في رواية الأسود يـليق بكِ ﻟ أ. مستغانمي
مقدمة
النسوية في مجال الأدب ليس حدثا وليد الساعة بل لها امتدادات في الوعي الجمعي والتراث الثقافي العربيين منذ الجاهلية، عندما كانت الأنثى توأد خشية من أن تقول شعرا فتجلب العار لقبيلتها، وعندما كان الغناء و الحكي حكرا على المرأة في التاريخ الاسلامي، من اختصاص الجواري و إلى أيامنا هو مستمر في المناطق النائية في دول بعينها (ثقافة نسوية متباينة الاضمار من بلد لآخر)، وعندما ﺃصبح المعنى الجمالي للثقافة (الثقافة العالمة) يؤكد عبر الفنون على الخصوصية الثقافية، منذ نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، التاريخ الذي شهد ولادة ما أصبح يعرف بأسلوب الرواية الجديدة، متلون بتيار ما يعرف ﺑ "ما بعد الحداثة"في كتابات روائيين و شعراء جزائريين خاصة الهواة منهم، منذئذ أصبحت الرواية عندنا تطرق موضوعات الهوية المثيرة لقضايا الدين و العرقية / الطبقية و النسوية / الجندر الشائكة دونما تريث، و النسوية الجزائرية ليست وليدة كتابة نسوية عربية مستقلة عن مطالب الحركة النسوية في العالم، بل كانت نتيجة استيراد الحداثة بما فيها الحداثة النسوية على مدار القرن التاسع عشر، مُطالبة بالمساواة في ميدان العمل و التعليم والانتخاب والحقوق المادية مع الرجل.
ثم مع الموجة النسوية الثانية في الولايات المتحدة وصولا إلى"الثورة النسوية"بأتم معنى الكلمة، وهي النضال من أجل الحقوق المعنوية بمساواتها بالرجل في الحرية و العدالة و تعدد الزيجات و الفن و حرية التعبير و التحرر من البطريركية وغيرها، هذه المكتسبات تطورت إلى تيار"ما بعد النسوية"فيما عرف ﺒ"الموجة النسوية الثالثة"بداية السبعينيات، في حين انشغلت التنظيرات النسوية الغربية بالصراع بين النسوية في مرحلتها الثانية و التي مثّلتها الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار بقضايا الطلاق و التحرش الجنسي، أثارت حركة مرحلة ما بعد النسوية حق التحرش الجنسي واﻹغتصاب والمثلية وهي انقلابات لم ترُق للجميع كونها كرّست نموذج المرﺃة الداعرة وشرعنته. بدأت عربيا مرحلة اكتشاف الذات وإثباتها في الكتابة مع نوال السعداوي و ليلى العثمان و فاطمة المرنيسي وغيرهن، وهي المرحلة التي تحولت فيها النسوية إلى سياسة للهوية في النص الأدبي خطابا وقصة وسردا، مرتبطة بشكل وثيق بظروف البنية الثقافية-اﻹجتماعية، البطريركية التي ينتجها اﻵخر الذكوري المسيطر، يتحول فيها النص الذي تكتبه المرأة من وسيلة ﻹسماع الصوت إلى هدف بحد ذاته، إلى خطاب جندر (Gender) [1]، كما سنرى مع بطلة أحلام مستغانمي في رواية"الأسود يليق بك"التي تتجندر على عشيقها الثري، برفض المبادرة في طلب الحب برغم حاجتها إليه. وطرح موقف هوية مضاد للدين و السلطة، عندما اتكأت الكتابة النسوية على سرد الجسد الأنثوي (بالضمير أنا)، في رمزيته (مقموع أو مبتور أو منتشي) أكسب الكتابة الأنثوية جمالية و خصوصية ثقافية، وهذا ما طرحته روايات فضيلة الفاروق و أحلام مستغانمي بعد رشيد بوجدرة وأمين زاوي. اﻷثيرة بقضايا و آفات ولدت من رحم اﻷسرة في سياق محافظ/ الجزائر والخليج وشبه محافظ/ لبنان، مناداة بتحرير المرأة من ﺃسر التابوات الملصتقة بها مثلاﹰ، إثباتاً لذواتهن ومواجهة النسق السوسيو- ثقافي المحلي المسيطر باعتبار ﺃن « الأسرة هي منشأ العلاقة الأخلاقية بين الناس (..) لا أخلاق بغير أسرة » [2] بإدراك جدلي، نتيجة علاقة الرواية الجديدة بالتيار المذكور المحتفي بالمتشظي و الهامشي و المسكوت عنه و اللاﱠمفكر فيه و اللاﱠعقلاني و المنقب في « كل ما يقيمه العقل من توازن بين الروح والجسد» [3] ﺃي بين المقدس و المدنس على مستوى العقل الأخلاقي العربي.
لعلّ في هذا التحليل النقدي الثقافي لرواية الأسود يليق بك الحاملة لسمات الرواية الجديدة هو استكناه للخطاب الجدلي في علاقة الذات بالمتمثل للآخر أيضا في فضاء سوسيو- ثقافي عاج بالمحظورات نئيا للهوية الثقافية: العادات والتقاليد الدينية و القيم الاجتماعية المرتبطة بهما من الانتكاس و التلاشي على يد العولمة الثقافية، ناهيك أن تيار النسوية، والذات والأخر، والهوية، و الثقافة و قضاياها كلها بذور منتشة تحتاج فقط إلى تربة النقد الثقافي الخصبة كي تثمرﻔ « أكثر ما يقال اليوم عن العولمة، يكاد يكون تكرارا لما قيل من قبل عن الغزو الثقافي ﺃو اﻹمبريالية ﺃو التبعية، حتى عن الحداثة بوصفها"غربية"و"غازية".. فهناك ظاهرة تضخيم إيديولوجي في تعاطي المثقفين العرب مع العولمة » [4]
في نفس الوقت هي استكناه لجمالية النص الروائي الجديد الذي تكتبه الأنثى بتوظيف فني لرموز الجسد ولعنصري الشخصية العالمة المقابلة للشخصية غير العالمة، اللتان ليسا لهما وجود خارج ثنايا الكلمات لكن يتلبسهما دوما خطاب و فائض معنى، لدى ﺃرمدة من الروائيات الجزائريات المعاصرات كأمينة شويخ، زهرة ديك و سارة حيدر مركزات على «الشخصية العابثة بهويتها (رمزية العبث بالجسد): مصادر ثقافتها هي ثقافة الا᷃خر و الشخصية كمرتكز للحفاظ على هويتها التي مصادر ثقافتها تراثية» [5] و مع كلا الشخصيتين نلفي حضور النظام البطريركي [6]
ــــ هذه القراءة النقدية الثقافية لكونها « نظرية جديدة في النقد تقوم على البحث عن الثقافي في النصي وعن النصي في الثقافي، وهو ما يعني لأول مرة، قيام النقد بوظيفة معالجة الأعمال الأدبية في ضوء عدة سياقات ثقافية متقاطعة فيما بينها » [7] تحتمل أيضا بعضا من التفكيك كون النقد الثقافي يركّز بشكل أساس على أنظمة الإفصاح النصوصي، وهي مناهج مستقاة من اتجاهات ما بعد البنيوية، كما تتبدى في أعمال بارت ودريدا وفوكو. و قراءة جماليات التحليل الثقافي سرديا بحسب تصور ستيفن غرينبلات أيضا. يقول عبد الله الغذامي عن النقد الثقافي «ﺃنه نظرية ومنهج في الأنساق المضمرة أو المعتقدات الذهنية العميقة باعتبارها نماذج راسخة ومنظومة فكرية ثابتة، ذات أثر في النصوص الثقافية، والجمالية بالذات، (..) النقد الثقافي استعمال للأدوات النقدية لنقد الخطاب الثقافي وكشف مجموعة الأفكار المتآزرة والمترابطة التي تتمكن في الأعماق، وتؤثر بشكل حتمي في الفعل الجمالي والثقافي، حتى تصبح ذات وجود حقيقي يمثل الأصل النظري للكشف والتأويل» [8] و مفاصل هذا النقد هي:
1- أنه "نسق"يمكن ﺃن يحدد هذا النسق عبر وظيفته، وعمله و أثره، وليس من خلال وجوده المجرد.
2- إنه نظام بنوي بمعنى أن له بنية متآزرة كامنة في أعماق الخطاب الثقافي و هذا النظام له وجهان أحدهما ظاهر و الآخر مضمر.
3- إن الوظيفة النسقية تظهر في النص الجمالي خاصة: كالشعر و القصة، و تظهر في غير الجمالي أيضا.
4- إن الدﱠلالة النسقية المضمرة موجودة أزلية راسخة لها الغلبة دائما.
5- إن الوظيفة النسقية لها جبروت رمزي يقوم بدور المحرك الفاعل في الذهن الثقافي وهو المكون الخفي لذائقتها ولأنماط تفكيرها وصياغة أنساقها المهيمنة.
6- النقد الثقافي بمنهجه الموصوف وأدواته المذكورة وأسسه هو عبارة عن رؤية شمولية معززة بآليات ثقافية ونقدية، تستعمل فيه أدوات النقد من مثل: المجاز الكلي، التورية الثقافية، المجمل، الكلي، المضمر، الكناية.
7- بما أن الأنساق المضمرة هي صلب النقد الثقافي وبما أنها حتمية فمجموعة المثقفين و المبدعين ليسو سوى (كائنات نسقية)، ومهما كانت قرارات الثقافة الشخصية الذاتية لدراسته فإنها لا تملك القدرة على إلغاء مفعول النسق، لأنه مضمر من جهة، و لأنه متمكن ومنغرس منذ القديم وكشفه يحتاج إلى جهد نقدي متواصل ومكثف.
8- المراد بالنقد الثقافي كشف المخبوء تحت أقنعة البلاغة و الشعر و النص الجميل و لذلك كان من مطالب أصحابه إيجاد نظريات في (القبحيات) لكشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي والحس النقدي [9].
تحليل رواية اﻷسـود يـلـيق بكِ على ضوء النقد الثقافي
ينفتح السرد في الرواية الجديدة عموما منها رواية"الأسود يليق بك"التي نحن بصددها على جماليات مشتركة عدة، لعل أبرزها شعرية اللغة و الخطاب، أحادية الصوت السردي و التعدد الأجناسي: الرسم، موسيقى، موضة، فلكلور.. وإن لم ينحو خطابها باللائمة على التقاليد الدينية وعلى تكريسها لقيم ما، كقيم الذكورة و تمجيدها بواسطة ثقافة الرضى و الطمأنينة، فأنه يشي إليها من خلال بعض المضمرات في لاوعي المرأة الشرقية (هالة الوافي) اتجاه الرجل الغربي الثقافة(طلال هاشم) ضمن بنية سردية هي بنية السرد النسوي. و مازلنا في بحوثنا نحلل روايات جزائرية بعينها، هي تلك التي تخص الجيل الذي مسته سمعة حقة دون سواه ـــ بوجدرة، فضيلة الفاروق وأحلام مستغانمي وجيلالي خلاص ومحمد مفلاح ومحمد ساري ــــ لأنه أولا كان الأجلى في توظيف تقنياتها وثانياﹰ في كوننا لم نتجاهل رواية الأقلام المغمورة إلاّ بعدما بدى لنا أن جلّها إنما كمن احترفت الهواية! أي الاحترافية التي يخرج فيها عملهم كل عشر سنوات ونيّف.
1 ــ الخطــاب
الخطاب هو فعل التلفّظ من طرف متكلم وفق صياغة و نظام ما، قصد التأثير في طرف ثاني، ألا و هو المستمع، و« هو الوعي البياني عند علماء الكلام والأصوليين عموما.. نظر إليه بوصفه جنسا خاصا من الكلام (...) يعرّف الخطاب بأنه الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ للفهم، وهذا يقتضي أنه الكلام الموجه توجيها مباشر من مخاطب بعينه لتحقيق غاية بعينها، هي إفهام ما هو متهيئ لفهمه» [10]
الخطاب نظام، يقتضي بدوره أنظمة أخرى تدخل في تركيبه، « يمكن النظر إلى الخطاب بوصفه إسترتيجية التلفظ، أو بوصفه نظاما مركبا من عدد من الأنظمة التوجيهية والتركيبية والدلالية والوظيفية (النفعية) التي تتوارى أو تتقاطع جزئيا أو كليا فيما بينها» [11]
ربط ميخائيل باختين الخطاب بالخبرة لذاتية المتلفظة، و التي هي في حد ذاتها بنية اجتماعية، و نظر للخطاب «بوصفه تلفظا يمكن وصفه حسب تودوروف بأنه عبارة عن حدث اجتماعي، وليس حدث فرديا، وهو حدث اجتماعي لأن الذات المتلفظة وإن بدا عليها أنها مأخوذة من الداخل، إلا أنها تعد بصورة كلية نتاجا لعلاقات متداخلة» [12]
يتمثل خطاب رواية الأسود يليق بكِ الهوية النسوية الوسطية المنفتحة على اﻵخر بذم الفكر السلفي والتقاليد البطريركية التي تمنع المرأة من التحرر، وقد تجلىّ عبر متضادات نسقية: نسق السلطة الأيديولوجية نسق المجتمع الأصيل البنية الاجتماعية في بطريركيته وهو المسيطر و نسقا المجتمع العلماني المؤمن بحرية المرأة والإسلام المتطرف نسقين غائبين.
ٳذا كانت الكتابة الروائية النسوية في المراحل السابقة لبروز الرواية الجديدة وسيلة إيصال الصوت النسائي، مع زهور ونيسي و زوليخة السعودي الاۤن ﺃصبحت هي هدف بحد ذاتها، لمواجهة البنية اﻹجتماعية-الثقافية بما فيها تحدى سلطة المجتمع والمركزية الذكورية ـــ النسق المسيطر ــــ مجاله المضمر (الحرية الجنسية للمرﺃة والنقد الساخر لفحولته و تفضيل المسيحي عليه) الذي لا تتشابه فيه المجتمعات في عصر العولمة الثقافية الكاسحة: «كل اﻷفراد يشكلون مجموعة خاصة في مقابل العام، ﺃي تكون لهم هوية مميزة ضمن البنية العامة التى يعيشون فيها، والتى لها هوية مغايرة ٳذ يرتبط مصطلح"الهوية"بالتركيز على الخاص في مقابل العام» [13]
من هنا تميز خطاب ﺃحلام مستغانمي [14] بالمضمرات النسقية التالية:
1.1 ـــ الحرب مسوّغ التّحرر من التابو
وظّفت المؤلفة الخطاب التاريخي المتمثل في النضال ضد اﻹسلاميين كي تقودنا إلى التعرف على السياق النصوصي الناجح والثابت لها، و كطعم، تحفّز به و تستحوذ على ﺃفق توقعات القارئ الجزائري والعربي على حد السواء، كما جرى مع"ذاكرة الجسد"، خاصة وﺃن الجزائر عاشت حرباً بين المتشددين اﻹسلاميين الذين إغتالوا ﺃب وﺃخ وأخت البطلة هالة الوافي التي أحبت"طلال هاشم"المسيحي اللبناني الثري فبعد أن قتل الإرهابيون والدها، وشقيقها الوحيد، لتكون أختها ذات العشرين عاما الضحية الثالثة من عائلتها، جاءت التهديدات الموجهة إليها، كعامل حثّها للمسارعة إلى هجرة الوطن، بهدف ظاهر هو حفظ حياتها وآخر باطن هو الانتقام الجندري من نسق مركزي نهيمن ثقافيا، حتى و إن لم تطابق مستغانمي بطلتها فلم تجعلها كاتبة وجعلتها مغنية، فإن هناك دلالات مضمرة تشي إلى محاولة جذب القارئ كطرف مستهلك يستمتع بتفاصيل حكاية حب فتاة جزائرية بكل عنفوان وباختراق المرﺃة الجزائرية للتابو، كونه يبقى تصرفا ـــ حكاية العشق والغرام الذي تفصح عنه المرأة في مجتمعاتنا مبتذلاﹰ حتى ولم تطأ جمالياته بجنون، خاصة وﺃن القارئ هو الآخر عايش معاناة اﻹرهاب و صعوبة الانفتاح على ثقافة الغرب/باريس الذي لا يشكل المحظور الجنسي لديه تابو. على هذه الجدلية وظفت مستغانمي الهجومات اﻹرهابية على كل ما يمت بصلة بحرية المعتقدات وحرية المرﺃة داخل بلادها في التسعينيات، وفي مناطق الربيع العربي حاليا، كذريعة ومسوّغ فاسحة المجال لنكهة من جماليات الجسد في الرواية. والملاحظ ﺃن اختيار سوريا و بيروت لم يأتي اعتباطيا، للحرية المتاحة فيهما مادياﹰ و معنوياﹰ. حيث ﺃصبحت بيروت ملاذ للروائيات و الشاعرات الجزائريات منهن فضيلة الفاروق و لميس سعيدي.. ناهيك عن المغنيات و مزار أشهر الروائيين والفنانين الجزائريين المتكونين هناك، ﺃما مسألة تمسك البطلة هالة الوافي بلباسها اﻷسود و هي تبادل عشيقها الحب المجسد و الموصوف بدقة وحرارة، فهو مربط الفرس في خطاب ﺃحلام مستغانمي، خاصة وﺃن بطلتها لا تتجاوز27 عاما ﺃما طلال فيكبرها بعقود. إنه خطاب مضمر ضمن نسق ثقافي يرمز فيه الجسد إلى رموز عدة كما تقول نزيهة الخليفي: «ٳن الجسد مكون مركزي في الرواية يبوح بوظائفه، و رموزه و طقوسه وتضاريسه، فقد تحوﱠل من ملازم مادي محدود ٳلى موضوع فعال، تتظافر جميع العناصر الروائية (الشخصيات الزمن و المكان واللغة والحوار..) لاكسابه خصائصه البنائية» [15] خطاب ديدنه المرﺃة الشرقية و الجزائرية التي تردعها قيم المجتمع الذكوري و البطريركي /السلطة اﻷبوية، والذي تزايد أهمية في الآونة الأخيرة عندما ﺃصبحت الهوية تضع نفسها في مواجهة حتمية مع العولمة الثقافية. خاصة ما تعلق بنبش المرﺃة في المحظور ﺃمام مرﺃى سلطة المجتمع بما فيهم الوطنيين، «بعد ﺃن منيت المرﺃة بخيبة ﺃمل قصوى في إمكانية تحريرها من نير التقاليد الفاسدة، كما تحررت البلاد من براثن اﻹستعمار الغاشم» [16]
فتاريخ اﻹرهاب في الجزائر الذي استرجعته مستغانمي على لسان هالة الوافي المغنية المحترفة و العاشقة للرسم وﺃلوان الموسيقى ليس ﺃكثر من محاولة تسويغ، و آلية للتأثير على القارئ بغية تقبَل اختراقها للمحظور، ﻷن العادات و التقاليد اﻹسلامية في زمن ثورة التحرير الجزائرية كانت فيها المرﺃة تخضع للرجل خضوع طاعة، وتكون مهمتها تلبية حاجات الثوار و المجاهدين المختلفة دون اعتراف بحقوقها كأنثى خارج ذلك.
ﺃما اليوم انقلبت الموازين فالرجل الغني الواقع بغرام هالة المحزونة على ما جرى و يجري في بلدها. إذا تركها قافلا إلى شركته فكأنه « العائد إلى وكره وإلى الفقر نتيجة بعدها عنه » [17] في خضم تحولات العصر الثقافية تشبثت الساردة بأنوثتها و هي مصرة على اﻷسود لآخر القصة، كرمز يومئ لوجود مضمر ثقافي يقهر المرأة العربية، فاستعملته كغلاف يحجب حقيقتها: هالة/الجزائرية المثقفة المتمردة على التسلط الذكوري الذى يستقيه من العرف الاجتماعي، و تمارس حريتها كالوقوف بفحولتها ﺃمام التقاليد و بانتهاز فرصة الحرب وفرصة ظلم مركزية الذكر لها لتخلعه، لأن الفوضى واللاﺃمن تمكّنها من استبداله باللازوردي (الدبلوماسي عز الدين)، ﻷن الكل منشغل عما هو ﺃهم من الحب والجنس و اﻹغتصاب..، فالمظهر ــــ الفستان اﻷسود ــــ لا يعكس الباطن الممتلئ تحررا و انقياداً للذات، في عدم التفريط في عزتها ﺃمام الرجل طلال هاشم، مهما كان ثرائه و غواياته من جهة، ومن جهة ﺃخرى تماهيها مع الثقافة و الفن و طرائق حياة الغربيات.
2.1 ـــ توظيف الجندر لمكتسباته القبلية
يعني أننا بصدد جندر حقيقي مستثمر لفرصة وقوف المنظمات العالمية مع حقوق المرأة في الشرق الأوسط في سبيل الحصول على مكتسبات الموجة النسوية الثالثة، في عز التخلف الحضاري / الحروب الهمجية في العالم العربي، التي تشبه الحروب القروسطية في تعاملها مع الجنس الآخر، أي تمثل بجسد المرأة بعد أن تغتصبه، دون التفريط في المكتسبات القبلية بمساواتها في العمل فنانة ومغنية و راقصة... وسنرى أن خطاب البطلة سينعكس على المؤلفة إيجابا بعد سنوات من جفاف قريحتها الإبداعية خلًف لغطاﹰﹰﹰﹰ إعلاميا، و إذا بها تسكتهم بالأسود يليق بكِ، التي حملت عدة رموز و فكّكت عدة أنساق، لعل أقواها جميعا تأكيدها لأسلوب لا رجعة أو محيد عنه في الكتابة النسوية وهو توظيف خطاب الجندر لمقتضيات ثقافية، فأمام قمع الأنثى بطريركيا بإبقائها في البيت، والمنع تحت مسميات"التبرج"و"رفع الصوت العورة"في المجتمعات المحافظة، كانت هالة الوافي « لم تكن تشبه أحدا في زمن ما عادت فيه النجوم تتكون في السماء بل في عيادات التجميل. لم تكن نجمة. بل كانت كائنا ضوئيا، ليست في حاجة إلى التبرج كي تكون أنثى. يكفي أن تتكلم» [18]، و ستعول البطلة هالة الوافي على حاجة المسيحيين في لبنان والأوروبيين الفضوليين إلى صوتها لممارسة ما تهوى، من أجل الحصول على مكاسب أخرى أكثر مساواة تحت"قناع"هو ثوب أو فستان أسود يسمى بالموسلين اختصارا لأنه مصنوع من قماش الموسلين.
لِعلاقة المثقفة بمجال عملها دور في استقصاء نظرة المجتمع لها، وللمعوقات والخطوط الحمراء التي يضعها ﺃمامها، فالمثقفة غير الفنانة محافظة ﺃو متحضّرة مثلاً، يكون الصدام الثقافي بينها و المجتمع ﺃقل حدة بخصوص الموقف من الزواج و حياتها الجنسية، ﻷنها تعايشها في الهامش الشعبي، فإذا كانت مثقفة محافظة على هويتها انتهى اﻷمر، ستقبل على الزواج ثم تنظر ٳلى كل متحضّرة عانس نظرة ريبة، و العكس بالعكس بالنسبة للمتحضّرة التي ترفض الزواج التي ترى أنه يكبل حريتها، الصدام الحقيقي مع المجتمع تمثله الفنانة بحكم نوازعها اتجاه حاجياتها الجمالية وطاقاتها الفنية، هنا حتى بالنسبة الفنانة المحافظة في حال الاصرار على امتهان حرفة الفن تكون محل مواربة و رفض من قبل مجتمعها و ما بالك بالفنانة المتحضّرة أو على الأقل المثقفة كهالة الوافي، ستعامل حينئذ كأنها دنس ٳذا عزفت عن الزواج، مقابلتها بغير الفنانة المتزوجة شبيه بمقابلة المدنس بالمقدس، وبين المقدس و المدنس ينتظم العالم ويستقي العنصر البشري كنهه واستمراره. ولعلّ الانعتاق من مجتمع يبتر المرأة أبسط حقوقها إلى مجتمع أقل بترا له، يحلو لها فيه أن تفعل ما تشاء، سوّغ للبطلة هالة الوافي مقابلة سلوك الأغنياء في عدم الثقة بالنساء المعاملة بالمثل، و هو سلوك عادي جدا لو فحصناه من جميع جوانبه، بينما الغير العادي هو تجندُر فتاة جزائرية الأصل حامت حولها الشكوك وهي بعدُ معلمة في مسقط رأسها، بعدما أصبحت مطربة في سوريا و بيروت رغبة في إبكاء رجل جندريا! فأين تركت الأصول؟ ألم تمنعها ذاكرة البؤس والشّقاء في مجتمع أذاقها مر و ويلات الالتزام بالعرف، ألم يمنعها الانفلات الأمني، ألم تحمد ربها أنها بإزاء رجل غني ساقه لها قدرها لتطلب أكثر من ذلك! (بكاءُه عليها)، هذا النسق المفارق موجود كثيرا في المجتمعات الشرقية سببه الحرمان، هو نسق في انعتاقه الحر شبيه بانعتاق الدواب من رباطها إلى حقول الزرع، لكن سرعان ما يصبها ما لا تتوقعه من سوء عقاب: « قالت له يوما:"لا أثق في رجل لا يبكي"إكتفى بابتسامة.
لم يبح لها أنه لا يثق في أحد. سلطة المال كما سلطة الحكم، لا تعرف الأمان العاطفي... لذا لن يعرف يوما أن كانت حقا قد أحبته لنفسه... هو يرتاب في كرمها، يرى في إغداقها عليه مزيدا من الكيد له. أوليست الحياة أنثى في كل ما تعطيك تسلبك ما هو أغلى؟» [19]
لا مندوحة من رسوخ الانعكاس السلبي لسلطة اﻷب في نفسية الأنثى وذاكرتها ضمن تقاليد اﻷسر العربية مهما كانت ثقافتها، ﻔ «اﻷسرة البطريركية تعلم ﺃطفالها الطاعة والخنوع تعده ليكون فردا من الرعية . هي مدرسة لتعليم الأطفال منذ الولادة الكبت الجنسي» [20] حسب ياسين بوعلي، بدءا من سلطة اﻷخ والعم والخال، ٳلى سلطة اﻹمام، و الشيء نفسه مع ﺃعراف المجتمع وتقاليده مضافاً له نظام المشيخة وتقاليده في كل قطر عربي على حدى، هذه اﻷبوة التي تقف عائقاﹰ في وجه « حتميات بيولوجية في اﻹنسان » [21]
تجعله يتمرد و ينتقم للحرمان أول ما ينتقم، من النسق الثقافي المسيطر باعتباره نسقا مهمشا: «تاريخ اﻷبوة ــــ الذكورة ـــ بوصفه معطى نهائيا ٳهتزﱠ في لحظة وعي بعد ﺃن تسرب الهدم ٳلى منظومته السوسيو ثقافية بالتالي لحظة ٳرتطام وعي اﻷنا بالآخر، زاد من تقليب ﺃوجاعها و هواجسها حاملاً في داخلها خطابا منشقاﹰ ومنحرفاً عن المسارات اﻷنساق التقليدية ليؤسس منطقا معرفياً بديلاً » [22] قد خرجت من بلادها في عمر 27 عاما لكن مضى بها العمر إلى أرذل العمر كما تقول، يعني خروجها من مرحلة الشباب رويدا دون أن تحقق رغباتها أو حتى الاستحواذ على شخصية مرموقة. فكيف لا تستغل فرصة طلال هاشم لتضرب عصفورين بحجر؟ الانتقام للحرمان الذي تعرضت له في سياق المجتمع التقليدي بالأوراس، و التمتع مع أصدقاء البذخ و النجومية و الدبلوماسية الذين ليس لهم أي سطوة أو اعتراض على الاختلاط بالغرباء أو حتى مصفحاتهم وتقبيلهم في المضارب المعدة لذلك، وهي محافل الغناء والسمر بالقاهرة وباريس وفييّنا وإلا ما كانت لتأخذ ابنة خالتها نجلاء معها.
ولعلﱠ الميزة السردية التي احترمت خطاب الرواية الجديدة ، هو في اللعب على تيمة الجسد إلى حد التشبع عندما يتعلق اﻷمر بالكتابة النسوية ـــــ التشبع الذي ارتكزت عليه الكاتبة ليكون خاتمة متعة البطلة تأتي على إثرها القطيعة، ليفسح لتبلور خطاب جندر، كان معدا سلفا، بعد أن تقاسمه السرير في تلك الليلة بشقته الباريسية باعترافها «أريد أن أكون أما لابنك» يكون ذلك آخر الحب بينهما ـــــ سواء لدى الشخصية البطلة/هالة ﺃو مع شخصية طلال و حتى السارد، هناك دائما التقابل بين الشخصية الخيّرة التي تمارس الحب وترضى به والشخصية الشريرة التي ترفضه. قبل أن يتعرى طلال لهالة أعطى مسوغ التعري وهو خيانة زوجته له (وهي في حكم الشخصية الرافضة للحب) كذلك الأمر بالنسبة لمقتل علاء شقيق هالة وأحد أسباب"تسودها"، فقد انضم للإرهابيين ثم رغب بالانشقاق فقتلوه أيضا، لِعلاء صديق اسمه اندير، شاب جزائري بائس حاول الفرار إلى أوروبا لكنه غرق بالبحر، و هو شقيق هدى حبيبة علاء، المذيعة التلفزيونية التي هجرها ليلتحق بالمقاتلين بالجبل. فالشخصية الأصولية مكون أساسي لتبلور أفكار تريد طرحها الكاتبة، كشرعنة الاستمتاع مع عشيق يعيّشها كأميرة في النمسا دون زواج بالأساس، أي طرح فكرة الزواج المباشر من أساسه، حين التماس خاصية الثراء والبذخ يصبح الكل يتحاشى الحديث عن الزواج، فعندما التحقت بالدبلوماسي عز الدين خلعت الأسود مُلبسةﹰ إياه لعشيقها السابق طلال «الأسود يليق بكَ» قائلة أنه لا يليق بالدبلوماسي غير اللازوردي، رمز للذة العابرة مرة أخرى، مع أنها فحلة شاوية لا حديث عندها عن الارتباط قط! فالزواج معيار تستطيع تمييز به المجتمعات البورجوازية العلمانية عن المجتمعات المحافظة بغض النظر عن علاقته بالفن، وعنه يقول الناقد مفقودة صالح : «لم تعد الرواية الجديدة تحدد الزواج كهدف وثمرة للحب، بل صار الحب يكفي وحده، بل لم يعد الحب ﺃيضا هدفا وٳنما هو مظهر للإتفاق و اللاﱠوعي المشترك» [23] والحب على هذا الفهم من قبل هالة الوافي هو خطاب جندري بالنظر لأصولها.
3.1 ــــ إيقونة اللون و"شعرية المغايرة"
ماضر بطلة نص اﻷسود يليق بكِ هالة الوافي لو أنها بقيت في بلدها؟ هل كانت ستلقى نفس مصير ﺃبيها وٲخيها وأختها؟ لا شك في ذلك كون اﻹرهاب كان شن حملة شعواء على الفنانين. لكن البطلة تومئ ٳلى شيىء آخر هو اﻹغتصاب الذي هو"خصلة ثقافة"ذكورية ﺃيام الحروب: «لقد حير تهديد اﻷقارب سلم مخاوفي. ﺃنا امرأة لا تخشى القتلة تخاف مجتمعا يتحكم حماة الشرف في رقابه، ثمة ٳرهاب معنوي يفوق جرائم اﻹرهابيين » [24] فالعلاقة بين الرجل و المرﺃة زمن السلم تحكمها السلطة اﻷبوية و العرف خشية جلب العار، ٳن كانت المرﺃة عادية فما بالك عندما تكون مغنية في زمن الحرب. فهنا نحن بإزاء بطلة متماهية مع العولمة و ثقافة اﻵخر لتقابل الآخر المحلي/اﻹسلاميين في مجتمعها اﻷصلي المحافظ، بغض النظر عن تطبيق الشريعة على المرﺃة، هناك تقاليد ليست ﺃصولية بل متفتحة على اﻵخر، أصحابه في أنساقهم العربية على شاكلة الخليجيين بخاصة طائفة الأمراء و رجال الأعمال (الطلاليون)، تشك في نسق ثقافي هو الجنوسة و تتوجس منه أيّما توجس فُتخضع النساء خاصة المثقفات المتجاوبات مع ما يأتيهن من الغرب من ثقافة للمراقبة والسيطرة، خشية تلطيخ الشرف و المس بالنخوة و الرجولة العربية، و المقاومة معناه وقوعها في اﻹغتصاب و اﻹذلال الذكوري كأنما « التمييز النوعي الجنسي البيولوجي بين الذكر و اﻷنثى، هو تمييز تركيبي مؤسساتي ثقافي، وليس خاصية طبيعية بيولوجية ولهذا تصبح الجبرية البيولوجية مجرد إسقاط ثقافي، لا علة فطرية له لدى البشر» [25]
الجسد اقترن دائما بالكشف عن هويته، وعن علائقه بالتاريخ والسلطة والقمع والاخضاع واللذة، من خلال ثنائيات المهيمن و الخاضع، المنع والاباحة، الفضح والتخفي، والقوة الضعف، الاشباعي والحرماني، و المضمر في خطاب البطلة هالة /الكاتبة مستغانمي هو انتهازية و ذرائعية خطاب المرﺃة العربية المثقفة بشكل عام، تارة حجتها الأصولية و تارة حجتها اﻵخر الذكوري بغض النظر عن قيمه الدينية والسياسية وتارة أخرى التعاسة والتخلف! تلون خطابها كهكذا تلون حربائي إنما ينم عن معايشتها الحرمان و المنع لدرجة التثقف فيهما ﻓ «الجنسانية لم تخضع للقمع و الحظر في المجتمعات الرﺃسمالية البورجوازية، بل إستفادت من نظام ثابت للحرية » [26] أمام هذا الوضع سوغت الجنوسة عفر ﺃنف اﻷنا اتجاه تقييد حريتها بمجتمعها (الجزائر) برغم كونه معتدلاﹰ ومنفتحا قياسا بالسعودية مثلاﹰ ﺃو حتى مصر ـــــ ﻷن الرواية كتبت بعد سنوات من إسترداد الجزائر لعافيتها (في 2012) ــــ بدون تجاهل الاختلاف العرقي في المجتمعات العربية فخطاب هالة إنما يمتح أيضا من إثنيتها الشاوية و هو ما ألفيناه في سياق شعرية لهجتها المحلية كما في قولها:« لفرط انخطافه بها»، كلمة اﻹنخطاف تستعمل في اللهجة البربرية للتعبير عمن خطفه الجن.
لكن يبقى الهدف المضمر الرئيس هو مواجهة النسق المسيطر(المركزية الذكورية) وسياق الهوية الداخلي، بتمردها و تعولمها في الشام ٳلى ما يتجاوز الحب العفيف و هذا ما نستشفه من خطاب عشيقها الحميمي طلال هاشم، و الذي تظهر فيه البطلة كجارية عنده و راضية به: «لكنه ليس نادما على ما وهبها خلال سنتين من دوار اللحظات الشاهقة، و جنون المواعيد. حلق بها حيث لن تصل قدماها يوما » [27] و لكن بعد مدة تنزع لباس الحداد وترتدي لباس الحرية ــ اللاﱠزوردي ــ ما يعني ﺃن البطلة انتهزت حالة الحرب التي كانت جارية في بلدها كي توظفها لصالح ﺃنوثتها: «لابد من القول ﺃن الحرب ساهمت مساهمة فاعلة في تعزيز الحركة النسوية الجندرية. و ساهمت في جعلها إحدى سياسات الهوية اﻷكثر تطرفا (..) و تم التعبير عليها بنصوص روائية عديدة » [28] فارتداء اﻷسود"الموسلين "كأنما هو حيلة ﺃسلوبية"ثقافية"مُفتعلة جراء مقتل والدها الذي منعها من الغناء جاذبة بالرجل/طلال الغني إليها لمواستها وكسب ودها والدخول النهائي لحلقة الفن الشهرة، فلو ﺃرادت الفن للفن مثلاﹰ ﻷرتحلت مع ﺃمها ٳلى القاهرة، و هي اﻷقرب و اﻷنسب لفنها و للباس الحداد اﻷسود، لكن تمنعها و هي راغبة هي حيلة وغنج نسوي شرقي كي تحقق مآرب أنثوية خاصة، كالشبق باللبنانيين اﻷثرياء لكنهم ناقصون سيطرة رجولية على ﺃمثال هالة الوافي: ـــ ﺃحب ﺃن ﺃنفق ثروتي في إغراء الحياة.. ما دام مالي سينتهي لدى رجال سيبرعون في إغراء نسائي.
نساؤك؟..
ﻷنني لا ﺃثق في النساء، لا ﺃمي إنتظرت ﺃبي ولا تلك الفتاة التي ﺃحببتها إنتظرتني يوم سافرت إلى البرازيل» [29] هذا التصور السياقي "إغراء الرجال للنساء المتزوجات"غير موجود لدى الذكر المحلي (الشاوي) المحافظ على هويته فهو خاص بسياق بذخي. و في الوقت ذاته طعم اصطياد، مع ذلك تعمد الساردة هالة الوافي ٳلى إهانته و ذر الرماد في عينه ــ بمثل لباس لونه يرمز إلى العفة و الطهر والذي قد تشترك فيه مع المنقبات، ارتداء اﻷسود ثم اللازوردي هو تمويه للآخر بل صراع بواطن الذوات جنوسيا وبدبلوماسية مراوغة، كون أن زوجها المستقبلي هذا غير رافض لها عندما تمارس الغناء الرقص والموضة مع سواه ولسواه، ينم عن صراع أضداد الحرية مقابل المنع أو الإكراه، الحزن مقابل الفرح، الالتزام والتزمت مقابل الانحلال وهي أضداد هوية ثقافة المغايرة أو شعرية صوت الأنثى المغاير لصوت الذكر، كالذي تقول له فيه:
«ظننتك أحببت حدادي حين كتبت لي"الأسود يليق بك"» لكن هل فيه إنسان في الدنيا يحب لون الحداد؟! ويأتيها جوابه، لكنه الجواب المفارق للطبيعة و لجماليات الأشياء في الثقافة السائدة، حيث الأسود يختار عبيده لا سادته.« ـــــ ربّما كان عليّ أن أقول إنك تليقين به.. الأسود يا سيدتي يختار سادته «وعندما سألها الصحفي : «هي دعوة للحب. قالت له: ـــــ طبعا، وكيف ﺃرفض للحب دعوة ؟" [30] هل الشاوية"ﺃخت الرجال"تعري خصرها مثل"ماريا كالاس"؟: ".. ثم ﺃطلت كبجعة سوداء داخل ثوب ﺃسود من الموسلين، لكأنها"ماريا كلاس"في ثوب ﺃو بيرالي، لا يزينه ٳلاﱠ جيدها العاري و شعر ﺃسود مرفوع..» [31]
بل بالعالم و الرجل جزءﹰا منه، بالتأكيد على قيم اﻷنوثة و انتقاد تراثها المجتمعي مشكلة نسقاﹰ ثقافيا نسوياﹰ جندريا. فهي تفهم الثراء و الفقر في حالة الزواج على طريقتها التي هي جندرية شئنا أم أبينا "إن الفقير ثري بدهشته، أما الغني فهو فقير لفرط اعتياده على ما يصنع دهشة الآخرين" [32] كثير ما أُثيرت قضايا مثل هذه في تراثنا الإسلامي منذ عهد الخلافة، فعثمان ابن عفان كان رجلا غنيا تزوج من بنات الرسول رقية وام كلثوم وهما على قد الحال ثم زاد على كليهما الجواري ولم تقولا له حتى أفٍ، ما بالك أن تنزعا ثياب سِترهما التي كانت تزينهنا لديه، ولعل خير من وصف هذا الموقف الذي وقعت فيه هالة الوافي هو علي ابن أبي طالب في قوله :"يعز غني النفس إن قل ماله و يغنى غني المال وهو ذليل"يمكن تأويل غنى النفس هنا بعذوبة النفس أيضا التي تقف ضد نُبل النفس، وكلاهما رهافة النفس والغنى الفاحش يلعبان دورا سلبيا مخدرا.
2 ــ الــقـــصــة
تدور حول حكاية عشق وردية حالمة، قصة حب مليونير لبناني ناهز الخمسين (طلال)، بدﺃ رحلته مع عالم المال والبذخ من البرازيل، تزوج وٲنجب ولدين، ﺃعجبته مطربة جزائرية هي هالة الوافي في ال27 من عمرها، شاهدها صدفة في برنامج تلفزيوني، فجاهد للإثراء معرفة بالموسيقى والفن والشعر، وٳلى وضع خطة للإيقاع بهذه الحسناء التي ترتدي الأسود"الموسلين"حداداً على مقتل والدها المطرب (في حلب) وﺃخيها ثم أختها التي لم تكمل العشرين، كانت معلمة حينها، لكنها عندمت تحولت ٳلى سوريا ثم بيروت مع ﺃمها السورية اﻷصل تركت التعليم وتحولت ٳلى مطربة، يرسم طلال خططا وميزانية للإيقاع بالصبية في حباله، ﺃزهار و رسائل غرام و باقة التوليب المكتوب عليها عبارة (الأسود يليق بكِ)... ٳلاﱠ ﺃنها تكابر موظفة الشهرة التي بدأت في اكتسابها مع العلم أن مداخيلها المادية بقيت متواضعة و وظفت ﺃنوثتها للحصول على ما تريد، و عندما لا تنجح تنفصل عنه مستبدلة اﻷسود باللاﱠزوردي، متذرعة بغنائها الخيري للعراق في ميوﹸنيخ. تتخلى عن الأسود (الدال: طلال / المدلول: عدم القدرة على وهب الفرحة) وتلتحق بالدبلوماسي حبيبها الجديد، كأن ارتدائها للأسود كان استراتيجية جندرية للتعامل مع الحب اﻷرستقراطي، وعندما فشلت قررت ﺃن تعود ٳلى وضعها السابق، وفي الارتداء و الخلع يكمن مضمون الرواية المضمرــــ وليس مضمون الحبكة، فحبكة الرواية أبعد ما تكون عن حبكة"ذاكرة الجسد"أولاﹰ في أن الحدث الرئيس المؤدي إلى تلبيس طلال للأسود عوض هالة، أي تحول الدلالة الرمزية من «الأسود يليق بكِ» إلى «الأسود يليق بكَ» قد تشظى إلى مجموعة أحداث، وثانياﹰ في جدية المضمون غير المطابق للأخلاق العامة للقارئ العربي اليوم في عمومه ــــ و ما ساعد على تشفير البطلة هالة له هو غنائها للعراق المتحرر حديثا من ربقة الاستبداد، فإنما ﺃرادت ﺃن تقول ﺃنها عادت لحريتها و ٳلى مباهج اللاﱠزوردي وﺃجواء الموسيقى و السيمفونيات المتناغمة مع اﻷلوان التي تلغي احتمال ﺃن تكون الحياة غلطة. قسّمت الكاتبة قصتها ٳلى ﺃربع حكايات في شكل ﺃربع حركات ﺃو نوتات:
الحركة اﻷولى(ثلاث مقاطع): الاعجاب هو التوأم الوسيم للحب.
هي سيمفونية الاعجاب والحب المتبادل بين العشيقين، مع خاصية البذخ المفتعل من قبل الراوي /الكاتبة كل ما تعلق اﻷمر بطلال ﻹيجاد نوع من المعادلة الفنية، ٳذ ﺃن الفنان يرنوا للجمال والغنى كذلك و لو بعيدا عن الاحساس به. الطموح إلى الغنى ذوق وهي تضع ذوقها في مقابل غنى /اعجاب طلال هاشم.
الحركة الثانية (ثلاث مقاطع): من ﺃي نجوم ﺃتينا لنلتقي ثانية، من تلك السيمفونيات الممتزجة بالسرد واﻷلوان، هي محاولات العاشق طلال ٳغراء هالة للإنصياع له.
الحركة الثالثة (ثلاث مقاطع): الحب هو عدم حصول المرء فورا على ما يشتهيه ، إرهاصات الخلاف بين هالة وطلال، قد يكون الحب شاق وصعب المنال.
الحركة الرابعة (ثلاث مقاطع) لم ﺃنلها مرة بكاملها كانت تشبه الحياة، حدوث القطيعة النهائية بين العاشقين طلال و هالة عندما شك في تصرفاتها عند الحديث من الدبلوماسي الجزائري الذي التقته أكثر من مرة، بدأ يغضب فأراد أن يحذرها بسطوة ماله، يذلها ربما أو يذكّرها، فأبت ذلك بعز جندري وعنفوان ينم عن تشبعها بالرجال فكان الفراق الحتمي.
متأثرةً بالتقاليد السينمائية الغربية، جاءت نهاية الرواية فنيا في شكل مقطوعة موسيقية مطولة، كأنّ الكاتبة بصدد سيناريو نص ليُمثل ويُسمع وليس ليُقرﺃ. ﺃما اﻷحداث و الخطاب، ﺃدارت من خلال الحوار و الزمن اﻹسترجاعي وهرم الزمن المقلوب (النهاية ــ التطور ــ البداية) عجلة اﻷحداث التاريخية لتصب في صالح رؤيتها للعالم وخبرتها الشخصية: سوّغت من خلال العنف و السيطرة الاجتماعية للإرهابي والسياسي و الذكوري لتنتقم من هؤلاء جميعا بأداة الحرية و ممارستها لحقوقها على الطريقة الغربية، كمثل هكذا ﺃنثى تنزع وترتدي لباسها والذي رمز ﻟ"لباس الجسد"متى تشاء، عندما لا تليق بها ظروف الرجل الجزائرى واللبناني تنزعهما وترتدى لباس الحرية على طريقة العولمة خطاباً وبنية جمالية ، ففي دلالة موسيقى الخاتمة خطاب: الحب موسيقى تستمع إلى نبضاته تكرارا ومرارا، وفي دلالة الثراء خطاب، مفاده ﺃن القارئ البيروتي والدبياني والظبياني ( نسبة إلى دبي و أبو ظبي) على اﻷقل يباركون انتصار الفن و انتصار حق المرﺃة في العيش على الطريقة الغربية، وفي الخليج ﺃين يوجد اﻷثرياء على شاكلة اﻷمراء"الطلاليون"ممن شبقت الجزائريات بهم، ﺇنتقاما من البضاعة المحلية شكلاﹰ و مضموناﹰ، « ٳن تحول الجسد من قيمة جنسية ٳلى قيمة ثقافية، ﺃدى ٳلى ظهور نموذج نسوي فريد، هو بمثابة اﻹبداع النوعي في جنس النساء وفي ثقافتهن » [33] يستدعي اختفاء الكاتبة وراء شخصية الراوي العليم في قوله: «اﻹنتقام لم يعد يعنيها ﻷنه يسمح لمن نريد الثأر منه ﺃن نبقى ﺃشقياء » [34] و وراء الساردة/البطلة عندما تصف طلال تصف شكله قائلة:
«..شكله الخارجي ليس جميلا ﹰ» [35]، دون أن تتواصل مع جمهورها بخطاب مباشر بسرد الأنثى للمحظور بضمير (أنا) مثل فضيلة الفاروق، يستدعي إلى الأذهان أسلوبا جندريا من نوع آخر و هو أسلوب نسوي بامتياز «يمتنعن وهن راغبات» ولعلّ ما حققته لها روايتها الأولى من سمعة عربية زادت خطابها سموقا وعفّة وكأنها هي عاشور رضوي الجزائرية. و لذات السبب تواصلت مع الموسيقى كلما عزﱠ عليها ولوج المحظور سرديا ﺃو اﻹطالة فيه حين وصفها لمواعدهما الحميمية ﺃسوةﹰ بالساردة سهى بسطانجي/ فضيلة الفاروق في"اكتشاف الشهوة"مثلا كقولها بضمير هو « كبيانو أنيق منغلق على موسيقاه، منغلق هو على سره... هو لا يعرف للحب خارج مذهب التطرف... يضحك منه الحب كثيرا، ويرديه قتيلا، مضرجا بأوهامه » [36]، قد يكون في ملامستها للتابو دون إغراق إمّا تجربة فنية خاصة عن اقتناع أو أسلوب عارض مخصص بالتحديد لرواية الأسود يليق بكِ فقط دون غيرها مع التحفظ كوني لم أقرأ رويتاها عابر سرير و فوضى الحواس قراءة كاملة [37]، تكون درجت عليه الكاتبة مختفية ككتلة من مشاعر أنثى ملتهبة وراء مقطوعات موسيقية جميلة، و وراء فيلم سينمائي موسيقي حالم، و وراء الراوي و السارد عندما يكون هو البطلة، التي تعرف جيدا عواقب تمرد الأنثى، وهذا التأويل استشفناه من تعابير شاعرية عدة منها قولها:"..حدائق بهندسات جميلة مُبالغ في الاعتناء بتصاميمها" [38] وهذا التعبير يُحيل إلى أن الاعتناء بجاملها بشكل مفرط في مجتمع شرقي تحوّل إلى هاجس لا شعوري في نفسية البطلة/الكاتبة، عن هذه اﻵلية تقول شهلا العجيلي:« فحين تكون الراوية امرﺃة يصير التلقي، حكماﹰ بمرجعيته النسوية، ويبحث المتلقي عن الشفرات النسوية المقاربة للتابو، ﻷنه إعتاد ﺃن تكون الكتابة مقاربة للتابو اﻹجتماعي فصارت مع التجربة والعادة كل كتابة نسوية توجساﹰ ومصدر ٳرتياب » [39] لا مراء في أن التعاطي مع موضوعة الجسد لولا تبلوره كفاعلية إشكالية، و بوصفه النص المتعالي الذي يحوز على تشابك الدلالات المضمرة والصريحة والنسقية، و بوصفه نسقا جامعا لمقاربات تمس المضمر في التاريخ والوجود واللغة والسسيولوجيا، لما تبلور خطاب الجندر أصلاﹰ مع مستغاتمي و غيرها كثير من الروائيات العربيات والحقوقيات بخاصة في المجتمعات المحافظة: السعودية، الكويت، غزة، الشاوية بالجزائر،اليمن..
3 ـــــ جـمالية الســرد
يمكن اختزال جمالية رواية أحلام مستغانمي الرابعة هاته والمفارقة بعض الشيء لجماليات رواياتها السابقة في صورة: شعرية اللغة والخطاب، و تعدد أجناسي في نطاق أحادية الصوت، الحوار الخارجي، كسر بنية الزمن، الفضاء والأمكنة المفتوحة و غلبة السرد الموضوعي: راوي عليم ينظر من الخلف إلى شخصياته محيطا بهم لمّا يحيط الكاتب بحيثيات أدق.
31 ــــ خصوصية لغة الأنثى الشعرية
ﺃولى الملاحظات حول خطاب ﺃحلام مستغانمي اللغوي نجده يعكس خصائص الرواية الجديدة، شعرية ولا شك متسقة في انسياباتها الاستعارية العذبة مع عذوبة مفردات الموسيقي كالنوتة والسيمفونية والمقطوعة وغيرها ومع اﻷحلام الوردية و مشاعر الرهافة، المقابلة كلها لمشاعر النسق المسيطر/ الرجل في بنية الخطاب المضمر، ولمّا اتّخذتها منذ البداية شعرية غاية مدح الذات و ذم الآخر الذكوري (هدف جندري) سقطت من الوهلة الأولى في فخها (الاصطناع أو الافتعال)، أي في فخ أيديولوجيا النسق المزهو بذاته، وكأننا بها و نتيجة لمعايشتها لشعور لأنوثة و فائض الرقة دور في تخدير احساسها بواقع التصرف بالألفاظ والتعابير كما يجب، فأصبحت لغتها الشعرية ولغة المتصوفة سواء، نتيجة ما هي واقعة فيه من لهف واشتياق، و لوعة و الحقل الدلالي الدال على ذلك هو قولها وهي في هيأة الراوي المشارك:
الحب سلطان/ وسعادتهم القصوى/ و زايدوا على الحب حبا ، فضاعت من أمامها المفردات المناسبة كما في قولها في الأهداء « التي تعيش على الغبار الذهبي لسعادة غابرة.» لكن السعادة الغابرة أهي نتيجة هنا أم غاية؟ لعلّ ما يبين أنها سعادة غاية هو ما سبق هذا التعبير من جمل مُحيلة إليه (المزاج الغائب و رفض الرقص) إذن هناك ما هو أجمل شاعرية حينئذ من ذلكم التعبير ، و هو على الأقل في أي حال من الأحوال كل نكرة إنما تتبعها نكرة في كلام العرب أي « التي تعيش على غبار ذهبي لسعادة غابرة.» و هنا يبدو الروائي الجزائري بشير مفتي محق عندما ينتقد نصوصا جزائرية جديدة عديدة بقوله « غير ﺃنﱠ اﻹشتغال على اللغة شيء و شعرية اللغة شيء آخر» فليست طاقة التعبير على ما يدور في وجدان المرء طاقة متاحة للجميع، بل هي طاقة متحولة بحسب نزعات النفس وتبدلها وهذا ما اختصّت به هالة الوافي في حزنها الحبوبي المتقلب chagrin d’amour. وضاعت كذلك في قولها: « كما يأكل القط صغاره، وتأكل الثورة أبناءها، يأكل الحب عشاقه» [40] والحق أن القطة تلتهم صغارها، و لفظة الالتهام ها هنا تحمل دلالة إيجابية حتى لا يعانون أمامها، كونهم غير مكتملي الخلقة فتضحي القطة بهم من أجل شبارقها الآخرين، كذلك تلتهم الثورة أبناءها، المقصود النيران الصديقة و الذين يذهبون ضحايا في جزئيات عابرة من المدنيين وغيرهم فيها. أما الحب فيجُب عشاقه جبًّا عندما يحاول حفظ كرامة النفس البشرية وهو بصدد حفظ النوع، النفس التي قالت عنها الأديان ما قالت:" مَن قتل نفسا بغير نفس أَو فساد في الأَرض فكأنما قتل النَّاس جميعا و من أَحياها فكأَنما أحيا النَاس جمِيعا"
بالنتيجة لمسنا انعكاس شعرية اللغة على الخطاب العام للرواية إثر الصدام النسقي: تعارض ثقافة البطلة هالة، كونها مجرد معلمة سابقة مع سياق بيئتها، بيئة أمها الشاوية المحافظة، رموز المواجهة هو التضاد بين مباهج الشعر والموسيقى واللون الأسود ولعلّ اﻷطباق الزاهية من الموسيقى المستعارة، و إصرارها على تأنقها ﺃمام الجمهور برغم اﻷسود، دليل تعلقها بمتع المرﺃة المدنية التي لا تأتي إلاّ من خلال المبالغة في مشاعر الرقة و الرّهافة إلى درجة التثقف في الموضة نتيجة ذلكم الحرمان. بالنتيجة إعلاء للذات اﻷنثوية ــ كمرحلة نسوية ثالثة (اكتشاف الذات) التي ميزﱠت تاريخ الكتابة النسوية العربية محاكاةً لنظيرتها الغربية ــ ﺃمام الآخر وﺃي آخر؟ ٳنه الرجل الذي جميع الأديان تقول ﺃن الله ﺃكرمه بنصفه الثاني حواء. لكن في ﺃحداث انفصال هالة عن طلال نلفي و كأنه العكس هو الصحيح، بيد أن عبد الله الغذامي يرى ﺃنه لا هذا و لا ذاك: « هي إحالة إلى الوهم الثقافي الذي يجعل اﻷنوثة مادة مصنوعة من ﺃجل اﻵخر ... حسب زعم الثقافة و لا يوجد ذلك في أي نص ديني » [41]. طبيعي ﺃن الغني تعشقُه فطرة المرﺃة لا حواسها، لكن البطلة"تتجندر"على طلال : «تدري.. كثيرا ما ﺃتمنى ﺃن تفلس فينفض الجميع من حولك فلا يبقى لك سواي» [42] يرجع التحليل النفسي متمثلا في" جون لاكان J. la cane"ذلك إلى الهاجس الذاتي لدى المرﺃة المتأتي من مرحلة المِرآة، فحسب نهال نهيدات : « وعي الذات بذاتها يتم من خلال صيرورة تتصف بالصعوبة والتعقيد، فالذات ليست جوهراً معطى، ولكنها مايتكشفه الطفل و يتعلمه من خلال التفاعل مع الاۤخرين، من خلال صراع مرحلة المراۤة، التي يرى فيها الطفل نفسه فعليا وإستعارياً ﻷول مرة كاۤخر» [43]
ٳسراف الكاتبة في توظيف اﻷسلوب الشعري و الذوبان في الرومانسية الحالمة و تناوب الاسترسال السردي بين الراوي العليم والراوي المساعد/البطلة بغية الوصول ٳلى تشكيل لوحة فنية زاهية، غير ﺃن"استهلاكية"ما يكتبه القلم اﻷنثوي، يكون هو الذوق الشافع في تبلور بنية خطاب مستغانمي النسوي، ٳذ النسوية من حيث هي تيار روائى ظل يوصف بأنه جديد في مرحلة طفت فيها قضايا الهوية واﻹختلاف مقابل العولمة الثقافية، قد كشف عن الرؤية الثقافية للنص و وعي صاحبته، كون ﺃن الكاتبة انتمت في مرحلة شبابها لسياق توصف المرﺃة فيه بالتخلف والمازوخية، ثم سياق الاختناق و العنف في التسعينيات و الثمانينيات، اختزنت في ذاكرتها صورة المرأة المتعة في يد ذكر إرهابي عندما ترتدي لباس أوروبي و يد ذكر بوليس النظام عندما تلف شُبهة النقاب حولها: «ٳنما ما يحدد الخصوصية النسوية السردية ليس لغته، وٳنما الرؤية التي تتحكم به وتديره، فهي رؤية ذات خصوصية نسوية بجدارة، ﺇذ تبدو الروائية حاملة لكاميرا تنقلها من زاوية ﻷخرى طابعة ٳياها ببصماتها الرؤيوية» [44] الوعي بالذات من الوعي بالجسد: الوعي بالذات ليس شعور نفسي بالأنا منفصل عن الظاهر، بل ماهو في الحقيقة إلا بنية فوقية لبنية تحتية هي الجسد، كمادة ونشاط متبلور و كممارسة فعلية إن صح التعبير (لما كان الوعي مفهوم جدلي في الفلسفات الحديثة في فلسفة هيجل المثالية الجدلية وفلسفة ماركس المادية الجدلية من بعده) من يغذي الذاكرة و بالأحرى من يجعلها تأتي؟ إنها احساسات الجسد من سمع وشم و فرح وحزن.. فالجسد المادي هو الذي يرسب التاريخ والثقافة في وعينا. لذلك لم تختار الكاتبة لبنان فضاءا لروايتها وفضاءا لبلورة وعيها بذاتها أيضا اعتباطا، بل نتيجة للحريات المتاحة في هذا البلد ، بلد غادة السمان ومي زيادة وقوافل نسائية يوصفن في غير لبنان بالمروق والانحلال الأخلاقي.
لعلّ القارئ يلتمس كل ما تعلق اﻷمر باﻷدب النسوي ثنائية اللغة القاذعة (فضيلة الفاروق) و الشعرية الأكثر حميمية (أحلام مستغانمي) ﻷنها بإزاء تقابلي مع نسق مركزية الذكر كتابة و ثقافة، حتى وٳن كانت بعض خطاباتها الجديدة من الرؤية النسوية الخاصة بما لا يتصور، كرواية وطن من زجاج لياسمينة صالح. فإن القارئ الذكر على العموم يستلذها بمتعة قرائية استهلاكية، كأنها لغة كشف جسد الثقافة عندما أصبحت الثقافة رهن المتعة، و الدليل هو نفاذ طبعات الرواية التي تكتبها الروائية الجريئة في الأسواق، و كثرة الردود النقدية حولها في مواقع التواصل الاجتماعي مقارنة بما يكتبه غيرها، لأن الجسد يكشف عن البنية العميقة، بنية المرجعيات، البيئة، الأثر، وحتى الكشف عن القبحيات النسقية التي يتستر عليها الجمالي كما يقول الغذامي.
كتابات المرﺃة السردية > شعرية اللغةـ>خطاب الجسد> سلطة التقاليد ومركزية الذكورة
تمت إثارة ﺃمور مختلفة تخص ذات المطربة هالة، ائتلاف هوية سردية نسوية تُستشف من خلال ثقافة النسق النسوي المختلف حتى تبلور الصوت الأحادي (المنولوجية) من منطلق الرؤية النسوية. ولو حدث العكس لتحولت أصوات: نجلاء ابنة خالة هالة و عز الدين و صوت الأم وصوت اندير و هدى و غيرهم، من النقيض إلى النقيض أي من أيديولوجيا النسق المقابل إلى التعدد و الحوارية، النسق المسيطر الذي له ما للذكر وعليه ما على الذكر، و لعلّ شعرية اللغة و حميميتها لا تتحقق من خلال علاقة اللغة باللغة، بل بغيرها من مفردات خصوصية حياة المرﺃة وجسدها، « فاﻷنثى تكتب (ٳدراك الجسد، الجنس، التجربة، اللغة) وفق مقاييس التحرر من الصمت واﻹحتفاء بالبعد الحميمي واﻹعتراف والبوح» [45]، و هو ما قاربته لغة ﺃحلام مستغانمي الشعرية المتناوبة الايقاع برهافة ﺃنثوية في الملبس و الموسيقى، مقابلةﹰ لخطاب الذكر المركزي جماليا عكستها تعالي شخصية"هالة"على"طلال"جندريا، و على العادات و العرف الاجتماعيين لبلدها اﻷصلي معاﹰ، محفزة ﻷفق انتظارات قراءها: "غنج لغوي"و رقص بالكلمات و عطور و ورود..، بيد ﺃن في انتقاء مفردات خاصة بالحميمية وباللهجة اللبنانية ما ينبغي الوقوف عنده مطولا، لأن الأمر يحتاج أولا لتجربة وثانيا لمعرفة كاملة بلهجة البلد حتى لا نسقط في الأسلبة سردية ، بين ثنايا الشاهد التالي مفردات غير منتقاة بدقة، افتعلت الساردة لهجة ليس لها وجود في الواقع، تذكرنا بلغة السنيما الجزائرية عندما أرادت أن تقرب اللهجة الجزائرية الصعبة للعرب فسقطت في فخ اصطناع لهجة أو لغة لا وجود لها :« مَنّي مرتاحة لسفرك لَمصر و لأجوائها* الفنية.. ولا بدّي مصاري من حفلاتك..
ـــــــ كرامتنا مصونة* يا إمّي.. و أنا ما أكسب* كثير من هاي الحفلات.. حتى هاذ* الحفل حفل خيري لَنجمّع* مبلغ لانشاء* قسم طبي للأطفال المرضى بالسرطان.» [46]
في المفردات المؤشرة في الشاهد يقول اللبنانيون بدلها على التوالي: لِحْوالتهُن الفنية ـــ إحنا بكرامتنا ــــ أحَصّل ــ هاي ــ لَلنُّط ـــ نِبني بيه.
ولعلّ توظيف اللغة اﻷجنبية كان محتشماﹰ بيد ﺃن الكاتبة ﺃطلقت العنان بدله غير ما مرة للسان الدارج ذو النكهة الجزائرية أيضا شأنها شأن ﺃغلب الروايات الجديدة: «و هاذي واش راهي؟
هاذي تقول واحد دعا عليها دعوة الشر! يرحم باباك..» [47]
2.3 ـــ الارتكاز على التفاصيل كالتجنيس و السرد المباشر و التناص..
وعن الأداة الجمالية فمن ﺃنماط السرد حسب تزيفتان تودوروف « الحكي الذي يقوله السارد من ﺃحداث و معلومات و العرض: ما تقوله الشخصيات » [48] و مستغانمي مزجت بين النمطين، لذلك قد يعتري القارئ الشك في تغير بنية خطابها السردي مقارنة بسياقها النصوصي السابق، لكن التجريب ليس بعسير على كاتب من الجيل السابق لجيل الرواية الجديدة تجاهله، خاصة بعد ما حققته هذه اﻷخيرة من تميز على المستويين الجمالي و الخطابي، محاكية لنظيراتها من الروائيات الجزائريات كفضيلة الفاروق و العربيات، كالروائية الكويتية المثيرة للجدل ليلى العثمان والسعودية رجاء بنت الله الصانع وسلوى النعيمي وليلى بعلبكي وليلى سليماني، بخاصة تجسيد هواجس الذات و اسقاطها على السلطوي و المقدس.
ﺃما التلاعب بالسرد فتمثل في انسحاب تعدد اﻷصوات لصالح تعدد ﺃلوان الموسيقى في قالب إستعاري، منسجم مع ما تطرحه العولمة من اكتساح الفنون وٳحلالها مكان اﻷفكار اﻹديولوجية كل ذلك مقابلة للهوية في سياقها الداخلي. و ثقافة اﻹستمتاع"الصغير"بالحب والجسد كما دعته ، وهي ثقافة نسائية راهنة في ظل التطور الرقمي الحاصل في أيامنا «..تفضّل اﻷلم الكبير على المتع الصغيرة.. » [49]
ﺃما تقريرية السرد المباشر، من منطلق ﺃن المؤلفة صحفية سابقة، جاء الراوي المساعد/ البطلة ليحد من حين لآخر من تدخل الراوي العليم المحيط بالشخصيات باحكامه التقريرية مثل قوله: « في الثمانينيات قصد والدها حلب لدراسة الموسيقى، فعاد منها بعد سنتين، كأنه تخرج من مدرسة الحياة » [50] و لعل ذلك أحد تجليات السردية الجديدة: « تبدو اللغة ﺃولى مستلزمات هذه الهوية السردية التى تستخدم ضمير المخاطب، الذي تتراجع فيه اﻷنا الفردانية الطاغية في حضورها المصاحب للخاصية الشعرية والوظيفة اﻹنفعالية التعبيرية للكلام، لتحل محلها ﺃنا ﺃخرى مثقلة بوعيها التاريخي» [51]
والحقيقة أن الشعرية في السرود غير الكلاسيكية ليست حكرا على اللغة طالما أن في تظافر جميع العناصر الروائية تبلور بنيوي لجماليات منقطعة النظير، والتركيب الذي يعتصر دلالة الخطاب يقوم أساسا على التجزيئ و التقسيم، أولوية التفاصيل الدقيقة في العمل الروائي هو ﺃسلوب الرواية العالمية الراهنة كما يذكر الناقد بلقاسم مسروق :« لكل كاتب رﺃس مال خاص: هناك من يشتغل على شعرية السرد وهناك من يشتغل على الموضوع وهناك من يشتغل على التفاصيل الدقيقة» [52] غير أن شعرية مستغانمي ذات الطاقة المتفجرة بحق في"الأسود يليق بكِ"ذخيرتها سنوات من التأمل وحشد الرؤى بعد الصيت الهائل الذي لحق روايتها الأولى، لهوية نسوية لا يمكن المرور من أمامها مرور الكرام في الرواية الجزائرية المعاصرة. لكن فيما عدا ذلك تشترك مع الكثير من صنواتها اللائي يعطين الأهمية بالضرورة لرأس مال واحد: إما شعرية السرد، إما لمضمون الخطاب وإما للتفاصيل الدقيقة، هذا ما يعطي الملاحظ رؤية تشابه سياق جمالية السرد في الرواية الجديدة، نصوص تحتفي بالتقرير الصحفي المباشر و برؤية الراوي العليم المحيط بالشخصية نفسيا احاطة تجعله و كأنه يريد استنطاق الفكرة استنطاقا من شخصياته ــــــ و هو أسلوب غير محبب و يسميه روبرت همفرت في نظريته الشهيرة المسماة تيار الوعي، تقديم المحتوى النفسي للشخصية ولو باستخدام المجازـــــ كما يعطيه الرؤية لاصطفاء البعض الآخر، كالنص الذي بين أيدينا: « لن يعترف حتى لنفسه بأنه خسرها، سيدعي ﺃنها من خسرته، وﺃنه من ﺃراد لهما فراقاﹰ قاطعا كضربة سيف، فهو يفضّل على حضورها العابر غياباﹰ طويلا، وعلى المتع الصغيرة ﺃلما كبيرا، وعلى اﻹنقطاع المتكرر قطيعة حاسمة» [53] من منطلق عدة معطيات أقواها وعي التجريب منذ أكثر من ثلاثين سنة كتابة ليست بالتجربة الهينة، و غنى حياة الكاتبة الخارجية بالتجارب أيضا.
في البنية الجمالية للنص ﺃمكن رصد اﻹيقاع الزمني بيُسر حيث نجد الكاتبة في معرض سياق اﻷحداث التاريخية التى مرت بها الجزائر، تعمد ٳلى تكسير بنية الزمن بتقنية متراوحة بين الوقفة و الخلاصة، ليسمح لها ذلك التمادي في اﻹنتقال من الوصف إلى السرد و العكس، كوصف حدث موت ﺃبيها وفتاوي اﻹسلاميين [54]، ثم قصة هِجرتها فيما يشبه السيرة الذاتية في صفحات معدودة، لتنتقل للحيز اﻷكبر (عالم الموسيقى) بتوظف تقنية المشهد (la scène) مع المناجاة (المنولوج) تحت اﻹيقاع اﻷركسترالي الهادئ و اﻹيقاع الحر المنساب للموسقى المتسارعة الممتزجة مع ﺃحداث الشجار (ديالوج) في المكان المجاور ، ناهيك عن التحاور المشهدي اللطيف المزدان بكياسة لفظية من الجانبين، لأن طلال يسعى بأن يكون حديثه شاعري مثل حديث حبيبته. وفي تلكم النبرة الحوارية الشعرية و الموسيقية الأركسترالية و الفنية الوردية تقاطعات أجناسية دور في استكناه معان بعينها، فتعطيل السرد شكل يفسح لمضمون مفاده استهداف"طلال"دون غيره من الرجال، هذه القدرة على توليد المعاني نسج من طبيعة خيال المؤلف (بنية الخطاب) كما يظهر من خلال الحديث الهاتفي: « ـــــ اۤلوا، ردﱠ صوت رجل على الطرف الا᷃خر: ــــــ ﺃهلاﹰ.
ساد بينهما للحظات صمت البدايات، قال فاتحاﹰ باب الكلام: ـــــــ سعيد بالحديث ٳليك.
وجد نفسه يستعجل: ــــــ كنت ﺃستعجل هذه اللحظة.
ردﱠت بنبرة لا تخلوا من الدعابة في ٳشارة ٳلى بطاقته السابقة: ــــــ ظننتك تملك كل الوقت» [55] ﺃو يظهر في عزف طلال في شكل ايقاعات سريعة وبطيئة، متماهيًا معها جسد هالة راقصةً، ﺃو في إيقاع العزف اﻷركسترالي البطيئ في خاتمة الرواية، التي كسّرت بهما خطية الزمن، و جعلت زمن اﻷحداث ينحصر في الحاضر.
لعل السؤال الذي يطرح نفسه، بعد عشرين سنة عن نصها المشهور، هل امتلكت مستغانمي بهذه الجمالية السردية قارئ" ذاكرة الجسد"؟، الجواب لا. الدليل واضح ، الحبكة على ضعف نموها المطرد لم تستثمر في التفاصيل الجمالية للسرد تبعها بما فيه الكفاية، التّقطّعات السردية التي ﺃحدثها محاكاة الإفصاح و البوح لألوان الموسيقى في انسيابه مثلاﹰ خلخل ذهن القارئ و شتته بخاصة إذا اقترن بالتناقض في ﺃقوال الراوي حولها، اﻷمر نفسه مع الفراغات السردية، ما ﺃحاط نوع من الشبهة في السلوك اﻷخلاقي لعائلة هالة الوافي و هي بعد في التدريس: لماذا تغاظت الكاتبة عن ذكر الأسباب الحقيقية لإغتيال والدها في حلب بسوريا هل فقط لأنه مغني؟ كذلك جدها على يد النظام السوري بمذابح حماه في 1982 ؟ ثم كيف يعطي المثقف (مدرس ﺃو روائي ﺃو مطرب) الحجة للاۤخر في سياق الهوية الداخلي (المتطرفين واﻹرهابيين)؟ كون بقاء بيت العائلي"الشاوي"بدون بعل: لا اﻷم اختارت لها بعلاﹰ، و لا هي البنت المعلمة فعلت، لا شك ﺃن للبطلة ﺃقارب شاويون، رمت بعرضهم عرض الحائط مستسلمة ﻷهوائها، ٳننا لن نتوقع بعد ذلك ٳلاﱠ المعاملة السيئة من لدن المجتمع لهذا السلوك. وما بالك بمعاملة اﻹرهابيين، كان على العائلة اختيار البعل ثم مواجهة اﻹرهابيين، و اﻹنتقام، ﺃما التوجه ٳلى الغناء في مثل هكذا حالة، فإنها تعد مواجهة المرﺃة للتقاليد المعتدلة وتمردًا على البنية اﻹجتماعية - الثقافية، غايتها الفن الغربي الذي يسمح للمرﺃة بأن تمارس حريتها في بيروت و في ﺃفخم الفنادق اﻷروبية، ولهذا التأويل علاقة بالانبهار بنسق ثقافي عولمي، ومحاكاته فيه و لا علاقة للإرهاب ومقتل والد البطلة بذلك ـــــ اﻷسود مجرد تمويه ذرائعي نسائي عن فقد المحبوب
chagrin d’amour "فهي بالعكس تعيش حالة فرح داخلي يفسره ميلها للأثرياء" [56] وعن الحرمان الطويل ــــــ فسلوك البطلة المتناغم مع تقاطيع الجسد الذي ستبدﺃه ببيروت، كان قد اتضح في تحويم الشكوك حولها قبلاﹰ، دون ﺃن تحرك ساكنا، ولعلّ في هذا السلوك ما يوحي ﺃن الصدام الحضاري الثقافي بين اﻷنا (سياق الهوية الداخلية) و الآخر (العولمة الثقافية المتفشية في الأنا إعلاميا) الذي تحدث عنه هنجنكتون ﺃصبح واقعًا معاش.
كما قرأنا الحضور الطاغي للسارد الكلي المعرفة (الرؤية من الخلف) و الذي يتدخل في ﺃعماق الشخصية و يقرﺃ تطلعاتهم النفسية، ما ﺃضعف البناء الفني لهاو عدم انسجامها مع الخطاب العام للرواية (تفكيك أدوار الشخصية)، فهو يعلم وعلم من ﺃن البطلة تشارك البطل كأسه و ﺃنها تريد ﺃكثر من ذلك!!، البطل طلال النسواني العلاقات قد قرر ﺃخيرا اﻹلتفات لعمله فقط. ما ضرّ الكاتبة لو تركت كل تلك اﻷخبار التقريرية تنثال من ﺃفواه الشخصيات نفسها، و بتسلسل منطقي. لعلﱠ ما كشف عن موطن الزلل هذا هو التناقض في موقف السارد من البطل و البطلة، كلما تقدم السرد في اتجاه الانفصال بينهما، كأنها تريد كرها إيجاد حجة القطيعة و لو ﺃحدث ذلك تناقضا مع ﺃقوالها السابقة، ٳنه نمط سردي موضوعي، تمثيلا ﺃو حكيا من لدن الراوي من الخلف كلما تعلق اﻷمر بالبطلة: شاوية و كرامة البطلة، و بطل يملك" الدانوب اﻷزرق" [57] لكنه لا يملك إحساس هالة الوافي به! ﺃبان عن ٳرادة الكاتبة في توجيه اﻷحداث و التحكم في مصائر الشخصيات. و نلمحه أيضا في تعبير الشخصية الغير عالمة اللغوي و الفكري المعبر عن مستوى لغة و خطاب الكاتب الثقافي."طلال"في هذا الشاهد مثلاﹰ يتحدث بلغة تفوق مستواه الثقافي ، فهذا الرجل الذي لم يطأ أبواب الجامعة يتمتع بذوق رفيع، يسمع لستراوش ويمارس طقوس النبلاء في تنقلاته،« ـــــ السعادة ليست في ما تملك.. لكن الشقاء في ما لا تملك. غالبا ليس بإمكان ما تملكه ﺃن يصنع سعادتك، بينما ﺃن ما تفتفده هو الذي يصنع تعاستك» [58] ناهيك عن اﻷسلبة السردية التي لم تتفاداها مستغانمي شأنها شأن عامة نصوص الرواية الجزائرية الجديدة.
و حضور الحيز المكاني في نص اﻷسود يليق بكِ بما يعكس و ظيفة البطلين، من نجومية و شهرة.. مراقص و موتيلات فخمة في فيينا وباريس، رمز الحرية الجنسية عند الذين ﺃلفوها من النجوم الغربيين، و ما بالك بمغنية قادمة من الجزائر ﻷول مرة، من (مروانة الى قسنطينة فالعاصمة) ٳلى الشام سوريا و لبنان مرورا بالقاهرة و باريس، ٳنها اﻷماكن نفسها التي يرتادها الصحفيون و المطربون و رجال اﻷعمال وحتى الروائيون المشهورون، غير ﺃن لباريس لدى الكاتبة ضمن سياق نصوصها السابقة دلالة خاصة، فباريس قد عجت بالوطنيين و الفنانين الذين اۤلمهم واقع بلدهم المتحدر لهاوية الاستعمار و هاوية فتنة التسعينيات من دونهم (ذاكرة الجسد)، ﺃما اليوم ما يشغل الكاتبة ﺃكثر هو ليس ماۤسي الوطن، بقدر ما هو الترويح عن النفس، وٳفساح المجال للتغيير على مستوى الخطاب نحو اﻹستمتاع بالنجومية، فاختارت لذلك باريس وفيينا اللتان تعدان رمزا ومعقلاﹰ للنجوم الذين يلتقون ظاهرياﹰ ﻹتمام ﺃعمالهم الفنية، لكن لا مجال ﺃبدا للهروب من المتع الصغيرة حسب تعبير الراوي ـــــ تمثل المتعة على طريقة المثقفين الغربيين، خاصة فيّينا المعروفة تاريخيا بأن الحريات الفردية فيها تفوق الخيال ـ لا مناص من القول ﺃن كل اﻷمكنة و الوظائف المذكورة في نص" اﻷسود يليق بك"هي جزء من حياة الكاتبة الخاصة حتى بغداد لأنها كانت ومازالت تحت أعين الأمريكان، فالحفلات وأستوديوهات القنوات اﻹعلامية كثيرا ما تلعب دور في صقل حياة المثقف كاتبا ﺃو فنانا حتى قبل النجومية و تجعل هواجسه منصبة في تكييف هويته لتنسجم مع ثقافة الاۤخر قلبا و قالباﹰ.
الخلاصة
ﺃصبح بمجرﱠد رؤية اسم المبدع اﻷنثى على غلاف الرواية، حتى تتحدد في ذهن القارئ تيمته الرئيسية، ٳنها الكتابة النسوية التي اكتسبت هوية ثقافية، لها ما يقابلها في سياق الهوية الداخلية لغة و خطابا، ناهيك عن استفزازها المستهلك القارئ وٳغراقه في"هبال الجسد "على حد تعبير واسينى اﻷعرج. في جميع اﻷحوال ٳنه نص لغة الجسد خصوصية ثقافية نسوية، حتى وٳن تعلق اﻷمر بالدفاع عن حقوق النساء (كما في روايات فضيلة الفاروق) دون الحديث عن الولوج الراقي ٳلى حلقة اﻹبداع من عدمه، ﻷن المتلقي اليوم ﺃصبح متعلقاﹰ ﺒ «مرجعية الجسد، وهو نقطة مشتركة مع المبدع مايجعله يتورط معرفيا في النص » [59] ﻷن المخيال السوسيو- ثقافي ﺃعلى من القيم الجمالية لجسد المرﺃة وفك شفرته المضمرة هو من المتعة بما كان ـــــ فمثلاﹰ في العنوان نلمس شفرة ٳزدواج المعنى لا تنكشف ٳلاﱠ بعد الانتهاء من قراءة الرواية: بحيث بتغيير الكسرة ٳلى فتحة يصبح اﻷسود يليق بكﹶ: كل النساء اللائى تخلى طلال عنهن لابد ﺃن يلبسن اﻷسود له، اﻷسود ﺃصبح أليق بذالكم الثري ﺃما البطلة حري بها اللاﱠزوردي ـــــ «ٳنه الجندر المتمركز حول الذات ورفض السلطة الذكورية والبحث عن الحرية » [60] و الذي له طقوسه وايحاءاته البيتية المستحبة، ﺃصبح التحدي مكوناﹰ من مكونات الهوية الثقافية في الكتابة النسوية، تحدي الرجل الذكر من خلال تيمة التحرر من عقدة التابوهات، سياسية كانت ﺃو جنسية ﺃوحتى دينية، بدﺃ بتمثل الروائيات الجزائريات الفرانكفونيات المقيمات بالمهجر كجميلة حبيب"حياتي ضد القرآن"، مليكة مقدم"المتمردة"و مايسة باي و غيرهن لقيم اﻵخر اﻷخلاقية و الثقافية و معايشتها محليا.
ﺇنﱠ مقابلة مركزية رؤية الذكر للمرأة ولجمال الجسد في نص اﻷسود يليق بكِ ــ كغيرها من الروايات النسوية الجزائرية الجديدة ــ باعتناق ثقافة الاۤخر و تجاوز قضية شرف وكرامة المرﺃة /اﻷسرة في البنية اﻹجتماعية - الثقافية المحافظة هو في الوقت ذاته تجاوز للهوية الدينية، في محاكاة اﻵخر في متعه دون سواها، تحت ذريعة تحرير المرﺃة من قهر واضطهاد المجتمعات المحافظة، فهي تستعمله هوية ثقافية وشفرة تتحدي به الكتابة الذكورية، و مضمر تنتقد به البنية الثقافية خاصة التقاليد الدينية التي هي بمعزل بالضرورة عن كل خطاب و جندر نسوي: «.. عجب، و هو يراها ترتجل تلك الكلمة، ﺃن يكون اﻹرهابيون قد منعوها من الغناء، كأن عليهم إصدار فتوة تحرم عليها الكلام..» [61] استعمال مفردة "الكلام"بدل لفظة الغناء يحيل ٳلى المؤلفة أحلام مستغانمي نفسها (الكلام = النضال بالقلم) فهي اﻷخرى تلقت تهديد بالقتل منتصف التسعينيات من قبل اﻹرهابيين، لتتحول ٳلى بيروت و تستمر بمقابلة الاۤخر (الذكر اﻷصولي) كتابةﹰ ومقابلة سياق اﻷنا تمرداﹰ على قيم الكبت و الاضطهاد، تلك البيئة التي تعتبر كتابة المرﺃة للرواية فقط تمرد و خروج عن أخلاق السياق المحافظ، و ما بالك في ﺃن تنضوي تحت نسق المغنية التي تغني باللازوردي في بيروت وﺃوروبا النسق الخليق بالمجون والانحلال. أما بخصوص المطابقة السردية بين البطلة و المؤلفة، يعتبر ذلك خروجاً عن النظرية السردية حسب جيرار جينيت: «يشكل اﻹصرار على التطابق بين المؤلفين خروجاً عن النظرية السردية التي يستبعد مجالها المؤلف الحقيقي، ولكنه يتضمن المؤلف المفترض» [62] لكن الكاتبة كما رﺃينا قد حكت بتقريرية في ما يشبه سيرة ذاتية تكتبها صحفية ، ﺃحادية الطرح اﻹيديولوجي برغم تعدد الشخوص، لكن في علاقاتهم (الشخوص) بالراوي الكلي المعرفة ما يوحي بوجود نية المطابقة بينها (الكاتبة) و بين بطلتها.