الأحد ٢٨ أيار (مايو) ٢٠١٧
بقلم رياض كامل

دراسات في الأدب الفلسطيني

مقدمة

يضم الكتاب مجموعة من المقالات والدراسات حول الأدب الفلسطيني، وتحديدا في مجالي الرواية والشعر. حاولنا استجلاء مكامن النص وفك شيفراته إيمانا منا أن النص لا يقوم بذاته، بل من خلال إقامة حوار بينه وبين القارئ المتلقي، وكل نص ناجح هو نص منفتح قابل للتأويل مع تعدد القراء وتعدد القراءات. لقد قرأنا النصوص مستفيدين من النظريات التي تناولت هذه الجوانب، وهي رغم تنوعها واختلافها إلّا أنّها قد تلاقحت وتبادلت التجارب واغتنت من بعضها البعض.

ما زلنا نؤمن بالذوق الأدبي الذي يتطور بفعل القراءة والبحث المتكرر، ونؤمن أكثر أن التحليل لا يكتفي بالتذوق الأدبي لأنه يجب أن يدعّم بالقرائن والبراهين، فأولينا اهتماما كبيرا لنجيب عن التساؤل الذي طرحه الشكلانيون الروس، والذي سيظل يتكرر ما دام هناك دارسون ومنظرون يبحثون في هذه القضية الفنية الهامة من أمثال رومان جاكوبسون وغيره: ما الذي يجعل هذا النص أو ذاك أدبيا؟

نحن نؤمن، كغيرنا، أن الشعر فن القول، وفن صياغة الفكرة، فلا يمكن أن تكتمل الفكرة إلا إذا عرضت بصورة فنية لها فرادتها. كما لا يمكن للفن أن يكون فنا إلا إذا توهج بالفكر الحر العميق والمتفرد في إبداعه. ونحن من الذين لا يؤمنون بمقولة "الفن من أجل الفن" ولا نراها فكرة محايدة كما تبدو للقارئ في المواجهة الأولى، ولم نصل بعد إلى ذاك "الترف" الفكري الذي يحررنا من عقال ما يحاصرنا من أحداث يومية تقض مضاجعنا، وتقض ضمائر أدبائنا.

لقد أولينا أهمية كبرى لهوية الأديب الخاصة، لنرى من خلالها كيف يتمكن المبدع من التواصل مع المتلقين، فرصدنا الوسائل الفنية والتقنيات التي يوظفها المبدع لخلق هذا التواصل من ناحية، وبحثنا عن فرادته من ناحية أخرى، لأن المبدع الحق هو الذي يسعى جاهدا من أجل خلق هوية أدبية مميزة. وكما أن الرواية "ما تزال في صيرورة"، كما يقول تودوروف وباختين وغيرهما من المنظرين والدارسين، فإن الشعر لا يزال في صيرورة هو الآخر، يتبدل ويتغير ويتجدد، وفقا للظروف والأحوال.

وكما أن للشعر العربي، عامة، خصوصيات ومميزات، كذلك نستطيع أن نقول إن للشعر العربي الفلسطيني، بالذات، خصوصياته نظرا للظروف التي ما زال الشعب الفلسطيني يمر بها ويئن تحت وطأتها. لقد وجدنا أن نبرة الحزن غالبة على الشعر الفلسطيني، كما يتجلى في معظم ما أفرزته قريحة شعرائنا، فعمدنا إلى شعر حسين مهنا نستجلي مكامن الفرح المتبقي بين ركام الأحزان فوجدنا صراعا خفيا بين الفرح والحزن، وذهبنا إلى شعر مفلح الطبعوني نستكشف معالم الابتسامة فعثرنا على حزن تحريضي ساخر.

يرى المتابع للإبداع الفلسطيني، عامة، ميلا للتوثيق، وبالذات توثيق المكان والزمان، وذلك نتيجة ما تعرّض له الإنسان الفلسطيني من تهجير وتشرد وضياع، ولذلك فإن الأيديولوجيا تأخذ دورها في توجيه الأديب، لتنعكس على معظم ما نشره أدباؤنا. حاولنا استقراء هذا الجانب عند أكثر من أديب فوجدناه في رواية الناقد محمد هيبي "نجمة النمر الأبيض" التي يرفض بطلها الزواج إلا بفتاة تعشق "المنارة" وتعقد قرانها هناك، ورأينا الصحفي عودة بشارات يدخل عالم الرواية فعمدنا إلى "ساحات زتونيا" التي يتناول فيها موضوعا رياديّا، وهو الصراعات الحمائلية التي تقض مضجع أهالي قرانا العربية اليوم، وهي من الروايات القلائل التي تعالج موضوعا محليا في حياتنا اليومية دون العودة إلى الماضي.

وقفنا عند أكثر من روائي وأكثر من رواية فرأينا عددا كبيرا من الروائيين الذين يتقيدون بالأحداث السياسية التي عصفت في بلادنا وهزت أركانها، فخصصنا لبعض هذه الروايات دراسة بعنوان "الرواية العربية بين التوثيق والخيال" لنرى حرص الروائي على ترسيخ مأساة شعبه، كما ينعكس في رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، و"سيرة بني بلوط" لمحمد علي طه. ووجدنا أن الروائي يحيى يخلف قد خصص معظم رواياته لمتابعة نكبة الفلسطيني وهجرته وتشرده في بقاع الأرض حالما بالعودة إلى وطنه الأم، حتى تحقق له ذلك في رواية "جنة ونار"- التي نأمل أن نعالجها في مناسبة أخرى - ليفتح بذلك باب الأمل من جديد.

كما لفت نظرنا مدى حرص الروائيين والشعراء على توثيق اللغة التي تحمل الكثير من مميزات ومواصفات عالم القرية الفلسطينية قبل عدة عقود، ولا نقصد، فقط، اللهجة الفلسطينية بل اللغة بذاتها التي تشخص المكان وتربطه بالزمان ليكملا، معًا، صورة القرية الفلسطينية وأهلها كي ترسخ في الذاكرة الجمعية، لعل من أبرزها ما قام به الأديب محمد نفاع الذي تمكّن من إحياء اللّغة الفلاحيّة الجليلية في ظل زمكانية محددة، وذلك في معظم ما كتب من قصص، وبالذات في روايته "فاطمة" التي تناولناها بالدرس والتحليل.

أمّا بما يتعلّق بالشّعر، فهناك مجهود كبير ومميز قام به الشاعر سعود الأسدي الذي أراه أكثر شعرائنا توثيقا للغة الفلسطينية ولهجتها المحكية في كل ما نشر من دواوين منذ عقود، فبرزت في شعره صورة القرية بناسها وأهلها وتجلت صورة الجدة، كما عهدناها، ترعى الجميع وتنثر الحب والسكاكر والحكايا لينام الصغار قريري العين، تماما كفعل الشاعر شكيب جهشان في معظم دواوينه، وبالذات في ديوانه "أذكر" الذي وثق صورة القرية في زمن الضيق فرأينا الجيرة الطيبة بين جميع أبناء القرية، ورأينا الأم العين الساهرة الحريصة على حماية البيت ليكون عشا يلجأ إليه الجميع.

كما رأينا ميلا عند الأدباء نحو الدفاع عن المرأة ودورها قديما وحديثا لإعادة بعض حقها وحقوقها الضائعة في متاهة التقاليد البالية، وذلك في الشعر والرواية على حد سواء، فوجدنا لهم دورا إيجابيا في رفع مكانة المرأة العربية الفلسطينية أما، جدة، أختا، ابنة، حبيبة، مزارعة، ربة بيت وزوجة تصون البيت والجيرة الحسنة، فخصص إبراهيم نصرالله روايته "شرفة العار" لتكون صرخة في وجه المجتمع العربي الذي ما زال غارقا في وحل الجاهلية ووأد البنات.
لقد كان للأحداث السياسية والاجتماعية بالغ الأثر في مضامين المؤلفات، فالأدب الفلسطيني سريع التفاعل مع الأحداث السياسية والاجتماعية بحيث يمكن للباحث أن يدرس تاريخ التطور الفكري والاجتماعي والسياسي من خلال الإبداع الفلسطيني. وهنا لا نستطيع أن نشير إلى شاعر بعينه لأن هذا الجانب شغل معظم الأدباء العرب الفلسطينيين، وكان من نصيبنا أن نتطرق للدور الكبير الذي قام به الشاعر المرحوم سميح القاسم، إذ يستطيع الدارس أن يتوقف عند الدور الريادي الذي قام به هذا الشاعر وهو يحمل مع رفاقه راية الشعر العربي الفلسطيني ليصل به إلى مكان متقدم، موظفا أساليب عدة للمقارعة كان من أبرزها السخرية بكل أنواعها وتجلياتها.

كما يستطيع الباحث، من ناحية أخرى، أن يرصد تطور الأنواع الأدبية في بلادنا من ناحية فنية من خلال معاينة ومتابعة ما ينشر، وقد وجدنا أن البون بين الشعر، من ناحية، وبين الرواية، من ناحية أخرى آخذ في الانحسار لصالح الرواية، وإني لمن المعتقدين أن زمن الشعر لن يولي أبدا ما دام هناك شعراء مبدعون، لكني أرى أن الرواية الفلسطينية تشق طريقها بجرأة أكبر من ذي قبل، وستغدو عما قريب منافسا قويا للقصة وللشعر الفلسطينيين، وستجد لها متلقين جاهزين لاستقبالها.

بقي أن نضيف ملاحظة نراها في غاية الأهمية وهي اتساع حيز الأدب النسوي، وبشكل لافت، فاحتل مكانة متقدمة في مسيرة الأدب العربي الفلسطيني من أوسع أبوابه في العقد الأخير، شعرا، قصة، رواية وبحثا أكاديميا، بعد أن كان يقتصر على بعض الأسماء. وكان لنا دور في معالجة جزء من إبداع الأديبة راوية بربارة في "ثورتها المهادنة" وهي من اللواتي يقمن بدور عريض في مجالات الأدب المتنوعة. وإننا لنرى أنفسنا مقصرين في تناول هذا الجانب الذي نأمل أن نجد الوقت لتخصيص بحث يتناول الأدب النسوي في بلادنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى