"في الخوف من الحياة حيَاة
تعرفت إلى د.علي بدارنة قبل فترة وجيزة، وأهداني كتابه "في الخوف من الحياة حياة" -قصص من عالم الهيبنوزا (التنويم المغناطيسي)- الصادر هذا العام 2023،عن مكتبة كل شيء- حيفا.
عندما انتهيت من قراءة الكتاب، لهفتي أبَتْ عليّ الحياد، فأرسلت لمؤلّفه رسالة مفادها:
"قد قرأت كتابك من الوريد للوريد فاستنرت بقراءته واستمتعت. لا سيّما في قسمه الأول، وفيه شرح علمي مبسّط عن موضوع التنويم المغناطيسي وتاريخه على مرّ العصور كطريقة علاج ناجعة في مجال علم النفس حين استعصى ويستعصي على الطب معالجتها. كما تفاعلت جدا مع قسمه الثاني- قصص من العيادة -سرد أدبي جاذب لتجارب شخصية لك مع حالات علاجية بأسلوب جعلني أنساب مع النص دون تكلّف. فوجدتني امام معالج/ كاتب يحترم عقلية القارئ ويخاطبها بعذوبة. يكتب من أجل الإفادة لا الكتابة. فتح كتابك امامي عوالم في النفس البشرية، معلومات ومصطلحات في عالم الهيبنوزا، الأعصاب، الوعي واللا وعي، الأبعاد النفسية في الطب، والروحانية في علم النفس... وغيرها كنت أجهلها، وكلما قرأت، ازددت علمًا، فزادني الكتاب علما بجهلي!
طبعا، كنت اتوقف عند بعض الفقرات فدوّنت لي/ لك ملاحظات كثيرة، تعقيبات وتساؤلات... وبغض النظر، انوي لاحقا نشر قراءة انطباعية متواضعة، لكتاب قيّم ترك فيّ اثرًا وبصمة".
وعلى غير العادة وجدتني أنشر حول ما قرأت:
ما لا شك فيه أن الكاتب الطبيب يعيش تفاعلا أدبيا علميا على نحو عميق، الأمر الملاحَظ من البداية، من عتبة النص - فعنوان الكتاب "في الخوف من الحياة حياة" فيه استدراج للقارئ بامتياز. عنوان شائق وقابل للتأويل. أما العنوان الفرعي- التوضيحي " قصص من عالم الهيبنوزا (التنويم المغناطيسي) فمثير للفضول.
لُغويا، وبما يخص التأويل، ففي العنوان إيحاء واضح. من الناحية اللغوية استعمل المؤلف مصدر الفعل-خاف/يخاف معرّفا ومُجرّدا من أية إضافة " في الخوف" ما يمنح صبغة دامغة مطلقة للمعنى والدلالة- دلالة المفردة، دون تأطير أو تقييد أو نسبها لمنسوب إليه. بل ذهب أبعد من ذلك، أن قدم الخبر وجوبا على المبتدأ وفي ذلك منافع بلاغية منها لتمكين الخبر في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشويقا إليه، كما لإثارة الذهن وتشويق السامع إذ أن في العنوان -سماعيا- نغمة موسيقية.
أما بالنسبة للمعنى، يخلق د. بدارنة مفاهيم مغايرة لتابوهات حول مشاعر الخوف -وهي مشاعر إنسانية شرعية بحت. وكأني به يقول في عنوان كتابه، الخوف ليس شعورا مظلما وسلبيا تماما، بل فيه جوانب لها أن تجعل حياتنا أفضل. وبعودة للإنسان البدائي العاقل Homo Sapiens، لولا الشعور بالخوف ما استطاع هذا الانسان الحياة على الأرض وحفظ وجوده وحماية نفسه من التهديدات المحتملة.
ولربما الاقتباس في مقدمة الكتاب دليل على ذلك " لا يمكن أن يكون الخوف بدون أمل، ولا يمكن أن يكون الأمل بدون خوف". (سبينوزا)
راقني جدا إهداء الكتاب " أهدي هذا الكتاب إلى أبطاله، الذين أعطوني الفرصة لرؤية نفسي من خلالهم. شكرا". فإن دلّ هذا الكلام على شيء إنما يدل على طبيب معالٍج متواضع، يرى نفسه - من الناحية الإنسانية- أسوة بمعالَجيه، فيشكرهم بدوره لأنهم منحوه نافذة يطلّ منها على نفسه وعلى العالم.
أما الحالات العلاجية، القصص الثمانية، التي سردها بأسلوب سلس خلّاق، وفيها وصف للتفاصيل لحكمة للكاتب في ذلك، فكان منها عن مشاعر الفقد، الخوف من المرض، رُهاب مخاطبة الجمهور، الخوف من الامتحانات، الأرق، حالات الضغط النفسي.. وغيرها من المواضيع التي لا بد أن يجد القارئ نفسه أو قريبا منه، في إحداها فيتماهى معها. أخذنا المعالج معه في رحلة العلاج، جلساتها، سيرورتها، مدى تفاعل المعالَج مع عملية التنويم المغناطيسي وقضية تأهبه فتعرفت على نظرية Fight, Flight, Freeze في علم النفس إضافة لنظريات أخرى أبدع الكاتب في إيصالها لمدارك كل قارئ وليس للنخبة فقط.
رأيت في هذه القصص، أنها ليست قصصا للترف، أو لمجرد إطلاع المتلقّي على نجاحات طبيب بمعالجة أزمات نفسية، بقدر ما هي لاستدعاء المتلقي عند نهاية كل قصة للمصالحة مع مخاوفه، ليتأمّل، ليغوص في أعماق ذاته ويستكشفها، لذرّ نفحات من السكينة والانشراح وليمنح قارئه شعورا بالسلام الداخلي والأمان.
ثم الفصل الثالث والأخير للكتاب وعنوانه " بدون عنوان" استهلّها بخاطرة له "أنا لا شيء" يناجي فيها نفسه ويدخل في "الغشية". خاطرة عميقة على قصرها أعادتني للمقولة المنسوبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه " وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".
تلتها قصص حقيقية وجدانية خلال مكوث المؤلف في جزيرة كريت، تصف العلاقات الودودة الطيبة له مع جيرانه ومعارفه هناك، حيث الموت غيّب أبطالها وتركه فريسة لشعور الفقد.
في سرده الأدبي البليغ وما وراء هذا السرد، لا ينفك كاتبنا يصهر حاجز الجليد بين القارئ العادي والعلوم- الطب النفسي والهيبنوزا، فيمنح قارئه شعورا بالألفة، ويعزز قيمة "الإنسانية" كنهج حياة.
وطبعا، ما كان لينجح في اصطحاب قارئه معه في رحلته الوجدانية هذه مستنفرا حواسه، لولا البلاغة وجزالة اللغة وبيانها في نصوصه.
أما الخاتمة فشملت ثلاث مقالات ذات قيمة مضافة حول مضمون الكتاب وأبعاده.
ختاما، مبارك للمؤلف، ومزيدا من العطاء نحو مشروع تنويري تثقيفي من صخب الحياة.
ففي قراءة "في الخوف من الحياة حياة" متعة في زحمة الحياة.