سورة الشعراء
(كلمتي في احتفال اليونسكو العالمي بالشعر،
الذي نظمته اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم)
السورة المنزلة العالية، و"سورة الشعراء" كذلك إحدى سور القرآن الكريم كتاب الإسلام العربي المبين. أتحدث إلى كل مشغول بالشعر في كلمتي هذه، عن أركان سورة الشعراء الأربعة:
1) إيمان الشعراء،
2) إصلاح الشعراء،
3) إخلاص الشعراء،
4) إنصاف الشعراء.
و"المشغول بالشعر" أحب ما أنادي به طالب الشعر، وطالب الشعر عندي هو الشاعر، كما طالب النقد هو الناقد، ولن يزال المرءُ شاعرًا ما طلبَ الشعر، كما لن يزال المرءُ ناقدًا ما طلب النقد!
أنظر في نداء المشغول بالشعر، إلى مجال الأشغال اليدوية الذي جُلنا فيه جميعا صغارا، موحيا بكونه منسوجا من الشِّعر، قد اختلط بلحمه ودمه!
مقام الشعر
تعال إلينا وحيدا ودَع تحت رجلك نفسكْ
على درجات التَّخلي تُحلي بما شئتَ كأسكْ
وتبني بنا ما تشاء وتبعث باليوم أمسكْ
المقام مكان، والمقام مكانة؛ و"المكان إذا لم يؤنث لا يعول عليه"! ربما ظَننتَ أن تأنيث المكان في عبارة ابن عربي هذه هو أن تُليّنه للتمكن وتُذلله للتوطن، على أسلوب العرب فيما يؤنثون مما يعالجون، حتى إذا ما اطلعت على أن تأنيث المكان في العبارة هو أن يصير للكائن مكانةً، أفسحت له كما أفسح لك؛ فتداخلتما، وتمكن كلٌّ من صاحبه!
ربما ظَننتَ أن الزمان زمان الرواية، ينبغي لك أن تفر إليها من الشعر، حتى إذا ما اطلعتَ على أن القارئ إذا قرأ الرواية فإنما يبحث فيها عن الشعر؛ فتلبَّثتَ في مقام الشعر مليًّا، وظهر فيه إيمانك، وبه إصلاحك، وله إخلاصك، ومنه إنصافك- لان لك لينَ الحبيب لحبيبه -و"إذا عزّ أخوك فهنْ"!- وائتلفتما ائتلافَ الخليلين يقول كلٌّ منهما للآخر: يا أنا!
إيمان الشعراء
لم يكن أبو تمام -231=845- ليقول في الشعر:
"ولكنه صَوبُ العقول إذا انجلَت سحائبُ منه أُعقبَت بسحائبِ"،
لولا أن الشعر عنده هو لسان إيمان الشاعر، وكل إناء بما فيه ينضح! وإنما ترجحُ كلمةُ الإيمان هنا غيرَها، من حيث ينبغي أن يترسخ في رُوع الشاعر رأيُه في نفسه وفي الناس وفي الكون، بتحصيل علم الوجود الذي تتجلى به جهاتُ حركةِ الثلاثةِ الثلاثُ (جهةُ مِن أي المبدأ، وجهةُ الباء أي المسير، وجهةُ إِلى أي الغاية)، ولا يتركَ نفسه للآراء العارضة التي لا يقر له معها قرار.
ربما ظننتَ أن تحصيل ذلك من شأن العلماء المشتغلين وحدهم بالاكتشاف والوصف والتفسير والتوقع والتحكم –ومنهم الفلاسفة- ولو اطلعتَ على توفيق الشعراء، من ذلك إلى ما لم يُوفق إليه العلماءُ أنفسُهم لأَكذبتَ ظنَّك، ولأضفتَ إلى سبيل تحصيل الحقيقة التي يعرفونها، سبيلا أخرى يعرفها الشعراءُ وحدهم، منهجُها التذوق الذي يُوفق به كلُّ من وُهب موهبتَهم الاستشعارية.
يسعى الشعراء سعي السالكين قبلهم -مهما كانت أزمنتهم وأمكنتهم- ويصحبون غيرهم، ويتأملون أنفسهم ومن حولهم وما حولهم، ويستنبطون كنه المبدأ والمسير والغاية، ويتملَّؤون بما استنبطوا؛ فلا يفيض إلا به شعرُهم، لا، ولا يمتاح إلا منه، ولا يدور إلا عليه، عفوا لا قصدا، وقصدا لا عفوا، حتى إنهم ليُنسبون إلى إيمانهم، مهما هفَت منهم هفواتُهم، ومهما اشتطَّت بهم شهواتُهم!
إصلاح الشعراء
الإصلاح مضاف هنا إلى فاعله لا مفعوله!
ربما اعترضتَ بضرورة تحصيل الصلاح قبل محاولة الإصلاح، احتجاجا بمثل قول أبي العتاهية:
"لن يَصلح الناسُ وأنت فاسدُ هيهاتَ ما أبعدَ ما تكابدُ"!
وعلى رغم أن الصلاح يكاد لا يظهر إلا بالإصلاح، تتكفل بالصلاح في أثناء الإصلاح المكابدةُ التي ذكرها أبو العتاهية، على هَدي جواب السؤال الثقافي المشهور "أيجوز أن يُصلِح قبل أن يَصلح؟"، بأنه يَصلح بالإصلاح، وهو معنى المشاركة الذي في المكابدة.
إن للشعر على الشاعر أن يُنير به الناسَ بصيرةً ويقوّمهم مسلكًا فيزيدهم إنسانيةً -مهما تعاكست عليه الأحوال حُبا أو بُغضا ورِضًا أو سَخَطًا!- وهذا سحر بيانه المعروف؛ إذ لا يخلو من المقادح مع الممادح شيءٌ، على ألا يَصدر الشاعرُ في مدحه إذا مدح وقدحه إذا قدح، إلا عن إرادة الإصلاح.
ومن ذكر إيمان الشعراء ذكر زهرةَ النار الناشبةَ في أرواعهم، وما عبيرها الفواح إلا الإصلاحُ، الذي ينتشر منها حتى يملأ المكان من حولها، فمن دخله عندئذ تملّأَت به أقطارُ نفسه -وإن لم يطلبه- فازدهر وازدان أو ازدجر واستقام!
إخلاص الشعراء
يرتع الشاعر كل مرتع، من نفسه وممن حوله وما حوله؛ فلا يربأ بنفسه عن شيء، ولا يربأ بنفسه عنه شيءٌ، حتى إنه ليتعرض أحيانا لتهمة التكسب (الانتفاع المادي)، ويوشك أن يُنفى بها من مجتمع الشعراء، لولا نباهة بعض من وقف من نقاده على أنه إنما يمدح من يحب أن يكونه ويهجو من يكره أن يكونه ويذكر أو يتذاكر وينسى أو يتناسى؛ وهذا أبو تمام -231=845- يقول:
"ولولا خلالٌ سنَّها الشعرُ ما دَرى بُناة العُلا مِن أين تُؤتى المكارمُ"!
إن إخلاصك الشيءَ هو أن تُخْليه مما ليس منه، وإن إخلاص الشعراء الشعرَ هو أن يُخلوه مما ليس شعرا. ومهما افترقنا في تعريف الشعر اجتمعنا على أنه كلام فني! ولن يكون الشعر فنا حتى يَختصَّ من التفكير والتعبير بما ليس لغيره من أنواع الكلام، ولن يكون كلاما حتى يَعمّه من التفكير والتعبير ما يَعمُّ غيره من أنواع الكلام؛ ومن ثم ينبغي أن تختلط في الشعر أخلاطُ التفكير والتعبير الخاصة بأخلاط التفكير والتعبير العامة!
وإنما حَطَّ مِن بعض الشعراء أنهم اقتصروا في شعرهم على الأخلاط العامة -فجعلوه كلاما فقط- أو على الأخلاط الخاصة؛ فجعلوه فنا فقط. ولم يخل شاعر، لا كبير ولا صغير، منذ هلهَلَ الشعر العربي عديٌّ، من أن يهفو هذه الهفوة، حتى إن بعضهم ليخفيها من ديوانه! وإنما يمتاز كبار الشعراء من صغارهم، بغلبة هفوات هؤلاء ونَدرة هفوات أولئك!
إنصاف الشعراء
الإنصاف مضاف هنا أيضا إلى فاعله لا مفعوله، والمنصف هو من يعطي من الحق كما يأخذ؛ فالحق عنده أبدًا نصفان: أحدهما له، والآخر لغيره، ومن أخذهما كليهما أو أعطاهما، لم يُنصف!
وفي مقام الشعر يذكر الشاعر نفسه والناس والكون من حوله، ولا يخلو ذكرُ أحد هؤلاء الثلاثة من منازعة:
إن في الكون ما يأنس إليه وما يستوحش منه، فإذا ذكره كان كما قال البردوني-1420=1999-:
"بلادانِ داخله هذه جنينٌ وهذي عجوزٌ طريحةْ"،
يحب الحديثة، ويكره القديمة، ولكنه يَحرسهما جميعا!
ثم إن في الناس من يأنس إليه كذلك ومن يستوحش منه، فإذا ذكرهم كان كما قال المتنبي-354=965-:
"وربما أُشهِد الطعامَ معي من لا يُساوي الخبزَ الذي أكلهْ"،
يحب الشجاع، ويكره الجبان، ولكنه يُطعمهما جميعا!
ثمَّتَ إن في نفسه ما يأنس إليه كذلك وما يستوحش منه، فإذا ذكرها كان كما قلتُ:
أقسِّم جِسمي لي نصيبٌ وللبلوى نصيبٌ على ألّا نَصير إلى الشكوى،
يحب السلامة، ويكره البلاء، ولكنه يَقبلهما جميعا!
منتهى السورة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
"والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"؛
صدق الله العظيم!