الثلاثاء ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣
بقلم آدم عربي

الإرادة ما بين المثالية والمادية في الفهم والتفسير!

لم تحظ الإرادة، التي تلعب دوراً مهماً في حياة الإنسان وفي تشكيل مجريات التاريخ، بالاهتمام العلمي الكافي لتوضيح معناها وطبيعتها ، فما زال هناك الكثير من الناس يتبعون مفاهيم غير علمية وغير منطقية عندما يحاولون فهمها وشرحها.

تختلف الآراء حول مدى تأثير الإرادة في التغيير، فبعضهم يعطيها قيمةً كبيرةً، ويعتبرها المحرك الأساسي لتحقيق المستحيلات والحقائق. وبعضهم ينكرها تماماً، ويعتقد أنَّ الإنسان مجبرٌ على ما قدر له من إرادة إلاهية (غير مشابهة لإرادة البشر أو ليست من جنس إرادة البشر)، وكأنَّ الإنسان نهرٌ لا يستطيع أنْ يغير مساره.

نيتشه قال بعد أنْ تابع بعض النقاشات الشرقية (المزمنة) حول التسيير والتخيير، وحول القضاء والقدر، وعلاقته بالإرادة الحرة للإنسان، إنَّ الشرقيين (في هذه الجدالات) أغفلوا أمراً بسيطاً وهاماً في نفس الوقت، وهو أن منطق القضاء والقدر يقتضي أن يعتبروا إرادتهم الحرة كجزء لا ينفصم عن نظام القضاء والقدر.

لم يكن نيتشه، في فلسفته، مؤمناً بإبادة الإرادة الحرة للإنسان، فهو من أشد المدافعين عن الإرادة، وأكثر المتمسكين بها ، فهذا الفيلسوف الألماني الكبير أراد أنْ يصبح الإنسان (الفرد) مثل الإله في القوة والشجاعة. وليس هناك سبيل إلى هذا الإنسان (الإله) إلَّا بالإرادة، بقدرتها، وتقويتها، بحريتها، وتحريرها.

من تعليق نيتشه أفهم أنه يسخر من أهل الشرق (بدعوتهم) إلى أنْ يتخلوا عن التخيير (والإرادة الحرة للإنسان) إذا كانوا مؤمنين بالتسيير، وبنظام القضاء والقدر، وكأنَّ هذين الأمرين متناقضين، ومتباعدين لا يلتقيان.

في موضوع الإرادة، يقول المهاتما غاندي: ليس المهم قوة العضلات؛ بل قوة الإرادة التي لا تنكسر ولا تستسلم وجون تشارلز سالاك يقول: لا يبلغ المرء حديقة النجاح إلَّا بعد أنْ يمر بمحطات الكد والفشل واليأس؛ لكن صاحب الإرادة القوية لا يقف عند هذه المحطات ونابليون بونابرت يقول: كلمة مستحيل لا توجد إلَّا في قاموس الحمقى والضعفاء. وعندما قيل لنابليون إنَّ جبال الألب تحول دون تقدم جنده، قال: فلتسوَّ جبال الألب بالارض، ومايكل كولنز يقول: كلُّ إرادة تخضع للعاطفة تنهار وتخيب ، وطاغور يقول: سأل الممكن المستحيل أين تسكن، فأجاب: في أحلام العاجز، وصموئيل جونسون يقول: الأعمال العظيمة لا تنجزها القوة؛ بلْ الإصرار وروبرت شولر يقول: توقع العقبات؛ ولكن لا تدعها توقفك عن التقدم والمتنبي يقول: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وعلى قدر الكرام تأتي المكارم، وتَعْظُم في عين الصغير صغارها، وتَصْغُر في عين العظيم العظائم.

لا شكَّ في عظمة الإرادة، وعظمة الإرادة الحرة للإنسان ، لكنَّها تصبح سخيفة إذا ما خالفت العلم والمنطق العلمي في فهمها وشرحها، وأظن أنَّ أفضل فهم وشرح للإرادة (الحرة للإنسان) هو ما يعبر عنه قول "الحرية هي وعي الضرورة".

إذا كنت تختار العبودية كنمط حياة، فما عليك إلَّا أنْ تعتقد وتتبع مفهوم الحرية الإرادية، أو الإرادة الحرة، بأنها القدرة على فعل ما تشاء، فأنت حر، أي لديك إرادة حرة، إذا استطعت فعل ما تريد، وأنت مقيد، أي بدون إرادة حرة، إذا لم تستطع فعل شيء توده.

كلا، هذا ليس تعريف الإرادة الحرة، والنتيجة الحتمية لفهم وممارسة الإرادة الحرة بهذه الطريقة (المبالغ في ميتافيزيقيتها) هي أنْ تصبح (أو تبقى) عبداً، مثل خصمك الساخر الاستسلامي الذي لا يحاول تغيير حياته وواقعه بحجة أنَّ كلَّ شيء مقدر سلفاً، وكأنَّ الإنسان لم يخلق للحياة إلَّا لينفذ ما كُتب له منذ الأزل!.

الإرادة، في أصلها وبدايتها، هي رغبة في فعل شيء ما. وهي قرار وعزم، لكنْ، هل تكفي الرغبة لتحقيق الأهداف؟
الرغبة والقرار والعزم، هي مثل الأمنية، إذا لم تترافق مع جهد وعمل وصراع (واقعي) لتنفيذ ما تريد، أي لتحويله إلى حقيقة ملموسة ، وهذا يتطلب منك أنْ تجهز الأدوات، و الأسباب، وتنشط القوى، لتباشر، بعد ذلك، العمل، الذي هو نضال، حتى لو كان الأمر الذي تسعى إليه بسيطاً مثل رحلة سياحية، وهناك هدف (أو غاية) تحدده الإرادة، في جانبيها: القرار، والفعل.

في تجربة الإرادة، التي نمر بها، كأفراد ومجموعات، نتعلم، وعلينا أنْ نتعلم، كيف نُجيب، وبأيِّ طريقة نجيب، على سؤالين عظيمين، هما: ما هو ما أريد (أو نريد)؟ وبأيِّ وسيلة أحقق (أو نحقق) هذا الذي أريد (أو نريد)؟.

الإرادة الحرة هي ابنة الوعي، وهذا الوعي لن يُولد الإرادة الحرة إلّا إذا كان وعياً بالضرورة. وأما الضرورة ذاتها فهي خارجة عن إرادتك. إنك لن تتحكم، بإرادتك الحرة، قبل أنْ تقوم، وبأفضل صورة، بدور الجندي، الذي ينفذ أوامر وإرشادات وتنبيهات قائده وسيده، أنْ تتعلم هذه الأوامر والإرشادات والتنبيهات، لتعمل، بعد ذلك، وفقها، ومطابقاً لها، وهذا القائد (السيد) هو الضرورة. فاستسلم لها، من أجل أنْ تمارس إرادتك الحرة بممارسة تنتهي بالنجاح.

كان البشر يخشون فيضان النهر الذي يهدد حياتهم ومحاصيلهم، ولم يجدوا طريقة للتعامل مع هذا الوحش العنيد ، فظنوا أنَ الحلَّ في الاستنجاد بالقوى الروحية والمعتقدات الدينية التي تحميهم من غضب النهر، وبقيوا مسلوبي الإرادة أمام فيضان النهر، وزاد جهلهم بالأسباب الطبيعية للفيضان من تعلقهم بالخرافات والمعجزات، حتى وعوا هذه "الضرورة الطبيعية"، وعرفوا كيف يسخِّرونها لهم من خلال بناء "السدود".

بتعريف الحرِّيَّة (حُرِّيَّة الإنسان وإرادته) على أنَّها وعي الضرورة (والعمل، من ثمَّ، بما يُوافِق القوانين الموضوعية)، يُحَلُّ على خير وجه التناقض بين التخيير ,التسيير، بمعنييهما اللاديني العقلاني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى