الثلاثاء ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠
بقلم أحمد الخميسي

نــظــام جــديــد

كان د. فخري الفيومي ينظر لمن يحدثه نظرة شك عميق، كمن يقلب ببصره بضاعة مريبة، أحيانا نادرة كان يجازف سائلا بصوته المهذب الخفيض:

 حضرتك نظام جديد؟

فيجيبه الآخر بحيرة:

 نظام جديد؟! ماذا تعني؟

فينكس د. فخري عينيه على نظرة باسمة مريرة كمن يقول "دعك من هذا اللؤم" ويغمغم:
 النظام الحالي؟

في أغلب الحالات كان يتلقى ردا واحدا مصحوبا بدهشة:

 ماذا تقصد؟ لا أفهم؟

فيزووم د. فخري ويصمت طاويا نفسه على حيرته، ويغير موضوع الحديث.

بدأت حكاية الشك هذه عندما فوجئ د. فخري باستدعائه إلي المباحث العامة منذ نصف السنة، كان ذلك عقب اجتماع حاشد في الجامعة جرفته الحماسة خلاله فقال كلمتين تجاوز بهما سقف المسموح. وندم بعد ذلك أشد الندم، وقالت له زوجته: يا فخري أنت أستاذ كبير عندك كتبك وأبحاثك مالك ومال كلام الشباب؟!. فأجابها: عندك حق.

وفي اليوم المحدد لاستدعائه وصل إلي مبنى الداخلية في الموعد المعين، واستقبله ضابط شاب لبق قاده بترحاب إلي حجرة ضيقة ثم قال له بنبرة آسفة:

 يا دكتور.. آسف جدا.. نحن مضطرون إلي اعتقالك!

تغيرت ملامح د. فخري على الفور، فالاعتقال آخر شيء خطر له. كان أقصى ما توقعه أن يطرق معه عميد الجامعة موضوعا عاما ويدس في ثنايا حديثه عبارة لوم وتحذير، أما الاعتقال؟! مد ساقيه وجال بعينيه في جو الحجرة وهو يشعر بهبوط. وحدث نفسه " أيعقل أن تهدم كلمتان عابرتان حياة كاملة؟ ". فكر في زوجته وولديه كمن يودعهم، وفي حجرة مكتبه وأبحاثه، وصعبت عليه نفسه، وحاول أن يتذكر من الذي جرجره إلي ذلك الاجتماع المشئوم.

اعتدل الضابط الشاب ببسمة خفيفة كمن يصحح خطأ:

 لكن اطمئن يا دكتور ولا داعي للقلق.

دبت الدماء في أوصال د. فخري كمن ألقي إليه بطوق نجاة وجمع ساقيه الممدوتين واستجمع أمله:

 كيف؟

 لأنك ستواصل حياتك كما اعتدتها.

وأضاءت وجه الضابط بسمة من يقدم عرضا سحريا ويثق بحكم الخبرة أنه سيلقى الإعجاب:

 أنت تتجه إلي الجامعة يوميا في التاسعة صباحا؟

 نعم. بالضبط.

 تعود إلي البيت تقريبا في الثانية ظهرا؟

 تماما.

 عصر كل ثلاثاء تلتقي بأصدقائك القدامى في مقهى "سهر الليالي"؟

 مضبوط يا أفندم. المعلومات كلها سليمة.

ضحك الضابط بسرور.

 ولن يتبدل شيء من كل هذا. ستواصل حياتك كما كانت!

تجمد وجه د. فخري عاجزا عن الفهم وطلع صوته كأنما من جب عميق:

 أواصل حياتي؟ و.. وماذا..؟

 كل ما في الأمر أن لدينا الآن نظاما جديدا.

 جديدا؟ أي نظام؟

 ألا تسمع عن سجون في الخارج تسمح لنزلائها بمغادرة السجن وزيارة أهاليهم ليوم أو اثنين ثم العودة بعد ذلك؟

 أسمع.

 هي التجربة ذاتها. إذا كانت الثقة في المعتقلين أمرا ممكنا بحيث نسمح لهم بقضاء يوم مع عائلاتهم، فما الذي يمنع أن نسمح لهم، ليس بيوم لكن بعدة أيام؟ بل وبقضاء فترة الاعتقال كلها في الخارج؟!

قطب الدكتور فخري ما بين حاجبيه وتقلقل على الكرسي وسأل بريق جاف:

 وكيف يكون اعتقالي إذن؟ أقصد من الناحية الإجرائية؟

 يكفي أننا قمنا بإبلاغك. العملية كلها ثقة.

طرف د. فخري بعينه اليمنى ثم بحلق في وجه الضابط الشاب الذي نهض واقفا وابتسم بكياسة وهو يهز يد د. فخري مصافحا:

 نحن الآن نعتمد على الضمير.

وأشار إلي باب الحجرة: شرفت ونورت. تفضل. من هنا.

غادر د. فخري مبنى الداخلية، وسار بخطى هادئة دون أن يلتفت خلفه، تمنى لو بلعته الأرض كما تبتلع الصحراء قطرة ماء فيختفي بعيدا عن المبنى. كان بحاجة إلي المشي طويلا وحده ليعيد ترتيب رأسه المشوش، فسار حتى ميدان التحرير و في الطريق برقت أمامه الكلمتان اللتان أفلتتا منه في الاجتماع. ألا يحق له أن يقول شيئا للمصلحة العامة؟ قل، لكن لا تتسبب في تجويع أولادك فليس ثمة مبادئ بعيدا عن بشر بعينهم. والحقيقة؟ فرصتك لنشر الحقيقة بالعلم والتنوير أكبر طالما قدرت نعمة الحرية لكن ما جدواك وأنت رهين زنزانة؟. مع ذلك فإنني معتقل الآن؟ نعم لكنك حر أيضا. ساقته قدماه حتى شارع رمسيس فتوقف في الميدان يرقب زحمة السيارات والبشر حائرا أيفرح بوضعه الحالي أم يحزن؟

صباح اليوم التالي راقب د. فخري زوجته وولديه ساعة الإفطار وهم يتناولون الطعام، فلم يلمس في نظراتهم أو حركاتهم أية إشارة إلي اعتقاله، كانوا يحشون أفواههم بالبيض المسلوق والجبن دون أن يعيروا أي اهتمام لشيء آخر. في العمل أيضا لم يتوقف أحد عند الموضوع ولو بنظرة أو سؤال عابر. في البداية أثارت تلك اللامبالاة دهشته، ثم تذكر أن اعتقاله حسب النظام الجديد يجعل من الصعب تمييزه عن غيره، فصار يتردد على محاضراته بانتظام ويقول لنفسه وهو في طريقه إلي العمل " ينبغي أن أعيش على أساس أن شيئا لم يحدث مع مراعاة أن شيئا قد حدث ". خلال عدة شهور اعتاد د. فخري على النظام الجديد، لكن حيرته كانت تشتد في الشارع وفي الباصات أو داخل محلات البقالة وهو يدقق النظر في وجوه الناس، فلا يجد ما يستدل به على أن الشخص " معتقل نظام جديد " أم لا. فكف عن التحديق في ملامح الناس وأخذ ينصت إلي ما يقولونه، فوجد معظمهم يقولون الشيء وضده، ويؤيدون موقفا وعكسه، يدعمون مواقع خصومهم بحرارة، ويرحبون بمقترحات أصدقائهم بفتور، فلم يستدل على شيء، وكان عقله يثب من ناحية إلي أخرى في تحديد وضعهم: معتقلون نظام جديد؟

أحرار؟ إلي أن تعب تماما فتوقف عن محاولة تمييز هؤلاء من أولئك، واكتفى بالحذر في أحاديثه وشاعت في كلامه رصانة تضع القضايا كلها على قدم المساواة، وقل كلامه في المقهى مع أصدقائه وصار يقضي أغلب وقته معهم صامتا ينفخ دخان النرجيلة مرسلا بصره إلي المارة. لكن الحيرة كانت تسكن أعماقه، مثل سمكة قرش مختفية، تثب في لحظة وتنقلب إلي نظرة شك مسددة نحو من يتحدث إليه، فيجازف د. فخري سائلا بصوت خفيض:

 حضرتك نظام جديد؟

فيجيبه الآخر بحيرة:

 نظام جديد؟! ماذا تعني؟

فينكس د. فخري عينيه على بسمة مريرة:

 النظام الحالي؟

ولا يتلقى ردا شافيا.

لكن تلك الحال لم تدم طويلا، فبعد نصف العام تقريبا تلقى د. فخري استدعاء جديدا فاتجه إلي مبنى الداخلية مرة أخرى، وسار في ذات الردهة الطويلة الكئيبة إلي الحجرة الموحشة العارية الجدران. هناك نهض الضابط الشاب وصافحه بترحاب شديد قائلا:

 تفضل بالجلوس يا دكتور. لن أطيل عليك. أردت فقط أن أزف إليك نبأ سارا..
 خيرا إنشاء الله؟
 تقرر إطلاق سراحك!
 سراح من؟!
 سراحك أنت.
 أنا؟!
 نعم. صدر بالأمس قرار بالإفراج عنك مع خمسة آخرين.
جلس فخري حائرا.
 إذن.. أنا حر؟
 نعم. وأرجو بالطبع أن تقدر أن ما حدث كان إجراء للصالح العام. الآن واصل حياتك كما كانت! أنت تتجه إلي الجامعة يوميا في التاسعة صباحا؟
 نعم. بالضبط.
 تعود إلي البيت في الثانية؟
 تماما.
 تلتقي بأصدقائك القدامى في مقهى "سهر الليالي" عصر كل ثلاثاء؟
 مضبوط يا أفندم.

ضحك الضابط:
 أكرر التهنئة.

وأشار بأدب إلي باب الحجرة:

 واعلم أننا الآن نعتمد على الضمير!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى