الحقيقة التي أبكت الجنرال..
حين غابت الشمس عن أرضه.. ورحل العندليب عن دربه.. ماتت الكلمات على بابه.. بين الفقد وحاجاته.. ضاقت الأشواق في صدره.. مات الحب.. فقد العشق أسمى عباراته.. حينما اشتد البغض في قلبه.. ودب اليأس إلى قلبه.. تاه اللواء عن حلمه.. قبل أن يشد الصيف رحاله.. ويفضح اللهيب عريه.. ويهلك بالنار أهله.. أذاقه الوجع خزيه ومره.. فراح يوقع بيديه رحيله.. ما أضناه وما أشقاه.. هكذا أنهى في المقهى روايته.. من شدة آثامه.. اجتر مرارة دهائه.. دقت الساعة.. غادر اللواء دهاليز قصره.. رحل ولم ترحل البزة معه.. تاركا النياشين خلفه.. قد تكون أوهاما ليست لها أية قيمة.. لدينا.. أشياء حسبناها بالأمس عصيبة.. إلا أن الأقدار ما كانت لتكون به رحيمة.. كل من عليها فان.. يبقى وجه ربك ذي الجلال عظيما.. قد تبدو أشياء صغيرة.. نهايات حسبناها بالأمس بعيدة.. إلا أن كل شيء عند الله قريبا.. ترك أشياء غالية ثمينة.. إلا أنه لم يترك الخليلات من بعده وحيدة.. يسألونك ما إنجازاته العظيمة؟.. قل ليته لم يوقع الوثيقة.. ولم يتخذ السلطة له عشيقة.. قبل رحيله المنشود.. راح يلقي في بحر عينها بلومه.. من حطمت بلا رحمة غروره.. مخبئا.. مخيبا.. متخليا.. نادبا حظه.. لم يستوعب اللواء سبب إخفاقه.. ولا سر تلك اللكمات التي توالت عليه.. نحو الغروب.. والهروب.. والجنون أودت به.. تلك كلمات ألقتها وبيلا عليه.. كادت الوغى أن تفتك به.. لم يبال بما كان يحيط به.. بآهات لطالما استنجدت به.. نظرات خائفة ظنها المغرور متيمة به.. لم يدرك سر خفقان قلبه.. ولم أعرف بدوري كيف أجبر بخاطره.. سوف يسائله التاريخ عما كان فاعلا.. لا تحسبن الله عنك وعنهم غافلا.. كان يبحث عن بذلة تقيه من نوائب الدهر.. عن سلطة تحميه من قلة الحيلة والضعف.. عن شأن يرفعه بين عامة الشعب.. عن جارية تصرح بشرفه.. تشهد على صحة فحولته.. يبحث عن معجزة من الزلات تنقذه.. عن شهر زاد الحكيمة.. ترمم رجولته.. يبحث عن جارية ينام بين ذراعيها.. تطوف به عبر العصور الوسطى.. سبايا ترسو به في القصور المهجورة.. تحتفي به في جميع الأمكنة.. تلقي به خارج الأزمنة.. يا هل ترى من طريق إلى قلبها.. آه لو تلفتت له الدنيا.. يلتقي بها مرة أخرى.. يأخذ بثأر سيادته المهزومة.. حين رقص اللواء حافي القدمين.. رأيت طائرا مذبوحا بخنجرين.. وحين بكي مهزوما أمامي.. علمت أن المسكين ذاق الأمرين.. وأن البلاد أصبحت تعاني.. ما أصعب أن يفقد الحياة مرتين.. مرة حينما أقيل من المنصب.. ومرة حينما ذرف الدمع أمام بابها الموصد.. وجدت نفسي أواسي.. من كنت بالأمس بسببه أقاسي.. رحت أخفف من حسرته.. رباه لا تجعل الزمن يحافي..
قال بالله عليك ما تهمتي.. قلت قبل الرحيل خذ معك جوابي.. أنت أسوأ سياسي.. تكاثرت في عهدك المآسي.. انهارت القيم والمباني.. تهمتك أنك.. أهملت أوراق إثباتي.. حينما قرأت قصائدي.. سكبت محبرتي.. بترت بالمنجل لساني.. أنت لم تترك بيننا ذكرى.. نظفنا المكان، والله رحيلك نعمة.. قلت لي أكتبي.. غني وارقصي.. فحين فعلت أخذت القصائد خلسة مني.. صادرت حقي.. حذفت اسمي.. قلت لي اذهبي أنت وربك فقاتلي.. بينما كنت أنتظر منك العهد.. كنت تتمنى لي الموت.. بينما كنت أنتظر منك العدل.. رحت تمنحني الويل والبغى.. لن أهتف لك.. لا أملك قرابين أهديها.. ولا ضفائر عليك ألقيها.. لا أملك خصرا يحدث في الأرض زلزالا.. ولا قصائد تعنيك أنت تحديدا.. لا أملك أحمر شفاه أرسم به قبلات.. أضعها على خدك وساما.. لا تنتظر مني مدحا ولا شكورا.. أنت لم تترك للود مجالا.. بينك وبين الهوى أضرمت نيرانا.. لو أصغيت لنبض رأيي.. لما كان حالك مثل حالي.. إذا كانت لديك رغبة في تضليلي.. فأنا ليس لدي وقت للتطبيل.. تهمتك أنك.. بحالي لم تكن تبالي.. تجاهلت ندائي.. تنكرت لكياني.. لم تر روحي.. أفكاري من نبع أحلامي.. تهمتك انك.. اكتفيت بما هو سطحي وآني.. ذاتي وخال.. قلت لي اكتبي.. لا تنزعجي ولا تخافي.. فلما فعلت كممت فاهي.. قضمت قلمي.. خنقت أنفاسي.. تهمتك أنك رجل سياسي.. ونحن شعب نقاسي.. أنت تعيش على النعيم والغالي.. نحن نعيش على الخبز الحافي.. ننام على الرصيف.. نمشي أنا وأنت بسرعتين.. نخطو خطوتين.. نحلم حلمين.. نعيش في عصرين.. نحكي بلسانين.. يحكمنا مصيران.. نخضع لنظريتين اثنتين.. أقسمت بأن تسعدني.. فلما وقعت لم تأت لإنقاذي.. تهمتك انك جعلتهم يغادرون بلا عودة.. جعلتني أهجر أحلى ما في ذاتي.. أطفأت الأنوار.. أسدلت الستار.. منتظرا مماتي.. كان بإمكانك إنقاذي.. لم تفعل.. أحبك جدا.. أحبك حقا.. لكني أحب وطني أكثر.. لو خيروني بينك وبينه.. لاخترت الأكبر والأعظم.. وطني أكبر.. وطني أعظم.. أعيش من خلاله.. أتنفس من خلاله.. أعاتبك من خلاله.. أكرهك من خلاله.. أهواك من خلاله.. أتمثلك من خلاله.. أتذكرك من خلاله.. كن إذن مثلي.. كن كذلك من أجله..