رسالة من برلين
رفيقي محماد
لا أريد أن أسرد عليك حكايتي التي أصبحت كعادة صباحية تسمعها وأنت تتناول كأس الحليب. اليوم، استيقظت وأنا مازلت داخل مدار حكاية ألف جرح وجرح. سمعت صوتا يناديني ولم أصدق أن علي الشيباني [1] المتمرد يقترب من همساتي ولا يريد أن يفارق ظلي. قال لي مقهقها:
ـ لقد جربت كل أنواع الأسلحة وشاركت في الحرب الهند الصينية ولكن...
لم يكن يكمل جملة واحدة حتى أحس به وقد سقط على الأرض من شدة الضحك. لا أدري أين يختبىء. كان محصنا،و في كل مرة أتحرك فيها لأبحث عنه تنبعث فقط رائحته. لم أقو على المغامرة. قلت له بأعلى صوتي:
ـ لماذا أتيت إلى هنا، فلا وجود لحرب أو أسلحة دمار. هنا، الإنسان تحول إلى موضوع لهذا العالم، يحتضر ببطء إلى أن يموت كقطعة شمع ملتهبة.
أجابني ودون أن يتردد كما كان يفعل معنا في تلك الأيام الملعونة:
ـ الموت ديال الفقايس [2] أصعب وأقسى من ضربات الكلاشينكوف.
آه يا صاح، كم بكيت وأنا أحاول إيجاد أثر لرفيق الليل في حجرتي الوحيدة، هناك،حيث أختنق كلما أحسست بالغبن وكرهت الجلوس منعزلا، ألمس بأناملي صورة المرحومة وهي تبتسم قائلة:
ـ يا ولدي، اجمع رأسك، الموت بين الأحباب نزاهة!
أنت تعرفني أكثر من المرحومة. لا أحب العودة إلى سنوات الجمر. أريد فقط أن أتسلل كالفأر إلى غرفتك المهجورة. إذا كانت ذاكرتك خصبة،فلابد أنك ستراني كيف لا أخلف ميعادنا المقدس. كل ليلة سبت أجمع حقيبتي الكارطونية وقطع الجرائد التي قرأتها طيلة الأسبوع.أرحل بعيدا عن أولئك الذين تسميهم بقوم ابن كلبون. لم أرغب يوما في أن أطرق بابك الحديدي قبل الساعة الثامنة، فأحلامك الوردية لم تكن قد تشكلت بعد وأفكارك الذهبية تكون في حالة اختمار قصوى تنتظر أن تتفتق منها روح الجمال.
هل مازلت تتذكر أيام كؤوس الشاي بدون نعناع. آه من هذا الاسم المخدوم وما كان يحدثه في نفسك. كنت في كل مرة أزورك، أعرف انك لا تفتح الباب حتى عندما تسمع صوت <خونا في الله> يوسف وهو يقول:
ـ ارزم، ينك آمحماد...
كنت تجيبنا بلغة تكاد تنسلخ عن المعتاد:
ـ جئت أيها الشقي...!
كم رغبت في أن أجرب حظي مع الشاي المر ولكنك منعتني ولا أدري لماذا كنت تقدم لي فقط الطاجين المحاط بكسرات الخبز المبللة. كنت تضع أمامي كأس الكوكاكولا اليتيم. كم حلمت بذلك السائل الجاف حتى سال لعابي. كنت أرى الحكمة ترتسم على وجهك المحفور بآهات الوطن. ثنايا لسانك وقبلاتك الكثيرة التي توزعها على علي و<خونا في الله> كانت تقول لي أنك في حالة انتشاء متعالية.
كان علي دائما يجلس أمامك. يختار الأرض ملاذا يسع لمؤخرته. يدقق النظر في يدك اليسرى وهي تغلق كل الأجهزة ولو كانت معطلة. كان يتابع خطواتك الصغيرة داخل الغرفة حتى تنطق وتطالبنا بالسكوت كي نسمع صوت عبد الحليم. أنت تعرف أن علي لا يحب نغمات العندليب الأسمر ولكنه يعشق أن يرى شطحاتك عندما تبدأ في إطلاق العنان لحروفك النارية.
لا تنزعج يا صديقي، لقد حفرت على حائط بيتي الأملس إبداعك الرائع. لقد كتبت بحروف المداد الذي لا يمحى. < من أساء فبسبب بطنه !> عندما أخرج لرؤية أشباح النهار، أجدهم جميعا، أولئك الذين يمارسون الشر ويحبون تعميق الجراح الآدمية من أجل تأمين بطونهم التي تكاد تنفجر. أشاهدهم بأم عيني كيف ينهشون لحم الضعفاء. فأقول لنفسي وأنا أرفع رأسي إلى السماء:
ـ هذه هي الكائنات التي يلعنها محماد كل صباح قبل أن يشرب كأس اللبن الممزوج بالسكر.
رفيقي محماد، لقد اشتقت لرحلاتك وأسفارك التي كنت تقدمها لنا كطبق شهي كل نهاية أسبوع. كم من مرة اخترقت معك جبال الأطلس الكبير وأزقة مدينة تارودانت الضيقة وأمسيات الدار البيضاء الضائعة. كنت أنصت إليك مسافرا، راحلا ومتذوقا لحلاوة كلامك عن ثقافة الشعب المطلية برائحة السياسة النتنة. كانت لحظاتنا ومازالت كأشجار الصنوبر العالية، تنحني من كثرة ثمارها. آه من تلك الليلة المقمرة التي خرجنا فيها ضاحكين ونحن نغني عن الجنة والقلب وأحوال العاشقين. كانت الساعة تشير إلى الساعة الرابعة صباحا. قبلت جميع الرفاق وأنت تعبر عن سعادتك القصوى بتلك الجلسة الحميمية.
أخي محماد، هل نسيت حكمك المجنونة حول نساء لا يعرفن لعنة الخيانة ؟ أفكر دائما في تلك الليلة التي اتكأ فيها صاحبنا على كتفي الأيمن حتى انهار من شدة ضحكه فتكسر الكرسي الذي لم يعد يقاوم هزات ظهره المقوس. كان يستمع إليك بشغف وأنت تتحدث عن <المرأة الحكاكة >ذات البظر الطويل، تؤنس النساء وتعوضهن جنسيا عندما يغيب رجالهن عن الدار لفترة طويلة. فليست لكل نساء العالم هذا النصيب من الذكورة. أتذكر جيدا، كنت آنذاك واقفا عندما صرخت قائلا:
ـ لعنة الخيانة لا تطارد النساء مادامت <الحكاكات >حاضرات في كل زمن وحين!
هل تتذكر عندما سألك خونا في الله بحروفه الطفولية:
ـ أين نجد هذه < المرأة الحكاكة >؟
كان خطابك كرعد ينبعث من السماء. عم سكوت مطلق داخل غرفتك، ثم قلت له في هدوء تام وأنت تحضنه:
ـ الحكاكات كالكنز لا تجدهن في كل مكان!
كنت تفتح فاك وكأنك تريد إخراج عبرة تخنقك. نظرت إلي بحماقتك المعهودة. صوب علي كلماته في اتجاهي ثم خاطبني بكلام تحول إلى نكتتنا الساخرة:
ـ أنت هو المغرّق، العفريت...!
أجبته منبهرا:
ـ ولماذا تقول يا صاحبي هذا الكلام وأنا غارق من رأسي حتى أخمص قدماي في الهم والغم؟
ـ أنت بأسئلتك المفخخة تخرج الكلام المعسول من بطن محماد دون أن يشعر بذلك وكأنك ساحر... أنت...عفريت!
أخي محماد، مازالت ذكرياتنا الجميلة تحاصرني كل لحظة بهذه المدينة الغائمة، فمجلتك البالية وأوراقك الصفراء وخطوطك المائلة، كلها تعلن لي كل يوم عن ساعات وأيام وسنوات قضت عليها لعبة الزمن. إنها لابدة في الروح والعقل، تخاطب جنوني كل أمسية، عندما تغيب شمس برلين وتتحول ساحاتها العظيمة إلى فراغ قاتل.
مشاركة منتدى
8 نيسان (أبريل), 04:37, بقلم عماد
هذا النص الغرائب افتتحت به صباحي مع زقزقة العصافير، حتى قبل تناول أول كأس حليب. ورغم ضبابية النص وجدتني ارجع إلى حقب غيبها الزمن من تاريخي العتيد، يوم كنت في زنزانتي في الأقسام الداخلية محاط ببعض الصعاليك. كان الإفلاس والسكر والقحط الجنسي يشحذ المخيلة:
"الرغبة في الكتابة نوع من الشبق، السائل يجري على الورق" او ماشابه. آخر ما كنا نمارس نحن "الطلاب" هو الدراسة. من المزح الثقيلة عندما كنا نجلس في مدخل بناية جمعية الطلبة البروتستانت لوجود اوتمومات بيرة بسعر رخيص، جاء قطيع من الرجال السعوديين يبحثون عن ابنهم عبد الرحمن، فرد عليهم ابو سوزي بنبرة تدعي الجد وتطفح بالسخرية، لم يفقها الفوم:" تجدوه في قاعة المحاضرات هنكل شتاين في الزاوية". هنكل شتاين كانت حانتنا المفضلة بومها