الرقيع والمرأة
هزة تلو هزة، كل هزة تقتلعه من جذوره المنخورة،لكنه أبدا لم يستسلم، في وعيه يتحدى القدر، وانه بإمكانه هزم الزمن وسحقه، وجعله طيعا تحت إرادته،دنكشوط يحارب الطواحين الهوائية، لكن الطواحين في رأسه الاشعت المتسخ أمراض مزمنة، يعتنق الأوهام في شوق لذيذ، يفتح ذراعيه للسراب بلوعة وهلوسة، يحاول أن يعصر من جلده أملا خادعا، لكن الأمل يتحول إلى أشواك، ضجيج أعمى، هرولة مفضوحة، الجسم الهزيل، مثخن بالطعنات، يحمل نعوشا من الانكسار، تمتصه الوقاحة، يسافر في أقبية الدنس، الوجه المكمرمش هجره امرح، وكبس القبح على الأوردة، مثلما تكبس الرهبة على بريء يساق ظلما إلى ساحة الإعدام، قدره أن يكون وصمة عار على نفسه وعلى الناس، إن أصعب إحساس يواجهه الإنسان، الإحساس بالنفي الداخلي والعجز عن الانفلات من براثن العنجهية.
يقعي وحيدا،تطير المخيلة بعيدا، تحت زخات المذلة، العذاب المملح يهزه من المؤخرة، الوجوه المتكلسة،تبصق الشماتة،المناقير الحادة تمارس لعبة التهكم والنهش،يراهم يتغامزون أو يخيل إليه، يفيض الماضي البعيد والقريب وتبدأ غصة أخرى، في الأوردة تسافر الفضائح ويكبر الصدى، كؤوس السائل الأسود، تندلق في الجوف باردة وحارة، تطرد تذيب في ثنايا الجمجمة، الهزائم النابتة في عمق الأعماق وغليان داخلي أشبه ببركان يبعثره، الأشياء الجميلة تهشمت، فقدت نعومتها رونقها، تماثيل ممسوخة في ساحة حرب الزجاجات الفارغة لها وقع خاص أصوات السكاري ترتفع تتداخل،سحابات الدخان تكبس على المكان بشدة، الأنخاب توزع يمينا وشمالا، دعوة من هنا وأخرى من هناك، كرم حاتمي لا مثيل له، متسول يطوف على الموائد، تمتلئ اليد المرتعشة بالقطع النقدية، يدعوه سكير يجلس في زاوية وحيدا إلى شرب كاس، ربما يحتاج إلى جليس آخر، ينزعج المتسول، ينسحب مهرولا، أسخياء هم السكارى ينفقون بغير حساب، اليوم خمر وغدا أمر صدق الشاعر الطريد، ربما لسخائهم علاقة بفقدان الوعي، فكثير منهم غارقون في الديون حتى النخاع، كثير منهم ابخل من البخيل، الوعي وللاوعي يتصارعان، حرب ضروس تشتغل في الذات، تعلو الآهات والزفرات، تنسكب الحوباء فوق أقداح عصير الشعير، واهمون هؤلاء يحسبون أن الراح حلال للمشاكل، لكنه حل أشبه بمن يتبول مكرها في وجه الريح.
صورة المرأة التي أحبها وتعلم معها لعبة الولوج لعبة الكر والفر، تمطرق الرأس ترفرف فوق الذاكرة كسرب حمام، لماذا تغيرت فجأة ...؟. سؤال يخترق الدماغ كل ثانية كل دقيقة، لم يكن قاسيا، طلباتها مستجابة، ترك لها مقود السفينة لتبحر أينما تريد وقت ما تريد، تبدل كل شيء دفعه واحدة، أصبحت حادة الطبع، طريقة الكلام اشد سخافة، المفردات قاسية كحد السيف، مفردات مبتذلة، من أين لها بهذا القاموس الذي تعبق منه رائحة التجريح الهجين، وان ينسى فانه أبدا لن ينسى ليلة طردته من غرفة النوم، رعب قاتل اخترق القلب، كأن رصاصة إصابته بغتة، ظن في أول الأمر أن مسألة المزاج السيئ، مرتبط بالعادة الشهرية إرهاق أو شيء من هذا القبيل، لكن عندما تكرر الطرد تيقن انه فقدها إلى الأبد، وان طريقهما افترقا بغير رجعة،وان كل المبررات التي بنى عليها تصوراته كانت أوهام،طرزها في لحظة خوف، عقل مخرف، مع الأيام اتسعت الهوة، اتسع الشرخ، وأصبحا خندقين مختلفتين، كالجالسين على طاولة القمار، كلاهما يظن انه سيفوز في الجولة الموالية، غريب أمر النساء لهن قدرة عجيبة على التحمل، لكن إذا ما قررن شيئا يذهبن في طلبه بعيدا، يتحدين جميع الصعاب للوصول إلى الهدف المنشود ولو استغرق الوقت زمنا طويلا، هل هي صحوة متأخرة ومحاولة للانفلات من اسر الأعراف القديمة فهذا الامر يحتاج بالضرورة إلى ثورة عارمة على النظم والتقاليد العتيقة الموروثة لتستعيد المرأة حيرتها كاملة وتبحر بسلام بدون عقد في دواليب الحياة.
– انك إنسان بدون مبادئ لا تحترم حتى نفسك.
– في السبق لم يكن هدا رأيك.
– كنت مخدوعة أو قل معصوبة الأعين والآن بدأت أرى بوضوح
– كأنني مصدر تلك الغشاوة .
– الآن بدأت تفهم.
– افهم ماذا..بعد هدا العمر الطويل بأنني لست الرجل الذي كنت تتمنينه.
– إن أفضل وسيلة لكلينا أن نفترق
– ..اه..والأولاد ما ذنبهم...
– ذنبهم أنهم جاؤوا عن طريق الخطأ.
الوحدة القاتلة تطوقه تحاصره كطائر اغترب عن وكره في لحظة طيران طائش وفي فترة الغياب تحول الوكر إلى محج لأسراب الطيور الجارحة وكر للشبق المحرم، الألم يهدهده يهزه من كيانه، الم مهيض ومر الإنسان محكوم عليه بالالم مند الولادة قبل ان يتعد فن المشي يمارس عليه الألم عندما يجزون عضوه وعندما يبدا في النمو يتلقى الصفعات من كل جانب لكن اكبر الصفعات تلك التي تكبل حريته باسم القانون والدين والتقاليد لمادا خانته بتلك الطريقة الفاضحة والشاذة...لقد مرغت الشرف الممرغ في الأوحال شرف العائلة يتهاوى مثلما تتهاوى أوراق الأشجار في الخريف، اليوم الأسود يرفرف حول أبواب الذاكرة، امتزج البكاء بالعويل امتزجت الكلمات باللعنات هتكت بكارة المستور أم الأولاد المتعلمة مربية الأجيال تدفع داخل السيارة الموشومة عارية وبجانبها العشيق مكبلان يا للفضيحة يا للعار في عينيهما تكبر أمواج الدهشة الرعشة تهزهما بعنف انتشر الخبر بسرعة البرق تدفقت أفواج البشر على الزقاق كأنهم كانوا مختبئين خلف الأبواب، أطفال يتصاحبون موسم ليولي من أولياء الله الصالحين لم يبق سوى الأعلام والبيض والخضر لتكمل الصورة ارتفعت التعليقات، أطلقت الادمغة العنان لا لسنتها بدأت عملية الرجم مئة جلدة مليون جلدة الأفواه تفترس بمهم الكارثة تمزق العائلة طولا وعرضا عندما تسقط البقرة تكتر السكاكين
– أتعلم أنهم كانا شديدا الخصومة بسبب تبرجها الفاضح.
– لقد سمعت مثل هذا ولكن الأسباب الحقيقية لا يعرفها أي احد
– وهل تعرفها
– اجل.. خصامهما له علاقة بالنتانة والقذارة التي تضرب من جسده،ألا ترى بأنه يشبه متسولا ،كيف لامرأة جميلة أن تستحمل خنزيرا في سريرها كيف لامرأة أن تقبل بفم يشبه مؤخرة قرد، كيف لامرأة أن تعاشر رجلا خسيسا يتبرز التفاهات.
– معك حق
الصراخ يعلو الجدران تميد سفينة تمخر عباب بحر هائج قعقعة الكؤوس تمتزج بالموسيقى الداعرة الخمر فكاك العقد يفك الأجساد المتخاذلة من مواجهة الذات يفك من اسر الطبقة الاجتماعية الصحو يجعل الإنسان في مواجهة شخصيته الحقيقية العبودية الأبدية للرقيع توجد بين أفخاذ المرأة التي مسحت به الأرض، اللعنة على النساء، المرأة تتزين لتعطيك أقبح ما عندها.
– أتعرف أن زوجتي خانتني
– اعرف لا يهم مع من ومتى وكيف المهم أن تفهم أن جميع النساء خائنات لان داخل كل واحدة تقبع مومس تتربص الفرصة للانطلاق.
– ابنة الكلبة ...تستحق الشنق
– اشنقها في دماغك ....
ارتقى فوق الكرسي ترنح يمينا وشمالا، فتح ذراعيه كالمسيح المصلوب، فغر الفم الفارغ، خرجت الكلمات محشرجة، جريحة، معمدة، تشتم منها رائحة الاضطهاد النفسي، الأعين السكرى مشدودة إلى الهيكل المنتصب وسط القاعة، ارتفع الصراخ والتصفيق، زعيم سياسي يستعد لإلقاء بيان هام وسط حشد من الصم والبكم، انزلق السروال، بدأت لعبة التعري، والتعري شيء مألوف، متأصل في العائلة، مند آلاف السنين، لقد عاش في وكر يقتات من العري، من شب على شيء شاب عليه، بانت القوائم الرخوة التي تشبه خراطيم مياه معلقة في الهواء، اشتد التصفيق والصفير، علت القهقهات، تقدم منه حارس الحانة، جذبه من تلابيبه،قاوم بشدة، عالجه بضربة على أم بطنه، ارتطم بالأرض متكورا كالقنفذ، حملوه من الأربع، القوا به في الزقاق،تمر الدقائق رتيبة، تلفحه النسمات، يستعيد شيئا من وعيه، ثمة أطفال يراقبونه، اقترب منه احدهم، ربت على الجيوب رفق، دس اليد في الجيب بخفة، خرجت تحمل صفرا، سقطت عيناه على الحذاء المتهرئ، مليء بالثقوب، لا قيمة له،بصق على الجسد المدد كثعبان ميت، أكمل سيره، كلب ضال، يحوم حول الجسد المكوم، تحركت حاسة الشم، رفع الساق اليسرى، بال على الجثة الهامدة.
قطرات المطر تغسل الوجه المجعلك، اخذ يهدي بكلام مبهم، في تثاقل شقي، فتح عينيه، في الرأس الأشعث طواحين هوائية، تدور بسرعة، امتدت اليد إلى أزرار السروال، باحثا عن توازن مفقود، لم يجد الثقوب الصغيرة، تقدم خطوتين إلى الإمام، رجلاه لم تعد قادرة على حمله، خارت قواه، دارت الأرض من حوله بشدة، انزلقت إلى عينه الصغيرة، صورة المرأة التي خدعته، مزقت الكبرياء إلى أشلاء، رآها تتقدم فاتحة ذراعيها، في ثوب شفاف، قضيب من البان، تعلق بسمة تقطع الأنفاس، الأرض من تحتها مفروشة بالزهور والرياحين، فتح ذراعيه، طوقها بنعومة،ضغط على الحمامتين النافرتين، راح يمر يديه على الجدع في وحشة، جسدها بشم، انزلقت دموع الفرح، تغسل الوجه الذي تشطره الأخاديد إلى عدة أشطار، شبيه بمحرم في أيدي مستنشق للسعوط، خيل إليه أنها تبكي وأنها تتوسل طالبة المغفرة.
– أرجوك لا تتركني وحيدة لقد أخطأت في حقك
– سامحتك حبيبتي
– صحيح
– اه.... ما أروعك ..ما أنبلك
تحول البكاء إلى نحيب مشترك، اشتد العويل، لم يكن العويل ندبا، كان اقرب إلى صوت المستغيث، غير انه يبعث الحزن في نفوس العابرين، انتشله صوت رقيق، كأنه أتى من جوف الأرض، لطمه الوعي، كالخارج من غيبوبة طويلة، خجل من نفسه على نفسه، لقد كان يعانق بقوة عمودا كهربائيا.