
«أنشودة الخلود» لسناء يحفوفي..

تجترح الناقدة والباحثة اللبنانية الدكتورة سناء يحفوفي رؤية نقدية جمالية تأويليّة – فلسفيّة، في قراءة معلقات الشاعر والباحث الدكتور ديزيره سقّال، بوصفه صوتًا أبديًّا يفيض من التّاريخ، والميثولوجيا، والرّؤيا، وذلك عبر كتابها الجديد "ناقدة "أنشودة الخلود.. معراج الشّعر وتجربة العبور".
يصغي الكتاب، وفق ما ذكرت مؤلفته في مقدمته، إلى معلّقات «ديزيره سقّال» كونها مرايا تتخلّق فيها الرؤيا وتتكثّف، وتنفتح خلالها الذّات لتجربة عبورٍ وجوديّ - شعريّ؛ من غنائية الألم إلى نشيد التّجلّي، من حضور الجسد إلى إشراقة الكينونة، ومن التّمزّق الدّاخليّ إلى اندياح النّور في اللّغة؛ ليتكشَّفَ النّص كما تتكشّف البذرة في لحظة الخَلق؛ اشتعالٌ شعريٌّ بين التّلاشي والانبثاق، بين الخفوت والسّطوع، بين الذّات الممزّقة والذّات المتعالية.
الكتاب نفسه، وقد صدر حديثًا عن «الآن ناشرون وموزعون»، في الأردن، يقدم مقاربة نقدية تقوم على تحليلٍ تأويليّ - فلسفيّ يتوغّل في صمت النّصوص بحثًا عن الجوهر الكامن فيها، متتبّعا البنية الرّمزيّة، والتّموّجات النّفسيّة، وانفتاح المعنى عبر اللّغة، والإنصات إلى حفيف الرّوح وهي تعبر إلى الضّفة الأخرى.
وبفهمٍ كهذا لـ«المعلّقات» للشّاعر «ديزيره سقّال» صاحب الرّؤية المتجدّدة، يتحوّل القارئ من متلقٍّ إلى رفيق سَفَرٍ في معراجٍ شعريٍّ مستمرٍ، حيث يتلقّى كل نصٍّ نغمةً تتسلّق سلَّمَ البهاء والنّور، يتصاعد فيه الحرف إلى أفقٍ بعيدٍ يتماهى مع رؤيته؛ إذ تتوَّج التّجربة بالمعلّقة السّابعة عند الحدّ الأعلى من انخطاف القصيدة، حيث تتّسع الرّؤى وتشفّ اللّغة، فيغدو الحرف مرآةً لصاحبه، تنعكس فيه الظّلال والضّياء، ويتوشّح الواقع بالحلم. هنا يبلغ الشّاعر ذروة عروجه، لتصبح القصيدة طقسًا وجوديًا، واللّغة تشفّ حتى تكاد يسمع صداها ويلمس ضياؤها.
وجاء في نص الغلاف:
"بلغةٍ صافية ومعبّرة، لا فائض فيها ولا نقص، تناولت د. سناء يحفوفي تجربة الشّاعر ديزيره سقّال، في قراءة نقدية متميّزة، انفتحت فيها على كل ما يمكن أن يقال في الشّاعر وفي شعره، إذ توحّد في نصّها النقديّ الذي ضمّه كتابها هذا ما يمكن أن يطلَق عليه "السّيرة الشّعريّة"، حيث اجتهدت في متابعة سيرة الشّاعر من خلال نصّه الشعري، وهي سيرة أخرى، غير السّيرة الذاتية، وهي أكثر كشفا عن سيرة الشّاعر".
الشاعر حميد سعيد
كما يضيف الكاتب جعفر العقيلي:
"هذا الكتاب يقبض على توهّج الشّعر في لحظته الكونيّة، حيث يتحوّل إلى مقاومةٍ للزّوال، وتغدو القصيدة مرآةً للذّاكرة الجمعيّة، وصوت الإنسان الباحث عن خلوده. وهو يجمع بين شعريّة الخطاب النّقديّ والتّحليل والفلسفة الوجوديّة؛ من عشقٍ وحبٍّ وجماليّات الحياة بكلّ أطيافها، ليتجلّى أمام القارئ سؤالُ الوجود الأعمق. إنّه القول الذي يخلّد ما يعجز الجسد عن احتماله. وإنك لترى في هذا الكتاب بصيصَ أبديّة في رحلة ارتقاءٍ نحو الفردوس الأعلى: رحلة شعريّة-ميتافيزيقيّة، تحمل بين ثناياها سر ّ الأبجديّة. الشّعر بهذه الرؤية، حين يكون مرتبطًا باللّغة ذاتها، يصير قادرًا على اجتياز الحتوف، وحاملاً الشّاعر إلى الضّفّة الأخرى. وحين يواجه الزّوال، تفتح القصيدة له بابًا، فيغنّي أنشودة الخلود، ويُطْلق هواه الوحيد.
في ضوء هذا النّبض، تزهر القصائد على عتبات العشق، وتمضي نحو الحياة بشـوقٍ منهمرٍ إلى قهر الفناء، وتتنامى العلائق في انسجامٍ شفيف، وتتفجّر الرّوح بالحنين والامتلاء ولعلّ القصيدة، هي التي تمتلك مفاتيح العبور".
وتحت عنوان "مرآة المسافة" يكتب الناقد الأردني أ.د. إسماعيل السّعودي مدخلا للكتاب، يقول فيه: "في زمن تكاد فيه اللّغة تتوارى خلف ضجيج الخطابات الاستهلاكية، وفي عصر تُستنزف فيه القصيدة في مواسم الاستعجال والسّطح، تطالعنا هذه الدّراسة النّقدية للكاتبة سناء يحفوفي باعتبارها محاولة جريئة لإعادة الشّعر إلى مقامه الكونيّ، كفنّ جماليّ يتجاوز الشّكل، ومعراجٍ وجوديّ يضاهي التّجربة الصَّوفية في اندفاعها نحو المطلق.
«أنشودة الخلود» يخرج عن إطار الكتاب بالمعنى التقليدي؛ ليكون نصًّا مزدوجًا يحتفي بالشّعر كما يحتفي بالتّحليل، يستحضر «ديزيره سقّال» في هيئته الخاصة، بوصفه كائنًا لغويًا يتماهى في نصّه، ويصوغ ذاته في مرايا القصيدة، حيث تصبح المعلّقة فعل عبورٍ نحو الخلود، متجاوزة حدود البلاغة المشهودة في كتب الأدب.
وفي هذا المقام، لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الدّراسة تجرّب أن تكون كتابة في الشّعر، تصغي إليه من داخله، وهذا ما يجعلها نصًّا ذا طابع خاص؛ نصًّا يستعير من القصيدة شفافيتها، ومن التّأمل عمق رؤيتها، ومن اللّغة حرارتها الأولى".
ولعلّ أبرز ما يُحسب لهذا العمل، والحديث للسعودي، هو إدراكه لطبيعة القصيدة كفعل عبور، يتجاوز كونه منتجًا لغويًّا محضًا. من هنا تنبثق قوّة الكتاب، ومن هنا أيضًا تتبدّى جرأته المفهومية، حين يقدّم مصطلح «المعراج الشّعري» مفتاحًا تأويليًا لقراءة الشّعر المعاصر طقسًا يحمل شعريًّا ووجوديًّا معًا. حيث يتجاوز النّصّ ذاته ليكون ممرًّا إلى منطقة عليا من الإدراك والتجلّي والاكتمال.
