عن رواية «الأرملة»
عن مكتبة كل شيء في حيفا صدرت رواية «الأرملة» للأديبين جميل السّلحوت وديمة السّمّان (2023)، وتقع في مئتين وثمان وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، وقد أخرجها ومنتجها شربل الياس.
يحمل الغلاف لوحة لوجه امرأة جميل، ينسدل شعرها على جانبيّ وجهها ويغطى كتفيها.
تَبرُز هذه اللّوحة في الواجهة كنصّ بصريّ إيحائيّ؛ لتلتقي بموضوع الرّواية وتتوافق معه، فرغم سكون ألوانها إلا أن المتأمّل فيها يستشعر الحزن في نظرة العين الصّامتة الحائرة، فذلك الوجه الحزين وتلك النّظرات المنكسرة، تشير إلى حجم الخيبة والانكسار النفسيّ للمرأة في مجتمعاتنا الذّكوريّة، وتأثير ذلك الانكسار عليها، كما يشير اللون الأسود إلى معاناة البطلة وهمومها، ويعكس إحساسها بالفقد والغياب.
أمّا العنوان "الأرملة" فقد حقق دلالته الوظيفيّة والتّأويليّة، انسجم مع محتوى العمل وكان مفتاحا للأحداث وإيقاعا لنسقها الدّرامي، فعبّر عن مضمون النّصّ بشكل مباشر صريح.
تحكي الأحداث قصة الشّابة وردة التي تعمل معلّمة، جمعها الحبّ بزوجها عودة وأنجبا طفلا وطفلة، لكنّ سعادتهما لم تكتمل، فبعد وقت قصير من الزّواج توفي الزّوج بجلطة قلبيّة مفاجئة.
يغمر الحزن قلب الأرملة الشّابة، وتنزوي في شقّتها وكأنّها تعتزل الحياة، تستعيد ذكرياتها مع الفقيد وتفكّر بمصير طفليها، تقرّر متابعة السّير في طريقها ومواصلة الحياة لأجل طفليها الصغيرين، فترجع إلى عملها ودوامها المدرسيّ وهي ترتدي ملابس الحداد.
تتشكّل نظرة المجتمع لوردة، فالبعض يراها فريسة سهلة، والبعض الآخر لا يقدّر وضعها وحملها الثّقيل، وأنها تتحمّل مسؤوليّة تربية أطفالها بمفردها، فيبدأ الصّبر والمعاناة بعد أن عاشت حياتها بسعادة قبل حادث الوفاة، لكنّها لم تفقد الأمل، فتظلّ ترسم صورة المستقبل الواعد المشرق لها ولأطفالها، وفي النّهاية يكتب القدر لها فرحة جديدة بعد رحلة طويلة من المعاناة.
تتشابك الوقائع وتستمرّ مع مجموعة من الشّخصيات التي تتحرّك بين السّطور أمام عين القارئ، لتدفع به للتّفاعل أكثر مع الحدث، كما تتطرق الرواية لتجربة الأرملة ندى وما تعرّضت إليه من مضايقات، ولا شكّ أن الرّسالة التي حملها هذ العمل تنبثق من الواقع وتعود إليه لتصحيحه، فهي تصيب عمق الجرح وتصرّ على علاجه.
إذن فموضوع الرّواية واقعيّ، نُسج بزمرة من الحبكات المتماسكة والغنيّة بالدّلالات، ليعالج قضيّة متجذّرة ومتأصّلة، تعاني منها المجتمعات العربيّة بشكل عام.
تغوص الأحداث في أعماق المرأة؛ لتعبّر عمّا يعتمل في صدرها تجاه الرّجل، وما يحيط بها من مصاعب وأزمات، وكيف تنطلق مأساة الأرملة من عادات وتّقاليد بائسة، ومن قلب مجتمع لا يرحمها، يراقب تحرّكاتها ويترصّد لها، مصرّحا للآخرين التّدخل في شؤونها من منطلق الخوف عليها وعلى مصلحتها أو حمايتها، فتقع فريسة للمراقبة، والقمع واللّوم والضّغط الاجتماعيّ، وتعيش تحت سطوة العيب والممنوع والكبت والقهر.
كما تشهد الوقائع على حياة شخوص الرّواية وتجاربهم، أمّا البطلة فتتميّز باتّزانها رغم معاناتها الشّديدة، والألم جرّاء الفقد، فتعيش قانعة راضيّة بحلو الحياة ومرّها، تتمسّك بالأمل وبذّكرياتها القديمة؛ لتداوي جراحها ونفسها المكلومة.
كتبت الرّواية بأسلوب مباشر، يحمل القارئ إلى جوهر النّصّ دون إضافات أو زيادات، كما وصفت الشّخصيّات ومواقفها وأفكارها ووجهات نظرها إزاء الأحداث المحيطة بها، وانفعالاتها ومشاعرها ورؤيتها إلى محيطها. تطرّق الكاتبان إلى مجموعة من القضايا السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة، وأعلنا موقفهما منها بطريقة فنيّة، أمّا البناء فقد تميّز بالسّلاسة في التّعبير والوضوح وتسلسل الأفكار وبيان الألفاظ، وحضرت اللّغة سّهلة بسيطة، بعيدة عن التّعقيد اللّغويّ والمعنويّ، تمّ توظيف التّناصات التّراثيّة والقرآنيّة وبعض المأثورات الشّعبيّة، مما أثرى الحوار وأدّى إلى تعميقه، ليغدو طيّعا ملائما للشّخوص وطبيعة أدوارها.
"الأرملة" رواية واقعية بكلّ ما جاء فيها، تسقط القناع عن وجه المجتمع وعاداته الرّديئة، تكشفه على حقيقته دون تجميل، وتبرز القيود التي يفرضها على المرأة، كما تحمل دعوة صريحة لها؛ لنبذ واقعها الصّعب وتشجيعها على التّخلّص من الهيمنة الذّكوريّة، التي ارتبطت بها عبر الزّمن.
أبارك للكاتبين وأتمنى لهما التألّق والمزيد من العطاء.