الذي كسب الرهان
امرأة وجهها - ببساطة – مثل وجه القمر ، عاشت بين تلالنا أربعين عاماً إذا رآها قومي مقبلة صاحوا دفعة واحدة :" يا زين اليهودية روّحت" وإذا أدبرت لحقتها قلوب القوم وهمسوا بنظرات كلها مرارة :" عقّدت اليهودية" .
قيل لي أن أحد الرجال الصناديد غنم أمها ذات مناوشة دارت رحاها بيننا وبينهم . أم خلفان حينذاك ، كانت معصورة في بطن أمها كقطعة من عجين ، لا تعرف أصلاً لها ولا فصلاً . كبرت بيننا ونمّت مثل شجرة الدفلاء ، قامتها تسر الناظرين ، وطعمها مرّ كالحنظل يشوي الأكباد ، وخاصة على الرجال الذين يرون فرقاً بين الأنثى والحمارة ، والتلال عندنا تضج بالحمير منذ أن عمر الله الأرض ، ونربيها كما نربي أبناءنا وإذا سمعنا نهيقها ، نشعر بطمأنينة عجيبة ، وأن الدنيا ما تزال بخير ، نحضر الماء على ظهورها ، ونحرث على ظهرها أرضنا ، ولا عجب أن المرء إذا ماتت حمارته، حزن عليها ووفد إليه المعزون ، المهم أن أحد أقاربي تزوج أم خلفان ، واسمعه معيوف ، ولقد كان معيوفاً بحق ، نفرت من أمام سحنته جميع النساء ، العزباء والأرملة والمطلقة والعاهرة ، كان رجلاً ربع القامة ، لكنه محني الظهر.
لكأنك إذا شاهدته شككت أ نه ينقب عن شيء ضاع منه ، أما إذا ألقيت بالاً إلى عينيه ، ستجد واحدة فقط . مرمدة وحمراء يسيل منها الدمع والقذى .الأنف كان كبيراً فتحتاه واسعتان مثل كهفين صغيرين . يقع فوق فم كسول يسمح ارتخاؤه بخروج اللعاب في كل حين. فيه أسنان برتقالية اللون من كثرة تدخين "الهيشي" خص الله بهذه الأعضاء وجهاً مستطيلاً أمرد لم تنبت فيه شعرة واحدة، يخالطه الشحوب وتملؤه البثور . كان الرجل يعمل "ورّاداً " عند رجل صالح من جيراننا فتح الله عليه بالقرآن ، فأنشأ يعالج الرجال والنساء بما منّ الله عليه . يجمع معيوف الحمير كل صباح فيعلفها الذرة والشعير ويسقيها الماء . ثم يشد رحالها . ويسير صوب البئر . ينشل المياه على ظهور الدواب . فتعود محملة . وهو خلفها يتسلى بطرد الذباب عن فمه وعينيه . ويبصق هنا وهناك . رجل فقير هين التفكير . زهد في الدنيا .
وزهدت الدنيا فيه . لكنه يصلي الفروض الخمس . ويعبد الله كأنه يراه في كل ساعة . وحين غزا الشيب رأسه المائل إلى اليسار . وشحب لون وجهه . لم يجد بعد امرأة في مضاربنا تأوي إليه أو يأوي إليها . حتى أنه كاد يهم بحمارة له وهي محملة بالماء . لولا عصمة الله . فض بنطاله . ورفع ذيلها. لكنه شعر بريح قوية تكاد تكنسه عن الأرض . وسمع مع صفير الريح صوتاً عجيباً يقول له " لا .. لا " فزرر بنطاله وهو يلهج بالاستغفار . وقضى من بعد ذلك أسبوعاً يسبح الله . ويندم على فعلته . لكنه إذا لاح له مجلس فيه شراب . لا يوفر . ويشرب الخمر . تبرم الرجل من حاله .
وكاد يسخط على الدنيا لولا قوة إيمانه . فراح يشكو أمره على كثير من العباد ومنهم جدي الحاج درويش ، فأشار جدي على أم خلفان وقال لها بصوته الأجش الناعس "طاوعيه وكوني زوجة صالحة " .
تزوجها معيوف بمباركة جدي والرجل الصالح، وذبح ليلتها نعجة عجفاء .. وسمعت الناس من بعد ذلك يتهامسون .. " يا لحظ معيوف .. ما أعضبه في ليلة ". هكذا سمعت والله أعلم . لكنها امرأة فاتنة الجمال لولا أنها يهودية لتزوجها اجمل شباب القبيلة .
إذا حدّق بها رجل عالم بجمال النساء ، سرعان ما تقرص قلبه ، امرأة مرنة كعود من الخيزران ، وطرية كطعم الموزة ، تنفرج الشفتان الحمراوان عن ضحكة ثائرة يتماوج فيها الصهيل والغنج مع بياض أسنان لامعة . لا تشبه امرأة في مضاربنا ، خاصة أن النساء عندنا يشبهن الرجال في كل شيء الأصوات خشنة مبحوحة والوجوه سمر ، والشفاه تدخن "الهيشي" ، وتحمل المرأة سلاحها وتذهب إلى الصيد كما يفعل الرجال . وحتى لا نظلم أم خلفان . فتذكر ذلك الوهج المعربد في وجهها فسريعاً ما تبرم شفتها السفلى أثناء الكلام . فتخرج بها حدود الشفة العليا . ثم ببطء شديد تعيد المياه إلى مجاريها .
امرأة مثل قدح من الخمر . في أي لحظة يقدر أن يضيع صوابك . وكأن الله رمى في وجهها أنوثة أربعين امرأة. ضحكتها بطيئة لكنها ماكرة يصل حفيفها أطراف الأكباد . غريبة هذه المرأة . وكأن الملل لا يجرؤ أن يتسلل إلى عينيها . مع أن مناطقنا ملوثة بروث البهائم لا تسر حتى بهيماً . قال أبو مسعود التاجر عندما رآها : " إن رجلاً يراها ولا يعشقها اعتبره ليس عنده قلب " ثم انفجر غاضباً : " ولا حتى إحساس لديه" . خمسة وعشرون عاماً ، والرجل ربع القامة يتنعم ويلتهم من هذه المرأة .
هو يزداد انحناءً وقبحاً ، وهي تزداد فتنة وجمالاً . ربما قدسها طوال تلك السنين . أو هي قدسته . الله اعلم . وأغلب الظن أنه لم تفت ليلة دون أن يمد لسانه ويتذوق طعمها . أرسلني جدي ذات ليلة ، لأنادي معيوفاً كي يتعشى معه ، وحين اقتربت من رفة البيت ، سمعت المرأة تولول وتصيح ، وحسبته يضربها . فناديت عليه ، لكنه لم يرد ، اقتربت ، فوجدته في شق البيت راقداً عند فخديها . لا ادري ما يصنع بها .لكنه كان يخرج صوتاً مثل فحيح الأفعى . وانقلبت عائداً إلى جدي ، وقلت له أنني لم أجد معيوفاً.
حتى دهم الرجل الطيب هازم اللذات ومفرق الجماعات . فتركها تسرح وتمرح بين قومي . وهؤلاء على أصناف شتى . فمنهم المسكين الطيب . الذي إذا نظرت إلى عينيه برهة، داهمك البكاء لفقر حاله وشقاء أيامه .ومنهم القوّاد الذي هام بالنساء ، حتى إذا لم يجد امرأة ، انفجرت مرارته كرهًا وغيظًا . تركها بين قومي ولا خيار لديه . تخيلته يتمنى أن يحملها معه لشدة ما تعلق بها . لبست الحداد أربعة أيام . ملاءة سوداء واسعة ، تلف جسداً بخ الله فيه ضياءً، فأشعل قلوب القوم ، سواد وعتمة، ووجه ابيض مستدير ومكتنز . سبرت إلى أغواره مسحة حزن . فاندلعت الحرائق في قلوب القوم . وهم لا يبالون بالحزن ولا غيره . شاهدوا امرأة إن أسعف الحال وجالستها ، ليست تكف عن الكلام المباح ولا غير المباح . إن صممت على إغرائك ، هويت بين رجليها . ولو كنت ورعاً تتبتل في أواخر ليالي البرد . تركها معيوف رغم انفه ذي الفتحتين المظلمتين .
امرأة عندها صندوق من أسرار الأنوثة . وصدر هائج يترنح يمنة وشمالاً . صدر يتحمل ويتغاضى تعليقات كثيرة من رجال كثيرين . ومنهم جدي الحاج درويش .
ضحك جدي ولا أدري لم ضحك ، لأنني ببساطة تواً دخلت ، الشيخ الجليل متربع على مقعده الخشبي في وسط الغرفة ، يلم كتفيه بجاعد مرقط ، تجلس قبالته أم خلفان . ولا يفصل بينهما سوى بردعة حمار وكوز الخمر . جدي يواصل ضحكته التي تشبه كركرات عود الحراثة . ويهز رقبته ذات اليمين وذات الشمال ، وعمي عمشان ينزوي بعيداً يرفع وعاء الخمر الذي أمامه إلى فمه بين الفينة والأخرى . ولم لا يضحك جدي ، تسعون سنة يجرين خلفه كما تجري البغال أمام عرباتها . ولحية نبتت في أسافلها شعيرات بيضاء جميلة . وثلاثة أسنان تركها له الزمان . واحدة في فكه الأعلى واثنتان في فكه السفلي . مدّ لي يده كي اقبلها ، فقربتها كعادتي إلى فمي ، وشممت يداً هزيلة ، عظامها بارزة كأعواد "الطاب" .تلتصق بها قطعة جلد مشجرة ببقع داكنة . وكأنها آثار لحروق قديمة . وعينان غارقتان في خشوع في محجرين صغيرين . ورأس نحيل أمرد . لكنه يحمل شموخاً طاغياً إذا رافقه ذلك الصوت الأجش الناعس . وصوت جدي أسطورة من أساطير الزمان . عندما يتحدث وهو جالس على سريره الخشبي . يتابع الناس حديثه وهم جالسون في بيوتهم . صوته له طعم عتيق مثل جرار الخمر التي يعتقها في زاوية الغرفة من عام لعام . وحين تنظر إلى القلنسوة البيضاء وهي تلف رأسه تشعر بجلاله المهيب . وتشعر أنك أمام ملك من ملوك الزمان بزغ من الأرض للتو . جلست بجوار جدي صامتاً ، لكنه بقي يضحك ، وأصبح ضحكه مثل الصهيل ، يهبط ثم يعلو . يلتفت لي مرة والى أم خلفان مرة .
قال وهو يربت على فخذي المجاورة له : " عرضت على أم خلفان أن تتزوجني أتدري ما رأيها ؟ " . قلت : " فالك زين يا جدي" . قال : " رفضتني وقالت أني لا أنفع الحريم. " . ثم ضحك ، ولا ادري لماذا أحسست بشيء مثل الغضب يمور في ضلوعي السفلية ، ونازعتني رغبة أن اضرب الأرض بكلتا قدمي حتى تبكي . ولكن ذلك ممنوع في حضور الزعيم جدي. لم يصرّ هذا الشيخ أن أعرف رأيها وأنا منشغل بمراقبة الأشياء وهي بذرة . ثم أراقبها وهي تنمو وتكبر وتشمخ . فاقترب منها وأنا أتفاءل ، وأنا اشعر بفيض من فرح لست ادري سببه . لكنها ما تلبث أن تشحب وتصفر ، وتذوب أمام عيني ، ثم أراقبها وهي ترقد رقدتها الأخيرة . كم هي قليلة تلك اللحظات التي تنتمي لي ، كجزء صغير من نسيج محموم على صفحة من الصبر والاحتمال . ولِمَ لا ترفضك أيها الجد الهزيل . امرأة صورها الله على احسن صورة . ثم رشق بوجهها وجه الحياة كي يخفف من قبحها .
واصل الرجل المسن صهيله الحاد بين كلمات متعثرة بسبب قلة الأسنان :" ولم ترفضني أم خلفان ، وأنا أنوي أن أقودها في كل ليلة إلى حجرة دافئة ، فيها جرة خمر ، ونار لا تنطفئ " .
أرملة جميلة ، وشيخ يراهن على قدرات قديمة خبرها في صلبه ، وأنا خارج الحلبة . كل منهم له مبرراته ، أما أنا فلا مبررات لي . واستغرب لماذا لا اتركهم ، وامضي إلى حال سبيلي .
همس جدي : " العمر شيء تافه يا أم خلفان ، المهم سلاح الرجل " فانفجرت المرأة تضحك ، ودغدغت أطراف أكبادنا بضحكتها .
فقال جدي : " إن لم تصدقي ، جربيني قبل أن تتورطي وتندمي ".
واشتعلت الغرفة بالضحك ، جدي ، حتى ثلاثة أسنانه تضحك وأم خلفان تصهل . فأثارني منبت الثديين . وهو يتراقص على جانبي الصدر . يهبط فأهبط معه ، ويصعد ، فأصعد معه . وعمي عمشان مطرق ، محايد يتفكر في مخلوقات الله ويسكر . لكنه رفع رأسه ، وتنحنح . وكأنه يريد أن يقول شيئاً لكنه لم يقل شيئاً .
قالت المرأة : "إن الكلام تذروه الرياح ، والله لو رأيت الشيء الذي عندي، لاتقيت الله في لسانك هذا. شيء مثل فلقة الفراولة ، يا حاج درويش ، أكبر سلاح لا يعمّر فيه ثانيتين " .
فاضت روائح الرغبة في أرجاء الغرفة ، ثلاثة رجال يتصببون عرقاً ، وامرأة تزداد تلألؤاً ودهاءً .
قال جدي : " توكلي على الله ، سترين عندي شيء مثل العجب " .
وأطرقت أم خلفان وقالت بصوت مبحوح فيه رنة حزن كاد أن يبكينا جميعاً :" عندما مات معيوف ، همس في أذني شيئاً ، وكان ساعتها يحتضر ولا ادري إن كان يهذي . قال : " إن عندك شيئاً أذهلني طوال السنين " وطلب من ربّه أن يمهله ساعة فيتودع منه لكن الله قصف عمره.
وكاد كلامها هذا أن يطوّح ما تبقى فيّ من اتزان ، امرأة – يا للعجب – من جيل أمي، لكنها تحسن التروع إن شاءت . وتهوم بالسحنة التي أمامها في شعاب غرائز لا حدود لها ... امرأة تنعم في برهة . وتطرد وتحرق في أخرى . وثديان صلبان نافران وطيبان . قوام عدّله جيش من العواطف ، قوام شرس المعالم لكن قطاً أليفاً وجميلاً يتمطى في زوايا مظلمة في داخله .
أشعر طوال السنين التي مضت إنها بعيدة . بيني وبينها "بحر من الأمور التافهة" . لكنها الآن تقترب وفكرة تنازعني أن أتلقفها من براثن هذا الشيخ . ببعض الحنكة . قلت لجدي : " دع عنك هذه المرأة يا شيخ درويش، إن كيدهن عظيم " لكن الشيخ قرص فخدي ، كي أكف ، أطبقت عظام إبهامه وسبابته على لحمي ، فسكت .
قالت أم خلفان : " أنتم تعرفون أني يهودية الأصل . وتعرفون أن النملة – وهي نملة – تعتز بأصلها . نحن اليهود لولا القضية الأخيرة ، أخوة لكم " .
ثم أدارت لي رأسها قائلة :
" إن هذا الشيخ يموت الآن في أن أعطيه شيئي . يتمناني كالملهوف ، ما رأيك أن نتصالح . أنا امثل اليهود . وهو يمثل قومه " .
ثم رأيت جدي يصغي بلهفة .
وقالت : " إذا هزمني في هذه الليلة ، ستكون له الأرض وما عليها ، أما إذا هزمته ، فلا أرض له ... "
غمز لي عمي عمشان ، وتركنا الغرفة ، ساحة نزال ، واسعة تشبه اصطبلاً قديماً تربى فيه الخيول والحمير . فيه سدة خشبية ثابتة في الأرض منذ خمسين عاماً . وامرأة وشيخ ورهان .
قبل أن يودعني عمي ، همس لي : " إني أخشى أن تفتك العاهرة بجدك " .
وفي مساء اليوم التالي ، قصدت بيت جدي ، فوجدته جالساً مكانه ، يضحك كعادته . وقبالته أم خلفان مبتسمة ممشوقة القد . وفي الزاوية يقبع عمشان واضعاً يديه على رأسه ويرتشف من الخمر بين الفينة والأخرى...
ولا ادري من الذي كسب الرهان .