الاثنين ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠١٧

مسرحية سر الفداء

قسطندي الشوملي

"أنا الحجر الصارخ في بطن المقلاع"

لم تنل الحركة المسرحية في فلسطين من الاهتمام ما نالته النشاطات الفنية والأدبية الأخرى. وعُرفت بدايات الحركة المسرحية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من خلال حركات مسرحية مدرسية ازداد عددها ونشاطاتها في الثلث الأول من القرن العشرين، وبصورة خاصة اثر إعلان الدستور العثماني عام 1908. وكانت المحاولات الأولى محاولات تقليدية لم تخرج عن كونها محاكاة للمسرح الأوروبي. وارتبطت بنشأة المدارس الإرسالية والوطنية، وبتشجيع الجمعيات والنوادي الفلسطينية، والفرق المسرحية المصرية والشامية التي كانت تزور البلاد كجوقة الشيخين سلامه وعكاشه وجوق الممثل جورج ابيض عام 1912.

وخرج المسرح في عهد الانتداب من المدارس إلى الحياة العامة. وبرز عدد من المثقفين والكتاب المبدعين الفلسطينيين في مجال المسرح، منهم نجيب نصار صاحب جريدة الكرمل، ويقال انه صاحب أول نص مسرحي فلسطيني اسماه "وفاء العرب"، ثم تبعه الرواد الأوائل وهم جميل البحيري وإسطفان سالم واسمى طوبي ونجوى قعوار وشكري السعيد وعائلة الجوزي. وهيأت الأندية والجمعيات الناشطة في فلسطين الجو لغرس بذور نهضة مسرحية، حيث كان التمثيل ضمن برامجها الدورية. وكان جل ما قدم على المسارح الفلسطينية في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن مسرحيات مترجمة من اللغات الأجنبية، أو مقتبسة عنها. وكان الرواج الأكبر للمسرحيات العربية مثل المرؤة والوفاء لخليل اليازجي، ومجنون ليلي وكليوباترا لأحمد شوقي، والسموأل أو وفاء العرب لأنطوان الجميل، والسلطان صلاح الدين الأيوبي لفرح أنطون، ومعركة ذي قار لنصري الجوزي، ومسرحية "حسن" لبولس شحادة، ووالي عكا لعزيز ضومط.

ولكن نكبة عام 1948 أحدثت انهيارا كبيرا، فتشتت الشعب ونزحت الكفاءات والرموز الثقافية، وانهار قوام المجتمع الفلسطيني، وأصبح من الصعب إعادة التوازن إلى المشهد الثقافي العام في ظل الواقع الجديد الذي فرض نفسه على المكان والزمان، وكان صعباً إعادة إحياء الازدهار للحركة المسرحية الفلسطينية. وكانت الحركة المسرحية في العهد الأردني ضعيفة، وانحصرت في مجال العروض التي تقدمها فرق الهواة في المدارس والمعاهد الثقافية. وظهرت في الستينات مرحلة جديدة من التطور والنمو، تمثلت في العروض المسرحية لأسرة المسرح الأردني وفرقة المسرح الحديث بإدارة جريس مغنم في رام الله .

وشهدت المناطق المحتلة في فلسطين في أوائل السبعينات انطلاقة عفوية لحركة مسرحية، كشفت من خلال عروضها ممارسات الاحتلال ومشاريع التسوية. وأقيمت الفرق المسرحية المختلفة، مثل أسرة المسرح، وفرقة بلالين، وفرقة مسرح الهلال، وفرقة دبابيس، وفرقة المسرح الشعبي، وفرقة المسرح الحديث، وفرقة كشكول، وفرقة المسرح الحي، وفرقة المسرح الفلسطيني، وظهرت فرق أخرى مثل مسرح الزيتون، وصندوق العجب، ومسرح الحكواتي، والمسرح الوطني الفلسطيني، ومسرح القصبة. وتنبهت سلطات الاحتلال إلى دور المسرح في توعية وتثقيف الجماهير في الأرض المحتلة، فاعتبرت جميع الأعمال المسرحية تحريضية، ووضعت القيود أمامها في المناطق المحتلة، ولذلك تمركزت الحركة المسرحية في القدس. وخلفت هذه الحركة خلال تلك الفترة عددا من الكتابات المسرحية المحلية، تعكس واقعنا بما فيه من هموم وآمال، إلا أنها كانت قليلة. ولم يبرز لدينا اسم كاتب مسرحي مشهور، رغم وجود العديد من الأدباء والكتاب، واضطرت الفرق المسرحية إلى اللجوء إلى النصوص المسرحية العالمية ومحاولة توفيقها مع مجتمعنا، مما يفقدها نوعا من تماسكها. ولجأ مسرحيون آخرون إلى أسلوب الكتابة الجماعية للمسرح تمشيا مع الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال. وعرفت في هذه الفترة كتابات فردية جادة منها كتابات راضي شحادة، ومسرحيات معين بسيسو وعبد اللطيف عقل ومحمد كمال جبر، كما اصدر جمال سلسع مسرحية شعرية بعنوان سر الفداء، وظهرت في الجليل والمثلث كتابات مسرحيه مميزه، مثل كتابات إميل حبيبي المسروائية لقصتي المتشائل ولكع بن لكع، وأعمال مسرح الصداقة النصراوي، ومسرحيات غنائية واستعراضيه لسميح القاسم، وأعمال مسرح البلد. وكتابات إدمون شحادة وسليم خوري. وعانت الحركة المسرحية خلال هذه الفترة من غياب النقد العلمي والموضوعي المواكب لمسيرتها والذي يعمل على تقييمها وتوجيهها بهدف دفع سقف الإبداع الفني وتعميق المضامين الفكرية والتقدمية في الأعمال المسرحية المقدمة.

وستناول في هذه الدراسة المضامين الفكرية التي احتوت عليها مسرحية "سر الفداء" لجمال سلسع، وكيف ارتبطت بالظروف التي كانت تمر بها البلاد في تلك الفترة، حيث قدمت رؤية تمثل انتفاضة شعبية قبل حدوث الانتفاضة في عام 1987. وتدور أحداث المسرحية حول قصة ظهور عصابة شريرة في بلاد المشرق العربي، تقوم بهجماتها الوحشية على القوافل التجارية والجماعات المسالمة، تدمر ممتلكاتها وتنهب أموالها، وتغرس مرارة الموت والأسى في قلوب الناس. وكان في تلك المنطقة قرية تشتهر بجمالها وخصب أراضيها وحسن موقعها، تدر من الخيرات الشيء الكثير. كانت تعيش في كنف الهدوء والطمأنينة، لولا رياح العصابة الشريرة، التي أشعلت القرية بالتوتر والخوف والغضب. كانت نار الرغبة ولوعة الانتقام تأكل أحشاء العصابة لأنها لم تستطع الاستيلاء على القرية. فقد وقفت أسوار القرية وأهلها في وجه تحقيق شهوات العصابة الجشعة وقفة عملاقة. فتعاظم سخط العصابة وغضبها على القرية وأهلها، وصرخ في أحشائهم وحش مفترس يسيل من فمه لعاب الشهوات الحيوانية المجنونة، طالبا دخول القرية بأية حيلة وبأي ثمن. فالتجأت العصابة إلى رجل غريب عن هذا الشرق. لكن له علاقات يزينها بالمودة والمحبة لأهل القرية. وكم أشعلت هذه العصابة المتاعب والمشاكل في بلاد هذا الرجل الغريب، فأراد هو أيضا التخلص من العصابة ومتاعبها وأوجاعها من خلال إسكانها في هذه القرية، ليخلص بلاده من شرها. وهكذا التقت الرغبتان على قاسم مشترك واحد. فأشار عليهم دخول القرية على انفراد وبمرافقته واحدا تلو الآخر، وفي أوقات متباعدة، ليبدد ظلال الشك من عيون أهل القرية. ويتم ذلك من خلال الإيحاء لأهل القرية بأنهم من ذوي القربى تارة، وتجارا تارة أخرى، وأغنياء يريدون القيام بمشاريع زراعية وتجارية وصناعية تعود على القرية بالخير والتقدم. وتم إدخال معظم أفراد العصابة بهذه الخدعة الماكرة، رغم احتجاج أهل القرية ورفضهم، إذ ارتسمت علامات الشك وعدم الرضى على تصرفات الرجل الغريب، وعلاقته بالمهاجرين إلى القرية. إلا أن الرجل الغريب بسلاحه وأعوانه كان يقاوم كل رفض واحتجاج. وبينما كان رفض الناس في مدّه وجزره، اهدى الرجل الغريب للعصابة أموالا وأسلحة كثيرة، وتم الاستيلاء على القرية. وفرض رئيس العصابة نفسه حاكما عليها، وأفراد العصابة حراسا وجنودا له. وتروي المسرحية أن شعب القرية رفض سيطرة العصابة على القرية وأشهر كل أنواع المقاومة الباسلة ضد العصابة. وبدأ رئيس العصابة يفكر في كيفية إحكام قبضته الشريرة على القرية: فأرسل يستدعي مختار القرية وبعض الأشخاص الذين نطقت عيونهم بالاستعداد للتعاون مع الحكم الجديد، وحمّله مسؤولية ما يحدث فيها من رفض واضطراب وفوضى.

تجسِّد هذه المسرحية الشعرية ثورة أطفال الحجارة، بكل أبعادها ودلالاتها. وتدور أحداث الفصل الأول في مشهدين: يدور المشهد الأول من المسرحية في قلعة عسكرية يحيط بها الجنود. ويدور المشهد الثاني في بيت المختار الذي يجلس وهو ممتلئ بالسعادة والجاه، يرقد على مقربة منه رجل رث الثياب يضرب على ربابته ألحانا حزينة، ثم تدخل بعد قليل أم أحد الأطفال غاضبة ثائرة لما تعرض له طفلها. ويجسِّد الشاعر في هذين المشهدين الاحتلال وبطشه وأعوانه والمستسلمين لرغباته، وما يقدِّمه من إغراءات وشهوات فاسدة لخونة الوطن، جسَّدها بابنة الحاكم. فالحاكم في قلعة عسكرية، وحوله بعض جنوده، وأمامه يقف المختار الذي يجسِّد الاستسلام، والراقص الذي يجسِّد الروابط المتعاملة مع الاحتلال في ذلك الوقت، وبجانبه يهوذا الخائن، وتقف في الجانب الأخر ابنة الحاكم التي تجسِّد الإغراءات التي يقدِّمها الاحتلال من أجل السيطرة على الأوضاع، بما فيها من إغراءات مادية وجنسية. والشاعر في هذا التجسيد لا يبتعد كثيرا عن حقيقة الواقع. ويحاول المختار أن يطمئن الحاكم على أن الوضع بخير، في حين يبدو الحاكم قلقا من غضب الأطفال، فيقول:

ألقينا في الترعة أحلام الأطفال،
ودرب الشهداء
أطفأنا في ماء الليل لهيب الغضب،
المتأجج في الأحشاء
ورفعنا فوق جراح الهامة
أعلاما بيضاء
لكنَّ الشارع مملوء في صخب
يتفجَّر رفضاً... ودخاناً...وحجارة
تلتهم الأعلام البيضاء.
تتوقَّد في درب الأطفال منارة

وفي هذه الأثناء تُسمع أصوات من الخارج تصيح بغضب قائلة:-

الورد القاني ملح الأرض
لن يخرج بركاني
إلاَّ من أرضٍ يرويها
لون الورد القاني
ويعلِّمُها أشكال الرَّفض
فيشتعل الحاكم غضبا مخاطباً جنوده قائلا:
فلتخرج كل عيون الليل،
وتبحث عن هذا الورد القاني
فأنا لا أدري
كيف سترسو أجفاني
في ميناء النوم
ويسكنها قلق يرهقني

يمثل الورد القاني في هذه الصورة الشعرية الأطفال الذين يستعدون للتضحية والفداء.

أما يهوذا فيقول:

رائحة الورد تمزِّق أنفاسي
ما دامت تسري
في شريان الطفل،
وفي قلب الإنسان
تتحدى الليل، وسوط الريح، وأحلام السلطان

أما الراقص فيوَّجه كلامه لابنة الحاكم قائلا:

ما دامت رغباتك يا مولاتي
تغمر أحلامك بالنشوة
فلنبحث عن لون الورد القاني
نسكبه عطراً
تحت الأقدام الحلوة
ولكنَّ الهلع والخوف يملأ قلب الحاكم فيرد قائلا:
لكنَّ حقائق هذا الكون
تُطلُّ علينا
تدفعني في ظلمة شكٍّ
ينهش فرحة أيامي
فيمزِّقُ حقَّ الأرض وثوب التاريخ

وعندما يلقى القبض على أحد الأطفال يقف أمام الحاكم ويقول:

علَّمني حب الأرض بمدرسة الأيام
دروس الكون،
وما معنى...
ما يُدفع من روحٍ... ودماءٍ
في بنك التاريخ، لتسديد ديون العشق.
علَّمني جرحي...
كيف تعيش بذور الأرض، وتنمو فوق جبينٍ
ينزع من جوف الليل،
شعاعَ الحق.

وتجسد هذه الكلمات دوافع أطفال الحجارة. وتجسِّد نظرة الحاكم لما يجري حوله، موجِّها كلامه إلى الراقص وهو يشير إلى الطالب قائلاً:

معتوهٌ يتغنى في عشق الأرض،
ويبحر مع أمواج الأحلام الخطرة
فيجيب الراقص متلعثما:
لحنك يبحر يا مولاي...مع خفقان القلب يردد،
أغنية نضرة
ويرشُ دروبي خبزاُ وغوانٍ
مجنونٌ من يبحر إلاَّ
مع قرشٍ أو خمرة

وهنا يكشف الشاعر عن جوانب أخرى في الصراع مع الاحتلال، تتمثل بزمرة من الخونة الذين اخذوا عقوبتهم على يد أطفال الحجارة. وبعد اعتقال الطفل تذهب الأم إلى المختار لينقذ ولدها من السجن، فيرد المختار عليها قائلا:

الأرضُ ستعشق من يتزوَّجها
ويدثِّرها
في سنبلةٍ ومياه
وترد أم الطفل:
لكنَّ الليل اغتصب الأرض،
وأغرقها
بدماءٍ... ودموعٍ...وبأه

وتقول أم الطفل للمختار المهزوم أن لا خلاص لنا إلاّ بدرب حجارة الأرض:

لا... لا تترك أقدام الليل
تجوس على ضفة عمرك،
تسحق في قلبك
إسماً وهوية

مؤكدة في موقف آخر احترام درب حجارة الأرض قائلة:

لا...لا ليس لنا
إلاَّ طوق الأرض خلاصاُ
من هذا اليم
فالأرض تعلِّم كيف يكون العوم

وعندما ترى أم الطفل يهوذا تقول له:

القبلة من شفتيك غراباً
يأخذني لضياع العمر،
وينهشُ جسم الأرض،
ويلقيها في كهف النسيان
ولكن يهوذا يرد قائلا:
القبلة في هذا الزمن الأسود
نبع يتدفق في أرض جرداء.

تدور أحداث الفصل الثاني في مشهدين: المشهد الأول في بيت المختار الذي يبدو حائرا وعليه إمارات القلق والاضطراب يتنقل في البيت بحركة عصبية وخوف. وقد دعا إلى اجتماع عام في بيته ليتداول مع أهل القرية في شؤون الساعة. ويدخل غريب والصامد والراقص وجمع من أهل القرية. ويدور المشهد الثاني في مقر الحاكم في قلعة عسكرية حيث يقف الحاكم في وسطها محاطا بعدد من جنوده، ويقف أمامه المختار والراقص، وتقف في الجانب الآخر ابنة الحاكم. ويظهر في المشهد الأول الانتماء الحقيقي للأرض بين الغريب والصامد والراقص، فالغريب لا يفهم نداء الأرض ولا طعم الحرية فيقول:

هذي الوطنية لا اهضمها
أحشائي ترفضها
تتقيأها في مزبلة وهمية
والحرية لا أفهمها
ومعانيها لا تتفتَّح إلاَّ
في درب الأممية
ويعود المختار مؤكداً على انهزاماته قائلاً:
هذا عصر مراهقة وطنية
زمن يتغنى في حب الأرض،
وموال الحريَّة

ولكن الصامد على أرضه من اجل أن يمسح دمع الأطفال ويواسي جرح الأرض فيقول:

من يتدثَّر في ثوبٍ
يسرقه من أوراق اللوز،
وعطر الليمون؟
غضب اللوز ونار الليمون
اسياطا تبقى
تجلد ظهر الليل وتحرقه
في بوتقةٍ...
تتوقَّد من جرح الأرض
ودمع الزيتون

ويستمر الجدال بين الجميع ويقول المختار المهزوم في نهاية الأمر :
هذا قدرٌ يتسلَّقُ قلب الشعب
فيجيب الصامد محتدّاً:

هذا كتاب صلاةٍ تتغنى فيه،
في كنس الليل،
وقرباناً تدفعه
فوق مذابح عارٍ وخنوع
لتسدد فيه الليل الجاثم
فوق ضمير باع الحق بقرشٍ
يغمس سمَّاً
ما بين جراحٍ ودموع

أما أم الطفل فتشير إلى المختار في غضبٍ وتحدِّ قائلة:

تتكوَّمُ في كرشكَ مزبلةٌ
من تحت موائدِ أعوان الليل
وأنا يتوقَّدُ في أحشائي
غبرَ الجوع...
جيبك ينفخها دينارٌ ذهبي
دسَّته جيب سوداء
لكن جيوبي يملؤها
غضبٌ
جوعٌ...ووفاء

وتشتعل الأرض غضبا وعطشا للحرية، وتنطلق الصامد متوهجا، حيث يقول:

قنديلي...
قنديلي في القلب وفي الصدر،
وفي الجرح
يتوهَّج في عتمة ليلٍ همجيٍّ
حتى الصبح

وتلتقي أبنة الحاكم مع الطفل وأمه في محاولة لردعه عن درب الانتفاضة، مستهزئة بحجارة تصرخ وتقول:

حجرٌ يصرخُ محتدّاً
لا يصمدُ في عصف الريح
مهما اشتدَّ الساعدُ عوداً
والتهبت غضباً
عين جريح
فتجيب أم الطفل قائلة:
جلياتُ الجبار تهاوى قزما
من حجرٍ يصرخُ في بطنِ المقلاع
فيظهر الطفل قائلا:-
نحن اليوم الحجر الصارخ،
في الظلمة،
في بطن المقلاع

ثم يقول الحاكم موجها كلامه للراقص ويهوذا والصامد والصامت:

هل تسمع هذا الهذيان الثوري؟
فيجيب الراقص:
هذيانٌ ينسج أوهاماً
في عقلٍ ينهشه الجهل الأبدي!
فيجيب الطفل محتداً:-
من تحت الحجر الغاضب يولد سيف
يستلُّ الأغنيةً الحمراء،
يواجه سطو العنف
ويعانقُ أمواجاً تتحدى
ليل العصف.

وتدور أحداث الفصل الثالث في مشهدين: الأول في مقر الحاكم حيث تبدو عليه إمارات الاضطراب والخوف وبجانبه ابنته قلقة خائفة. ويدعو الحاكم في المشهد الثاني إلى اجتماع لأهل القرية حيث يتواجد الجميع ، وفي هذه المرحلة يحضر الصامت الذي يجسِّد شريحة من الشعب التي كانت تراقب الوضع عن كثب. وفي هذا الاجتماع يحاول الحاكم نثر الغبار في العيون، متناسيا ثورة الحجارة فيرفع كأساً مملوءة بالخمر قائلا:

فلنشرب خمر الفرح الأخضر
في هذا الكأس الدامس
فاليوم يموت الورد القاني
في صحراء العمر،
ويدفن في ظلمة سجنٍ أخرس
فيهبُّ الصامت محتداً ويقول:
ومتى كان الحب الأصفر
درباً
يتدفَّقُ بالوعد الأخضر؟

فيتعجب الحاكم مندهشا من تحوُّلِ الصامت وغضبه، فيقول مندهشاً:

من أينَ أتيتَ بهذا القلب الشامخِ،
فوقَ سياط الليل؟
الصامت:
علَّمني جرح الأرض طريقَ العشق.
علَّمني...
كيفَ أواجهُ ليلاً
من قلبي
من شعبي اغتصبَ الحق.

وفي هذه الأثناء تدخل مجموعة أطفال تبدو عليهم نشوة النصر وينشدون:

نشرتني الريحُ جنيناً
يحملُ حبات القمحِ،
لتنمو في كلِ مكان
تتغذَّى من سوط الليل،
فتكبر...تكبر
حتى تتحدى...تتحدى جرح الأيام،
وتحبل بالبركان

تظهر بعدها مجموعة ثانية من الأطفال بثياب بيضاء... حمراء...خضراء...وسوداء تصحبهم موسيقى النصر وتقول:

يا...يا عاصفةً...يا غيمة
صبي غيثك رحمة
إن شئت_ فإن لم تسطيعي
صبيِّهِ رماداً أو نقمة
أو جودي بالمطر الأسود
لا تنتظري موت العتمة
فجوع الأرض شديد
وزحوف النور من الأرض الجوعى
تولد...
ومن الأرض الظمأى تولد
تولد شمساً
قمراً
نجمة
تولد من رحم الظلمة

وتنطلق انتفاضة أطفال الحجارة ضد الحاكم وأعوانه÷ فيصرخ الأطفال ويقولون:

نحن اليوم الحجر الصارخ
في بطن المقلاع

ويدعو الحاكم جنده وأعوانه "غربان الليل" كي يسحقوا انتفاضة الحجر قائلا:

يا غربان الويل هلمِّي
حطِّي فوق الورد القاني
واقتاتي
من جثثِ الأحلامِ المسحوقة

ويُطلُّ المختار الذي يجسِّدُ الاستسلام والتعاون، كحال روابط القرى في ذلك الوقت فيقول مسانداً تطلعات الحاكم:

والليل ألا تسمع،
يرقصُ في الساحةِ رقصةَ سالومي
ويقدمُ خبزاً ونبيذاً
للساكن في ظلِّه
ويقدم كأس الموت، لمن يتحدّى أو يعصي أمره

وتستمر الانتفاضة حيث تظهر مجموعة أخرى من الأطفال في نفس ثياب علم فلسطين وتقول:

رايتنا فوق الهامة
ضمَّخها عطر الأرض الخضراء
لوّنها نهر الشهداء
سوَّدها حقد الليل الخاسر معركة... وبقاء

يستحضر الشاعر في هذا المشهد الرموز التراثية القديمة ويجعل منه المعادل الموضوعي لتجربته الشعرية. فاستحضر سالومي ويهوذا وجليات وداود ومقلاعه، كما أعطى رموزاً ودلالات لأسماء كثيرة مثل المختار والصامد والصامت والراقص وابنة الحاكم والغريب، مما أثرى العمل المسرحي الذي يعتبر نبوءة الانتفاضة بكل أحداثها وصورها. خاصة وأن الشاعر في ديوانه الشعري "عندما تتكلم الحجارة" يصف انتفاضة الحجارة بصور ودلالات حيَّة من الواقع المعاش فيقول:

ودماء القدس في الأقصى تصيح
وخطى النور عجوز
لفَّه ليل الضريح
كيف يحيا المجد فينا
وشموخ الأرض
مصلوب مسيح؟
علِّميني يا حجارة
كيف في الكف تكونين الشرارة؟

ثم يقول:

علَّمتني كلُّ أحجام الحجارة
كيف أبني من ضياعي وشجوني
ألف درب للحضارة
كيف أبني من دموعي وعذابي
فرحة الأقصى وعيسى والبشارة
علّمتني كلُّ الوان الحجارة
إنها في كف أطفال بلادي
قلم يكتب صدق التاريخ
يمحو...
كل زيف وسكون... ومرارة

وقد كتب الشاعر عبد الوهاب البياتي في مقدمة هذا الديوان يقول: "ما أريده هنا هو الإشارة إلى لهب القصائد الأزرق، والى كلمات الشاعر الفلسطيني التي تنزف دما تحت قبة سماء النصف الثاني من القرن العشرين، وتصبغ الماء والهواء والقبل والنظرات والأيدي، وتكتب ملحمة شعب بطولية، وتكون معادلا موضوعيا للواقع والأسطورة والكلمة والفعل والشعر والبندقية والجرح والسكين والنار والرماد. دائما لا يطفو على سطح البحر سوى الجيف، وأم الدرر فتبقى في قاع البحر."

وأخيرا لم تلق هذه المسرحية الشعرية عند نشرها عام 1983 الاهتمام بمضمونها، وبقيت مجهولة في قاع البحر، ولكنها كانت "الحجر الصارخ في بطن المقلاع". فالقرية التي تدر لبنا وعسلا هي إشارة واضحة إلى أرض كنعان الفلسطينية و"الحجر الصارخ في بطن المقلاع"، كان استشرافا من الشاعر بانتفاضة أطفال الحجارة عام 1987. وقد استطاع الشاعر أن يعبر بشكل مسرحي شعري عن الواقع المأساوي الذين كان يعيشه أهل الأرض المحتلة، وحاول من خلال استخدام الرموز التراثية وأسماء الشخصيات أن يؤرخ للأحداث التي مر بها الشعب الفلسطيني. إذ كانت الظروف الصعبة والقيود الصارمة المفروضة على حرية الكتابة والتعبير قد دفعته إلى التعبير عما يجول في وجدانه وعن رفضه للاحتلال باستخدام تجارب فنية جديدة. وإن القيمة الحقيقية لهذه المسرحية هي في تطوير الحدث في المسرحية بصورة تتطابق مع الظروف التي كان يعيشها في الواقع والتي أدت كما تنبأ في المسرحية إلى ثورة أطفال الحجارة.

قسطندي الشوملي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى