ديوان «بغداد صبرا» حينما ينكسر الحلم
في ديوانه "بغداد صبرا"* يحلق بنا شاعرنا دكتور/ عصمت رضوان في عوالم رحبة مليئة بالحزن والأسى والانكسار على ضياع حاضرة الخلافة الإسلامية التي ظلت ردحا من الزمن منارة يشع نورها على عواصم الدنيا.. إنها بغداد مدينة السلام تلك العاصمة العربية والإسلامية التي تمتد جذورها بطول تاريخ متأثل ومتجذر في ذاكرتنا العربية والإسلامية.
وكان احتلال العراق وسقوطها فريسة في يد الأمريكان ومن حالفهم وسط تواطؤ دولي وتخاذل عربي وإسلامي أمرا في غاية الصعوبة على نفس كل عربي ومسلم، وانكسارا لبقايا حلم طالما راود الكثيرين أن تكون هذه العواصم التاريخية نواة لتجمع عربي إسلامي يلم شمل الأمة لستعصى على المعتدي إن أراد بها سوءا..
وجاء الديوان ليكون شاهد صدق وسجل نفسي ومعنوي لهذه المأساة التي ألمت بمدينة عربية وإسلامية لها وقعها في ضمير كل عربي ومسلم.
يقسم الشاعر ديوانه حسب وقع المأساة... ما قبل الحرب.. أثناء الحرب.. ما بعد الحرب... وفي كل قسم يتجلى التصوير ليعبر عن وقع المأساة سواء في انتظارها وترقبها، أو أثناء مشاهدتها والحسرة على واقع عربي متمزق لا يملك أدوات التعامل معها.. ثم مدى الحسرة واللوعة التي انتابت العراقي بل العربي والمسلم بعد سقوط بغداد..
يصدر الشاعر ديوانه بقصيدة "رسالة إلى عراقي" والقصيدة كتبت قبل أيام من اندلاع الحرب الظالمة... صور الشاعر الحالة النفسية التي عاشها العراقي وسط حالة من الترقب والانتظار لهذا الكابوس المؤلم الذي مهد له المحتل لسنوات من حصار ظالم وتقليم الأظافر أي مقاومة قد تكون.. وحرب نفسية شاركت فيها قوى دولية وإقليمية بهدف كسر الإرادة
يصدر الشاعر قصيدته بقوله:
هموم بصدرك كم تثقليدك الروابي ما تحملأمور تطير صواب العقولأطار صوابك أم تعقل؟فعهد الحصار طويل ثقيلوعهد الوغى وطؤه أثقليحوم ببغداد بوم لهفترنو الرصافة والموصلنذير بحرب عبوس ضروستكاد فتائلها تشعل
ويبرز الشاعر الحيل الكاذبة التي ادعاها المحتل ليشعل حربه المجرمة حينما ادعى وجود أسلحة دمار شامل مستغلا ضعف المؤسسات الدولية كمجلس الأمن وغيره.. وهي مؤسسات يمتلك المحتل فوهتها.. وليس لنا نحن العرب والمسلمين فيها إلا الفرجة والمشاهدة..
لجان تفتش في كل شبرعسى يظهر المخبأ المقفلومجلس أمن له كل يومقرار بشأنك لا يعقلوكف تروم خراب الديارفكل بنان بها معول
ولكن الشاعر في نهاية القصيدة يفتح باب أمل مذكرا بأن الله عز وجل هازمهم عاجلا أم آجلا فمهما كان مكرهم فإن مكر الله غالب:
إذا رام قتلك كل الجيوشفرمية ربي لهم أقتلفمكر الإله أليم شديدومكر الأنام هو الأفشلعسى الله يردي طغاة الأنامويدحرهم بالذي نأمل
ثم تقع المأساة ويعيش الشاعر لحظاتها مسجلا ومصورا الأثر النفسي الذي عاشه العرب والمسلمون أثناء هذه الحرب الظالمة ففي اليوم الثالث من اندلاع الحرب يكتب قصيدته " بغداد صبرا " والتي حملت عنوان الديوان يستهلها بقوله:
بغداد صبرا في الخطوب عنيداوأري الأعادي عزة وصموداوإذا أروك لظى الطغاة شديدةفأريهم بأس الأباة شديداقولي لهم لن تطفئوا منى السناما كان عهد ظلامكم ليعوداقولي لهم لن تقربوا مني الحمىستكون أرضي للغزاة لحودا
ويستمر الشاعر في قصيدته مستحثا بغداد على الصمود وعدم الاستسلام :
يا جارة النهرين لا تستسلميلا تقبلي ذلا ولا تهديدا
فتخضبي بدمائهم واستجمعي أشلاء أعداء السماء عقودا
ويذكرها بماضيها الخالد:
بغداد يا أرض البطولة والفداكم قد شهدت جحافلا وبنودا
ولا ينسى الشاعر أن يبشرها بالأمل:
بغداد صبرا إن في أثر الدجىفجرا من النصر المبين جديداسيحوم طير النصر فيك مرفرفايعلو المدائن والقرى و البيدا
ويستمر الشاعر في قصائده مستحثا الشعب العراقي على الصمود مهما طال أمد الحرب ففي اليوم الثالث عشر للحرب يكتب قصيدته " لا تطأطئ " وجاءت القصيدة على شعر التفعيلة والتي تذكرنا برائعة أمل دنقل" لا تصالح":
يا أخي المذبوح في أرض العراقلا تطأطئوارتفع فوق الطباقيا أخي المسقي من كاسات بابللا تطأطئ للجحافلوالقذائفوالقنابل قم فقاتل
ويسجل لنا الشاعر بعض تفاصيل الصمود ويعطينا نموذجا رائعا لبطولة العراقي الذي يدافع بأبسط الأدوات آلة حربية جبارة فيحكي لنا قصة هذا الفلاح العراقي المسن: علي منقاش. الذي أسقط ببندقيته اليدوية طائرة معادية:
أبصرت طائرة العدو لطيشهاتختال فوق حماكم وتحلقتعمي العيون سماجة وأزيزهارعد لرهبته يفر الفيلقلكن قلبك يا مظفر ما وهىوكأنه لشهادة متشوقفهرعت نحو البندقية تبتغيدفعا لكيد يبتغيه الأحمقبسملت باسم الحق ثم تصاعدتالله أكبر بالسما تتعلقأطلقت في عزم قذيفة ملهمسلمت يمينك بوركت إذ تطلقفهوت لضربتك الأباتشي وارتمتالله أكبر وعد ربي أصدق
وفي قصيدة "صافرة الغارة" والتي كتبها في اليوم السادس عشر للحرب يصور الحالة النفسية التي عاشها العراقي من جراء هذا العدوان الغاشم لكن هذه الحالة النفسية حينما تمتزج بالإيمان والتحدي والصمود تتحول الحياة أمامها إلى طاقة أمل وانفراج:
صافرة الغارةتبعث رعبا ما أقساهودوي المدفعيعزف لحنا ما أشجاهوسحاب الناريساقط موتا لا تخشاهوصفير الغارةسوف يعود نشيدا حرا ما أحلاهوخيول النصرتجيء بيوم ما أدناهحاملة فرسانا غراوسيوفا باركها الله
وفي الجزء الأخير من الديوان بعد انكسار الحلم وسقوط بغداد يستهله الشاعر بقصيدة يشوبها هجاء ولوم وعتاب للأبواق الإعلامية التي طالما استمرأت خداع شعوبها وكان ذلك ممثلا في وزير الإعلام العراقي " الصحاف " الذي ألفته الشاشات في ذلك الوقت يهدد ويتوعد ويدلي بتصريحات يندد فيها بقوات التحالف ويصفهم بالأوغاد والعلوج والمرتزقة، ثم اختفى بعد الاستيلاء على بغداد في 9 أبريل 2003، وكتبها في اليوم الأول للاستيلاء على بغداد وعنوانها : رسالة إلى الصحاف:
قد كان صوتك في التلفاز يحييناويبعث النور يسري في دياجيناكأنه البلسم السحري نلمسهولمسه رغم عمق الجرح يشفينا
ثم يسائله:
أين العهود التي قد كنت تقطعهاأين الوعود التي قد كنت تهديناأين المحارق يصلاها العلوج غداأين القبور أعدت للمضلينا
ثم يقوله له:
مضى وعيدك لم يعبأ به أحدوأنفذ القوم ما قد أوعدوا فينا
وفي اليوم الثالث لاستيلاء على بغداد يكتب الشاعر قصيدته "بغداد عذرا" يلوم فيها المتخاذلين ويعاتبهم عتاب المكلوم من الأسى:
بغداد عذرا إن بعثت ملامافالقلب قد جمع الهموم ركاماما كنت أحسب رغم ما قد حدثواأن الأبية تعلن استسلاما
ويختمها بقوله:
بغداد عذرا ضاق صدري بالشجىهل تعذرين إذا بعثت ملاما
ثم يبعث بـ: رسالة ثانية إلى الصحاف.أوسعتهم سبا وأدوا بالوطن " وهذا هو عنوان قصيدته التي كتبها في اليوم السابع للاستيلاء على العراق:
ما زلت تقسم بالجباه الشامخاتلتحييلن الوغد القبيح إلى رفاتولتسقين العلج كاسات المماتصحاف خبرنا بما فعل الغزاةأوسعتهم سبا وأودوا بالفرات
ثم يلجأ الشاعر إلى السخرية الغاضبة من المحتل في قصيدة "اطرح هاتفك المحمول" وكتبها الشاعر من وحي زيارة الرئيس الأمريكي "بوش" للعراق سرا في 27 نوفمبر 2003، وأمره لمرافقيه بطرح هواتفهم المحمولة ضمانا لسرية الزيارة... يقول فيها:
اطرح هاتفك المحمولمن يضمن لي أن يفي الخل بأوطانفيها العنقاء وفيها الغولالسحر بساحتها حق واللامعقولوالكل لديها أجنادترمي وتصولفالنخل سيوف مشرعةوالزرع قتول
ثم يتابع الشاعر في سخرية لاذعة على لسان بوش:
يا ويلي لو تدري ميسونفتفر إلينا ناسفة أطباق الجوألا تدرون؟يا ويلي لو يدري منقاشفيسدد فينا طلقتهوالموت براحته مضمونيا ويلي لو تدريأشباح الإرهاب المجنونفنموت ضحايا لعنتهأو نحيا في ظلمات سجونفيبيت البيت الأبيضفي حزن وسوار وشجون
ولا ينسى الشاعر أن يوجه رثاء لشهداء الحرب الغاشمة المجرمة من العراقيين الذين استشهدوا دفاعا عن دينهم وأرضهم وعرضهم:
هات المراثي يا قريضي هاتوانظم مطولة من الآهاتواجعل من العبرات حبر قصائديوالبس حدادا يكتسي أبياتيواستجمع الأشعار تجثو خشعالرثاء شعل عالج السكرات
ثم يفتح الشاعر باب أمل ورجاء أن يفرج الله تعالى كرب الأمة لتعود إلى سالف مجدها عزيزة أبية
رباه قد طال الدجى بربوعناوالنفس ملت حالك الظلماتفمتى يشع النور في آفاقناومتى تحين نهاية المأساةرباه فرج كرب أمة أحمدوأقل بفضلك هذه العثراتلنعود من بعد الهوان أعزةوتكون هذي آخر الأزمات
ويبلغ الشاعر أوج إبداعه حين يتوجه بقصيدة نظمها باللغة الإنجليزية على لسان طفل عراقي إلى " بوش " وكأنه يقول لهم إن كنتم لم تعرفوا قدر جرمكم بحقنا لأنكم لا تفهمون لغتنا فها أنا ذا أحدثكم بلغتكم لعلكم تفهمون وتدركون ما أحدثتم من جرائم بحق شعب أعزل... وهذه بعض أبيات مترجمة من القصيدة:
إني أرى دماء السلام على وجهكإني أراك في سباق مع الشيطانسوف يلعنك التاريخلأنك حاولت أن تزيف الجغرافيا
وفي نهاية الديوان يذكر الأمة بعروبتها الحقة التي تناستها في خضم الأحداث الجسام بل كانت هذه الحرب الظالمة دليلا على دعاوى واهية.. بعد أن شاركت بعض الأنظمة العربية وتواطأت أخرى في هذه الحرب... ففي قصيدة من وحي العروبة يقول:
ليس العروبة ألفاظا يرددهامن كان في غمرات الهون خزياناولا العروبة أنسابا يعددهامن راح يحفظها بالحرف جذلانافرب أعجم ليس العرب تعرفهولو دعوناه قحطانا وعدناناوكم دعي أساء العرب نسبتهلما بدا من ثياب العرب عرياناإن العروبة روح في هياكلناإذا توارت يصير المرء جثمانا....
أخا العروبة لو هانت عروبتنافكل غال بهذي الأرض قد هانا
وهكذا استطاع الشاعر أن يرصد لنا أصداء هذه الحرب الغاشمة في لغة شعرية موحية ومعبرة وصور بيانية راقية وخيال عبر به عن مكنونات ما تعرض له العراقي من أذى نفسي ومعنوي جراء هذه الحرب الغاشمة.
ولم ينس الشاعر في معظم قصائده أن يبث الأمل في غد مشرق تعود فيه الأمة إلى سابق عهدها، وما هذه الحرب إلا غمة وستنجلي آجلا أم عاجلا بفعل الصمود والتحدي الذي يجب أن يكون عليه ليس العراقي فقط بل العربي والمسلم، لأن هذه الروح التي تشربت معاني الإيمان لا يمكن أن يتسرب إليها يأس..
ديوان بغداد صبرا.. نشر دار الجامعة.. مصر. ذو القعدة 1424هـ - يناير 2004 م.
** دكتور عصمت رضوان.. شاعر مصري.. أستاذ مساعد الأدب والنقد.. جامعة الأزهر