ويكتب أ. د. جوزف شهدا مدخلا أخر للكتاب تحت عنوان "شهادة الرّؤية"، قال فيه: "تشكّل مسألة الخلود معضلةَ الإنسان الكبرى؛ وقد حاولت الدّيانات السّماويّة أن تحلّها، فوعدت الصّالحين به، وحرمت منه الطّالحين. وظلّت هذه المسألة تشكّل محور هموم الإنسان في كلّ زمان ومكان، منذ ملحمة جلجامش، وربما قبل هذا، لتبقى المسألة لغزًا عصيًّا عن الحلّ، يرى كلّ واحد فيها رأيًا خاصًّا به. في وسط هذا، كان الفنّ عمومًا، والشّعر خصوصًا، محاولة لحلّ هذه المعضلة، فكان الفنّ والشّعر هو الحلّ بالنسبة إلى الشّعراء والفنانين، وكان الخلود سِمةً يعتبرونها خاصة بأعمالهم؛ إذا كانت تحمل أصالةً تتيح لها أن تُخلّد أصحابها. ديزيره سقّال كان من أبرز مَن تصدّى لهذه المسألة بشعره، وصرّح بهذا علانية، خصوصًا في بعض معلقاته".
وتختتم المؤلفة الكتاب بـ"وميض الختام وساعة العبور"، وفيه تضع خلاصة ما وصلت إليه دراستها، فتقول: "كل خفقةٍ فينا تهزّ الكِيان ترتقي بنا إلى حافة النشيد، وكلّ رجفةٍ تُطلق الصّوت من أغوار الوجود؛ إنّه الشّوق المتوقّد، جمرٌ نلقيه في قلب الأكوان، فيرتدّ علينا صورةً أصفى، حتّى يغدو التّفكير بالخلود هو النّبض نفسه، وهو الكون وقد استعاد ذاته فينا بأسمى الصّور.
كلّ عملٍ إبداعي، ينقل صاحبه من زمنٍ إلى آخر، إلى سجلّ الذّاكرة الإنسانيّة. والأدب الذي يخترق الأزمنة ويتناقل عبر الأجيال، ويحافظ على هويّته وكينونته، هو أدبٌ خالدٌ، باقٍ أبد الدّهر في وجدان اللّغة. والشّعر نفحةٌ من الإلهام والرّؤى، وسرٌّ من أسرار الجمال الإلهيّ، ولغة الشّاعر المبدع تجعل من قصائده مرجعًا لكلّ متذوّق. فكلّما سما بقصائده، ارتقت معه النّفوس، فيشعر معه بنفحةٍ آتيةٍ من الغيب.
بهذا اليقين، كانت المعلّقات محاولةً لتثبيت الوجود في مرايا الشّعر. فالشّعر وحده يحمل إمكانية النّجاة من الفناء، بقدر ما يوقظ فيه من صورة الإنسان الكونيّ، السّائر في درب المجد. وكلّ قصيدة تكاد تكون انبثاقًا من الجوهر، تكتب الذّات، وتعيد تشكيل بصمة الزّمن في الرّوح. ولعلّ الخلود ليس وصولًا، إنّه نداء الرّوح، والقصيدة معراجها وما نبتَ بينهما هو فناء للزمن...
ولتكن اللّحظة الأخيرة عبورًا بلا قيود، حيث يذوب الفناء في ضوء المجد، وتصبح القصيدة نهرًا ينساب عبر الزمن، يحمل الإنسان من على ضفاف الأبجديّة إلى ضفاف الأبديّة، ويفتح أمامه أبواب الكينونة التي لا تغيب، ليظل النّبض حيًّا، والحرف خالدًا، والروح متّقدةً بالضّوء الأزليّ.
هذه الصّرخة، تمجّد الكون في صدرك أو صدري.
توحَّدَ الوجودُ في كلّمة:
"كــن... فتكـــون..."
هي القصيدة... ووحدك أنت، تمتلك جرأة السّؤال، وجرأة العبور!
هاتِ قلبــــك... وانتشلني...
ليبقى السؤال معلّقًا على باب الخلود...