للحياة، لأنّه من خلالها يمتدّ الوعي الحسّيّ أوّلًا ومثل كلّ شيء بالتّقلّص ثمَّ بالتّدفّق، وبذلك يقوم بعمليّة التّنظيف والإنعاش. فكانت الرّواية وربطها بالعلاج ولا تزال أفضل ما أقوم به في حياتي المهنيّة"(ص363). ولعلّ هذا ما يؤكّد قناعتي بأنّ مريم الرّابعة هي الّتي سردت فصل تمار. وهي الّتي بادرت إلى كتابة هذه الرّواية. وكأنّي بها طلبت من كلّ مريم أن تكتب فصلها وتبوح بحكايتها علاجًا لذاتها المعذّبة، وتحرّرًا من قهرها وغضبها، وتطهيرًا من آلامها وأحزانها حتّى صفاء روحها وارتقائها.
وإذا كانت الكتابة هي فعل الحياة والحرّيّة فالحبّ كذلك هو حياة وحرّيّة. ولذا تبحث كلّ مريم عن حبّ تستحقّه مثلما كانت تمار تبحث عن حبّها المفقود. كانت كصوفيّ في حالة سعيه نحو الحبّ الإلهيّ الفردوسيّ، حيث السّعادة والحرّيّة والوئام بلا نزاع أو تضادّ. ولمّا جعلت الكاتبة مريماتها يقتربن من السّعادة والحبّ رويدًا رويدًا، ورسمت تطوّر الأحداث على شكل حلقات دوائر متلاحقة كما عند دانتي، فأكملت كلّ مريم الأخرى، وبدأت من حيث انتهت السّابقة لها، هكذا اكتملن كذلك بتمار. فكلّ واحدة منهنّ ملأت النّقص في حلقة الأخريات. وكلّ واحدة ارتبطت بتمار وجسّدتها على انفصال بصورة أو بأخرى. وكلّهنّ معًا جسّدن تمار بصورة أو بأخرى. وكلّهنّ الخمس واحدة. وهذا ما سأؤكّده حول رمزيّة الأرقام لاحقًا.
يرتكز إذًا مبنى الرّواية بالأساس على شخصيّة تمار. ففضلًا عن كونها تتماهى معهنّ وتنعكس حالتهنّ بحالتها وحالتها بحالتهنّ ويرتبط مصيرهنّ معًا كانت تمار هي مركز الرّواية، كالنّقطة في الوسْطِ، تمسك بخيوط الحبكة والمريمات يحمن حولها، تجذبهنّ إليها في تشابك قصصهنّ.
فلقد نسجت الكاتبة روايتها كدوائر متلاحقة كما في سماوات دانتي من جهة، وكلوحة "نسيجة مريم" المعلّقة في بيت مريم الثّانية من جهة ثانية، ومثلما ينعكس في خاتم تمار الّذي كانت تلبسه في إصبع يدها من جهة ثالثة. هو الخاتم الّذي أهداها إيّاه برناردو حين كانا في فرنسا بعد أن وجده في اللّوفر، ليضعه في إصبع يدها في لحظة أسطوريّة فردوسيّة(ص65). هذا الخاتم الّذي سيتّضح للقارئ بعد فصلين، أي في الفصل الثّالث، أنّه ملك لمريم الثّالثة وقد سقط منها في اللّوفر، دون أن تعرف أنّه أصبح يطوّق إصبع تمار. كلّ هذا يؤكّد مرّة أخرى تجانس الشّكل والمضمون.
وإذا كانت الرّواية قد بدأت بالتّناصّ مع عشتار ونزولها إلى العالم السّفليّ في الفصل الأوّل والثّاني مع مريم الأولى والثّانية فإنّها تتناصّ كذلك مع فكرة البعث والقيامة منذ الفصل الثّالث حيث تصعد عشتار من العالم السّفليّ وتبعث مع حبيبها. ويتوازى هذا مع رمزيّة قيامة المسيح وصعوده في المسيحيّة. كلّ هذا تَشبِكه الكاتبة مع فردوس دانتي حيث تصعد تمار/بياتريس لتلقى برناردو في سماء الحبّ والنّور. وهذا يوضّح الغرض من بناء الكاتبة لروايتها بين نصّين متوازيين متضادّين، الأعلى علويّ سماويّ فردوسيّ مقتبس من كتاب من فردوس الكوميديا الإلهيّة لدانتي، مقابل السّفليّ الأرضيّ الجحيميّ "المقتبس" من الواقع وحكايات الحياة القاسية.
هكذا كانت تمار شخصيّة تختزل كلّ المريمات. ولقد حقّقت بموتها حلمها وخلاصها بينما تركت الكاتبة قصص المريمات مفتوحة دون أن يعرف القارئ كيف ستنتهي قصّة كلّ واحدة منهنّ. وقد يشير هذا إلى أنّ جحيم المريمات لا يزال واقعًا قائمًا، وهو الواقع الفلسطينيّ، ولعلّه الواقع العربيّ والإنسانيّ أجمع. ذلك على الرّغم من أنّ الكاتبة تتعمّد إنهاء روايتها مع فردوس دانتي. فتنهيها والأنظار موجّهة للأعلى لتبقي بصيصًا من الأمل.
تمار بين عشتار وبياتريس والمجدليّة
كنّا قد ذكرنا أنّ تمار كانت كوسْطِ الخاتَم في يدها، النّقطة المركزيّة منه وحولها النّقاط التّسع، الخاتم الّذي يمثّل سماوات دانتي كما وصفها "سمعان الطّابغيّ" في بداية الرّواية. فمن الطّابغيّ هذا؟ هو رجل مقدسيّ يظهر في الصّفحات الأولى من الرّواية، حيث تعود مريم الأولى بذاكرتها إلى أيّام الدّراسة حين التقت به مع الرّابعة في سوق العطّارين في نهايات أيّام المدرسة عندما كانتا تبحثان عن عشبة لشفاء دالية (أمّ مريم الرّابعة) من مرضها اللّعين. فقد تعثّرت رجل الرّابعة بزجاجة أرجوانيّة أدمتها، فيخرج الطّابغي من دكّانه ويضمّد جرحها ويحدّثهما عن الزّجاجة الّتي لربّما هي قارورة عطر لمريم المجدليّة حسب ظنّه. فيحدّثهما عن المجدليّة ويؤكّد ظلم التّاريخ لها. ثمّ يعطي لكلّ منهما قلادة هديّة. تختلف القلادتان إلّا من نوع الزّجاج وطبقات غريبة بعدّة أحجار كريمة. ثمّ يحدّثهنّ عن كتاب دانتي، فردوسه وجحيمه وترتيب سماواته. ولأنّ كلّ شيء مدروس ولا شيء يكتب عبثًا على القارئ أن يدرك أنّ الطّابغيّ لم يأتِ بفائض من الكلام، ولم توظّفه الكاتبة عبثًا في روايتها، بل إنّه يمسك بمفاتيح رموز الرّواية. فتجعل الكاتبة بذكاء كل ّكلامه عن علم الفلك وسماوات دانتي وأنواع حجارة القلادتين وألوانهما، تجعلها كلّها أحجية وألغازًا غامضة على القارئ فكّها وكشفها ثمّ ربط خيوطها حتّى يدرك العلاقة بين المريمات، وسرّ بناء الرّواية وحبكتها ودلالاتها. بتوظيف شخصيّة الطّابغيّ تجد الكاتبة المنفذ والآليّة لاستحضار المجدليّة وتجسيد تمار لها. مثلما يتأكّد أنّ حديثه عن كوميديا دانتي هو تصوير وتجسيد لحياة تمار والمريمات.
وإذا كانت القلادتان قد اشتملتا على رموز تشبِك المريمات الأربع وتمار الخامسة فإنّ تشابك المصائر بينهنّ الخمس يتكشّف كذلك في حديث الطّابغيّ ولوحة الغلاف وميلاد المريمات والخاتم والألوان. وهذا يؤكّد قولنا إنّ تمار هي مركز الرّواية. فهي الشّمس وحولها المريمات كالكواكب في الدّوائر المتلاحقة. ولأنّ تمار هي المركز فقد جعلت الكاتبة سمعان الطّابغيّ يلتقي بمريم الأولى والرّابعة فقط. فالأولى هي البداية، والرّابعة هي النّهاية، وبالتّالي يتحقّق الاكتمال. وهذا يعيدنا إلى عشتار الّتي قالت: "أنا الأوّل وأنا الآخر". وكلّ هذا يؤكّد تجانس الشّكل مع المضمون مرّة أخرى.
وإذا قلنا تمار هي عشتار في الأسطورة بتناصّها مع كتاب فراس السّوّاح، وإنّها بياتريس بتناصّها مع كوميديا دانتي في النّهاية، فإنّها تمسي المجدليّة الّتي ذكرها الطّابغيّ في حديثه مع المريمين كذلك، حيث تتناصّ الكاتبة مع رواية "سرّ المنتظرة" لكاتلين ماك غوان. وكأنّي بالكاتبة بعد أن أنهت قصّة مريماتها أخذت روايتها وجعلتها تسير على درب مريم المجدليّة فجمعتها بعشتار في أسطورتها وهندستها في كوميديا دانتي، فحاكت حبكتها ونسجتها بنسيج محكم. وعليه، تمار في الرّواية هي تجسيد لمريم المجدليّة. ففي رواية "سرّ المنتظرة" هناك الكثير من الرّموز والعناصر والأفكار الّتي تؤكّد أنّ تمار في رواية "على درب مريم" هي نفسها المجدليّة في "سرّ المنتظرة"، وأنّ الكاتبة تناصّت مع هذه الرّواية بشكل إبداعيّ مميّز. فالشّمس وفينوس والزّهرة والرّاعية هي رموز للمجدليّة. وشعر تمار الأحمر كشعر المجدليّة. ويوم 22/ تمّوز الّذي ولدت فيه تمار هو اليوم الّذي ولدت فيه المجدليّة كذلك. وموت تمار كان بجانب كنيسة المجدليّة، وغيرها الكثير من نقاط التّعالق. فيطرح السّؤال: "لماذا المجدليّة؟ وما غرض هذا التّناصّ؟"
إذا كانت الأمّ عشتار قد خسرت منصبها الألوهيّ منذ بدء الفكر الدّينيّ والعصر النّيوليثيّ وبدء المجتمع الذّكوريّ البطريركيّ فإنّه بدوافع نسويّة تقوم الكاتبة بإعادة تصحيح لهذا التّاريخ، منحازة للمجدليّة كانحياز كاتبة رواية المنتظرة. فتقول الكاتبة على لسان تمار: "المجدليّة كمعظم أبطال التّاريخ من النّساء تمّ إساءة فهمهنّ لأنّ من كتب التّاريخ كان دائمًا رجل"(ص75). كانت المجدليّة أحد أتباع المسيح، لكنّ التّاريخ ظلمها حتّى القرن العشرين. وعلى الرّغم من أنّ الفاتيكان قام بتبرئتها إلّا أنّ الرّأي بأنّ المجدليّة فاجرة ظلّ منتشرًا بين النّاس. وبرأيي، إنّ إعادة بعث المجدليّة وتجسيدها بتمار، ثمّ منحها مركز الرّواية يعني إعادة الاعتبار إليها، وإعادة حقّها بعد التّهميش والتّغييب. فالتّاريخ الّذي سلبها حقّها وهمّشها بدافع السّيطرة الذّكوريّة والدّينيّة والسّياسيّة جعل نادية تثور عليه وتعيد صياغته. فاحتفاء بها تمنحها صكّ الطّهارة والبراءة وتعيد صياغة التّاريخ، تعيد بناء الحقيقة من ركام الأكاذيب وذكورة التّاريخ المستبدّة.
فتوظّف التّناصّ مع رواية المنتظرة دون أن تحاول الاقتراب من تناول مسائل من شأنها التّشكيك بإيمان المسيحيّين أو المسّ بطبيعة المسيح أو علاقته بمريم المجدليّة. فهدف الكاتبة هو الدّفاع عن حقّ المرأة من خلال رمزيّة المجدليّة. اتّخذت منها رمزًا للمرأة المقموعة، مسلوبة الحقّ، المغيّبة والمهمّشة في الوجود. ولا شكّ أنّ فعل الكتابة والفنّ لأجل البقاء على قيد الحياة مثلما انعكس مع مريم الثّالثة وتمار يتأكّد بفعل استحضار المجدليّة في هذه الرّواية، فتسعى الكاتبة لإعادة الاعتبار إليها وتبرئتها بإعادة إحيائها على الورق. الأمر الّذي يؤكّد أنّه في الفنّ، سواء في الرّسم أو الكتابة، يتمّ إعادة بناء الحقيقة والتّاريخ. الفنّ هو فعلُ الحرّيّة. هو أداة لتعزيز الوجود وترسيخ الهويّة والذّات. وهو آليّة للتّطهير من أدران الجحيم وآليّة التّحرّر ومعالجة الذّات. وهو سلاح دفاع وإدانة وهجوم ضدّ كلّ من يسلب الحقّ والحقيقة.
اعترفت تمار لمريم الأولى: "ها أنا أعيش كلّ لحظة لأكفّر عمّا تحمله لنا الأعراف والشّرائع"، فإذا اعتبرت تمار بالنّسبة للمريمات درب الخلاص والملاك الحارس، وإذا عانت خلال دهور من ظلم ذكوريّ فكأنّي بالكاتبة تستحضر المجدليّة بتمار لتكّفر عن هذه الأعراف الذّكوريّة. تكفّر عمّا لحقها من ظلم، وما لحق غيرها من البشر. جاءت بها لتأخذ بأيديهنّ إلى الخلاص والسّعادة، كيف لا وهي الّتي رأت قيامة المسيح؟! تعود بها لتسير في درب آلامه وآلامها (آلام المجدليّة) من أجل أن يتحقّق التّطهير والتّكفير. إنّها تجعلها كالمسيح؛ كالفادي الّذي يموت من أجل بعث حياة جديدة نقيّة لغيره. هي المرأة المقدّسة الّتي تهبّ حياتها لتطهير جحيم المريمات/ النّساء وتحويله إلى فردوس فتجد فيه مريم/المرأة الحبّ والعدل. هي النّور لوعي الذّات وإدراك الهويّة والوجود. فتمار الّتي كانت تحضر للعلاج في القدس عند مريم الرّابعة وقتلت على أبواب القدس كانت منبع إدراك مريم الرّابعة لحقيقة ذاتها وعلاجها وتعافيها من الفقد. وهي هنا المجدليّة الّتي تعود لتدخل التّطهير الّذي دخله المسيح لأجل خلاص البشر وفتح أبواب الفردوس. تعود وتبعث مجدّدًا لتموت مطهّرة منزّهة من كلّ دنس. ويأتي هذا موائمًا للمطهّر في كوميديا دانتي ففردوسه.
بهذا الشّكل ترتقي الكاتبة إلى البعد الإنسانيّ فلا تحصر دلالتها في البعد النّسويّ فحسب. فمريم المجدليّة هي رمز لكلّ امرأة ظلمت، وهي كذلك رمز لكلّ إنسان مقهور مظلوم. وهذا يتأكّد بقولها في النّهاية وبعد مقتل تمار: "سيقالُ عنها على الفور إنّها كانت مختلّة. إلّا أنَّ الحقيقة الّتي لطالما هربت منها أنّها لم تكن مجرّد إنسانة تعيش في هذيان من أجل رجل فقدته. لقد كان بداخلها صراعٌ من أجل أخرى، وآخر. من أجل حياة عاشها أولئك، ولم ينصفوا بها حينها. من أجل مريم الّتي لم تحمل هي اسمها، ولكنّها عاشتها. كم من مريم وعيسى ظلموا على هذه الأرض؟ وكم من روحٍ حلّقت محاولة الخلاص من أجل عدل ما من جسد إلى آخر، عبر هذه الأزمنة المتلاحقة، ومن عالم إلى عالم؟"(ص399). إنّها إذًا تنشد البحث عن العدل والخلاص والحرّيّة من قيود الظّلم والتّهميش. وهي محاولة لتحقيق العدل وبلوغ الفردوس ولو على مستوى الخيال والوهم، وكأنّها تفعل ذلك على الورق في عالم نصّها التّخييليّ المتخيّل إيهامًا بالواقع الّذي تصبو إليه وتتوق إلى تحقيقه يومًا ما.
وإذا ارتبطت مريم المجدليّة بالقدس دينيًّا وتاريخيًّا كارتباطها بالمسيح ومريم العذراء اللّذين ارتبطا بالقدس كذلك، وإذا كانت المجدليّة هي المرأة الّتي ضاع حقّها وطمرت بالوجود فإنّ الكاتبة في البعد السّياسيّ تسعى لإعادة حكاية القدس وتاريخ فلسطين في نصّ روائيّ. مريم المجدليّة هي رمز للقدس وفلسطين الّتي همّشت عن التّاريخ وسلب حقّها في الوجود ونُهبت حرّيّتها؛ هي رمز للشّعب الفلسطينيّ الّذي لا ينفكّ يسير في درب آلامه نازفًا دمعه، لا يزال يعيش في الجحيم، يعيش نكبته ولمّا يبلغ خلاصه: فردوس السّلام، الحرّيّة والعدل.
رواية في رموز وشيفرات
يبرز تجانس الشّكل والمضمون كذلك برمزيّة الأسماء والأرقام والتّواريخ والألوان. فلقد قسّمت الكاتبة روايتها على أربعة فصول كسنة كاملة. هي فصول حياة، نهايات فصول وبدايات أخرى. وهي الموت والبعث في أسطورة عشتار. ويتجلّى كذلك في تواريخ ميلاد المريمات. فالأولى ولدت في كانون أوّل أي الشّتاء، الثّانية في أيلول أي الخريف، الثّالثة والرّابعة ولدتا في آذار أي الرّبيع. أمّا تمار فقد ولدت في تمّوز أي الصّيف. ممّا يؤكّد أنّهنّ يمثّلن دورة الحياة والأسطورة ويؤكّد اكتمال الواحدة بالأخرى.
تبدأ الكاتبة مع الأولى في الشّتاء. والشّتاء ماء. والماء حياة. تكلّلت البداية بحبّ وزواج لكنّ حالها ينقلب مع خيانة زوجها. وهذا تمهيد للخريف في الفصل الثّاني. فالثّاني مع مريم الثّانية أشدّ الفصول جحيمًا، فالخريف يعني السّقوط والعالم السّفليّ وظلماته. والثّانية ستجد الحبّ مع أسد، لكنّه يظلّ خريفيًّا حتّى نهاية الفصل لمعارضة أمّ أسد. وإذا عاشت الأولى والثّانية في الفصلين الأوّل والثّاني في الجحيم في ظلّ الرّجل الخائن المغتصب فإنّنا في الثّالث والرّابع سنبدأ مع بداية الرّبيع، فنجد صورة إيجابيّة للرّجل الحبيب، فينبعث الحبّ المنشود ونبدأ الصّعود نحو السّعادة وتحقيق الذّات. ولهذا تختار الكاتبة اسم "جهاد" حبيبًا للثّالثة، واسم "فارس" حبيبًا للرّابعة. وهي أسماء لا تمتّ بصلة إلى أسماء القرى والمدن المهجّرة الفلسطينيّة بخلاف كلّ الأسماء، وذلك للتّأكيد على طهارتهما من ويلات النّكبة على الصّعيد السّياسيّ. الأمر الّذي يؤكّد كذلك أنّهما لا يحملان إرثًا ذكوريًّا اجتماعيًّا على الصّعيد النّسويّ. كما تمهّد الكاتبة لاسم "فارس" في الفصل الثّاني بأسد؛ فالفارس هو الأسد. والأسد رمز لتمّوز حبيب عشتار. وبرأيي اختارت الكاتبة اسم "فارس" تأثّرًا بقول السّوّاح في كتابة "لغز عشتار": "رجال المجتمع الأموميّ كانوا من أفضل فرسان عصرهم. وأكثر أنفة وفروسيّة من رجال العصر البطريركيّ"(السّوّاح، 2002: ص34).
تخصّص الكاتبة الفصل الثّاني لمريم الثّانية، فالرّقم اثنان رمز للازدواجيّة والتّضادّ. وهذا ما كانت عليه الثّانية حقيقة. وهو نفسه تجسيد لتضادّ عشتار نفسها مثلما أسلفنا، وتجسيد لتمار الّتي مهّدت له منذ الفصل الأوّل. أمّا الفصل الثّالث فيُخصّص لمريم المسيحيّة. والثّلاثة رقم الثّالوث. والقيامة في اليوم الثّالث. وهي الّتي ولدت في الحادي والعشرين من آذار، أي في بداية الرّبيع والبعث. وفي هذا الفصل تجد مريم الحبّ الرّبيعيّ النّابض للحياة. هنا يبدأ وجودها بالاكتمال. ولون الثّلاثة هو الأصفر. والأصفر هو النّور والإبداع. وهي الثّالثة كاتبة. أمّا الرّابعة فتحقّق حالة من الواقع المثاليّ يمزج بين الدّيانات والثّقافات بلا نزاع. وهذا ما تؤكّده رمزيّة الرّقم أربعة، فهو رمز للعدالة والتّوازن. ولونه الأخضر. والأخضر لون الخصوبة والبعث والرّبيع والصّعود.
وفي ميتاقصّ واضح تؤكّد الكاتبة عبر الثّالثة على أهمّيّة الكتابة في هذا الوجود. فالكتابة عند المرأة حياة وعنوان للوجود، وقد نشرت روايتها في آذار، شهر ميلادها، وشهر إعلان القمر وبداية الرّبيع. والقمر رمز لعشتار. وعشتار إلهة الخصوبة والبعث والجمال. والكتابة هي انتصار وبعث وتعزيز وجود. أمّا التّاريخ 22/ آذار فهو تاريخ الانبعاث الأنثويّ. فيه ولدت ابنة الثّالثة "كاترينا" تمهيدًا لمريم الرّابعة الّتي ستولد بهذا التّاريخ، ممّا يؤكّد التّعالق بين الثّالثة والرّابعة. والعدد 22 هو ميلاد المجدليّة حسب رواية المنتظرة. وهذا يعيدنا إلى موت برناردو بـ 22 / آذار، والّذي لم يكن موتًا بقدر ما كان قيامة. وهذا يتواءم مع قيامة المسيح. فبسبب موت برناردو ستنزل تمار/ عشتار إلى العالم السّفليّ لتتطهّر من الجحيم ثمّ تُبعث كبياتريس حيث تلتقي به في الفردوس. وهنا يتحقّق معنى القيامة والبعث. الأمر الّذي يؤكّد أنّ الموت هنا هو بعث لحياة جديدة.
أمّا اللّون الأرجوانيّ، اللّون المفضّل لتمار العشتاريّة، فهو لون الآلهة في الأساطير. أمّا بالنّسبة لتمار المجدليّة، فإنّ الكاتبة تستحضرها لتحتفي بها فتلبسها الأرجوانيّ، لأنّه لون الملوك ورمز للاتّحاد بالله واللّقاء مع المسيح. وهو لون التّكفير في الكنيسة أيضًا. والأرجوانيّ هو مزيج بين الأحمر والأزرق. والأحمر هو رمز للرّقم واحد أي لمريم الأولى، والأزرق كان رمزًا لمريم الرّابعة. وهذان اللّونان كانا لونيّ الحجارة في القلادتين. الأمر الّذي يفسّر تنبّؤ الطّابغيّ وأهمّيّة دوره في حبكة الرّواية. كما يؤكّد تشابك مصير المريمات وتمار إذ اكتملت بهنّ واكتملن بها. لذا يمنح العدد خمسة لتمار، فهو رمز لاكتمال العناصر والحماية، حيث كانت تمار الرّاعية لهنّ ووصفت بالملاك الحارس.
أمّا الغلاف فيهيمن عليه الأسود. يتخلّله أصفر بنسبة أقلّ. والأسود هو الجحيم والظّلام. والأصفر هو النّور والإبداع. لذا لوّن اسم الكاتبة وعنوان الرّواية به. وهو رمز لسماء النّور والحبّ الّتي صعدت إليها تمار. أمّا اللّوحة فهي توائم نسيجة مريم المذكورة في الرّواية، والّتي تكشف عن أربع مريمات بصور نصفيّة. وإذا كانت مريم قد أشارت إلى وضوح الوجوه في اللّوحة فإنّنا نلاحظ هنا تشويه معالم الوجوه، وتلفيعها بالسّواد الّذي يزول تدريجيًّا حين نصل الرّابعة. فاليسرى هي الأولى ونصفها العلويّ مغطّى بالسّواد، وتبدو أقرب إلى جسد في قبر. الثّانية تتكشّف ملامحها قليلًا، والثّالثة يبدو وجهها كالطّير مع أجنحة. وهذا يتواءم مع لقبها العصفورة. وقد يبدو على شكل مثلّث وبهذا يرمز للتّثليث وثالوث المسيحيّة. أمّا الرّابعة فهي الأكثر وضوحًا من بينهنّ جميعًا. وهذا يؤكّد كلّ ما ذكرناه.
ظهرت كلّ مريم كأنّها شقّان. في الشّقّ السّفليّ بدت كأنّها مغلّفة بالبرديّة. والبرديّات مخطوطات نجع حمّادي الغنوصيّة الّتي اشتملت على إنجيل المجدليّة. ممّا يعني أنّ تمار المجدليّة حاضرة في اللّوحة تتماهى مع كلّ مريم كما لو أنّها كَفَن يغطّيها. والكفن دلالة الموت. والموت هنا خلاص وبعث.
أمّا الرّأس فيحيطه لونان أحمر وأصفر. وهذا بخلاف ما كان في النّسيجة، والّتي ظهرت فيها كلّ مريم داخل دائرة تحيط برأسها هالة نورانيّة. الهالة النّورانيّة الدّائريّة تحوّلت هنا إلى شكل خماسيّ يقتحمها اللّون الأحمر والأصفر. الأحمر هو لون النّار والجحيم. لذا ينعكس من الأحمر وجه شيطان. والأصفر نور وفردوس. والجحيم والفردوس هما كوميديا دانتي. والنّور حول الرّأس يرمز إلى تمار. فتحضر أيضًا حول الرّأس من خلال الشّكل الخماسيّ الّذي يحيط الرّأس. فهي والمريمات خمس. أمّا ترتيب المريمات على الغلاف فيأتي بعكس الرّواية. هكذا نحصل على حلقة أو شكل دائريّ هي دورة الفصول والحياة، وهي سماوات دانتي المتلاحقة كدوائر.
أمّا الصّفر تحت عنوان تمار فهو رمز للكمال والسّعادة والمطلق. والصّفر يؤكّد التّناصّ مع كوميديا دانتي الّتي تكوّنت من مئة نشيد رمزًا للكمال. وهذا ما حدث مع تمار وصعودها إلى الفردوس. وهذا ما يتناسب مع الرّقم عشرة الّذي يوحي للكمال أيضًا. فلقد تلاعبت الكاتبة قصدًا بالأرقام حين تركت الصّفر تحت اسم تمار. ويأتي ذلك لدمج فصل تمار كجزء من فصل الرّابعة، وإحداث الاكتمال مع بلوغ العدد الخمسين. وهذا يؤكّد أنّ تمار تماهت مع الرّابعة. وبصعود تمار إلى الفردوس يتأكّد تحقيق حلمها بلقاء الحبيب، وإيجاد الرّابعة لفارسها الحبيب، وتحقيق البطولة الّتي صنعتها المريمات خلال العشرين عامًا. ويتأكّد انتصار المجدليّة على ظلمها بعد عشرين قرنًا. فلقاء المريمات بعد عشرين سنة واحتفاؤهنّ بمئويّة المدرسة رمز للقرن العشرين (فحاصل ضرب عشرين بمئة هو ألفان، أي إيحاء للقرن العشرين)، أي احتفاء الكاتبة بصكّ براءة المجدليّة في القرن العشرين. إنّ العشرين هنا هي الظّلم الّذي تحمّلته المجدليّة على مدى عشرين قرنًا. وهي العشرون سنة الّتي تحمّلتها كلّ مريم منذ تركت المدرسة، وخلالها بنت قصّة بطولتها بنفسها. والمدرسة هي رمز للقدس والوطن فلسطين الّذي تهجّر منه أبناؤه، وأصبحت حياتهم دربًا من الآلام. وهذا يتلاءم مع رمزيّة أخرى للصّفر واعتباره عشرة. فحاصل جمع العددين عشرة وأربعة هو أربعة عشر. وهو رمز لدرب الآلام الّذي يشتمل على أربع عشرة مرحلة مرَّ بها المسيح.
ويشكّل العدد أربعة ومضاعفاته موتيفًا مكثّفًا ورمزًا للخصب والبعث ودورة الحياة. فالمريمات أربع، وفصول الرّواية أربعة. وهذا ما يؤكّد دورة الحياة كفصول السّنة الأربعة. وما يؤكّد رأينا أنّ المريمات يمثّلن مريم واحدة. كما نجد الأربعة في عمر قصّة الحبّ بين مريم الأولى وحبيبها جبرين الّتي استمرّت أربع سنوات ثمّ تزوّجا وأنجبا أربعة أبناء. أمّا الأربعون فهو عدد الأيّام الّتي تفصل بين القيامة والصّعود في المسيحيّة. فبعد فصل الرّابعة يأتي فصل تمار وصعودها للفردوس. والأربعون موتيف عند الثّالثة والرّابعة حيث كانتا في الأربعين عندما حقّقتا حالة من الاكتمال والسّعادة، وأثبتتا عرشيهما في الوجود ووجدتا الرّجل الفارس الحبيب. وكلّ ذلك يؤكّد التّناصّ مع أسطورة عشتار. حتّى أنّ انتهاء الرّواية برقم الصّفحة "404" لم يكن عبثًا برأيي، بل يرتبط بكلّ هذا ويؤكّده.
أمّا العدد ثمانية فإنّه يوحي إلى المرحلة الثّامنة من درب الآلام، حيث كانت مرحلة النّحيب على المسيح من قبل النّساء، ومنهنّ العذراء والمجدليّة. فيها قال المسيح: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل ابكين على أنفسِكُنّ وأولادِكُنّ". وهذا يؤكّد قول دالية أمّ مريم الرّابعة: "لقد أتينا من هذا المكان نحن بنات القدس. منذ البدء ونحن نعاني ونلطم على مغبّة فقدان مسيح هذه الأرض". ومن هذا المشهد برأيي انبثقت نسيجة مريم في خيال الكاتبة. وهي عبارة تؤكّد مقصديّة الكاتبة وما كشفناه آنفًا.
هي إذًا رواية تتحدّى ذكوريّة التّاريخ بامرأة وُجِدت قبل الزّمان وقبل المكان واسمها مريم. تدخلها الكاتبة إلى كوميديا دانتي: جحيمه ثمّ مطهّره ثمّ فردوسه. وتجعل تمار الّتي تجتمع فيها قداسة المجدليّة وألوهة عشتار ملاكها الحارس ترعاها لتتخطّى درب الآلام وتصعد إلى الفردوس منتصرة على الشّقاء وقد حقّقت سعادتها وأثبتت وجودها. ولعلّ صعودها إلى الفردوس على الورق يترك أملًا لتحقيقه في الواقع يومًا ما.
مشاركة منتدى
30 آب (أغسطس) 2021, 02:22, بقلم حمدي تمّوز
مِثولوجيا الإله تمّوز، ترجع إلى العهد السومري، أي ليس البابلي الذي تلى ذلك العهد. لذا في الرواية السومرية التي سبقت الحقبة البابلية بمئات السنين، يكون اسم بطلة القصّة إنّانا. أمّا عشتار فهو إسمٌ بابلي أُطلق على الإلهة إنّانا. وحسب استنتاجي عشتار أسم صادر عن أسرى بني إسرائيل في بابل بعد أن جاءَ بهم الملك البابلي نبو خذنصر من شرق البحر المتوسّط.