الاثنين ١٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٧

لؤي عمران...كي لايعود دكتاتورُّ ثانية ً...

هـــاتف بشبــوش

لؤي عمران كاتب وروائي من مواليد 1961 دبلوم في علوم الكومبيوتر، له عدة كتابات في مجال السياسة والنقد الأدبي ينشر في العديد من الصحف العراقية. لؤي عمران الإنسان والكاتب إستطاع أن يخلّد لؤي عمران السجين الشيوعي في ثمانينات القرن المنصرم، عن طريق أرشفة مأساة حقيقية أبطالها مازالوا على قيد الحياة والبعض الآخر نال وسام الشهادة الحقيقية وهو يناضل ضد الطغيان البعثي. لؤي أثبت انه لديه القدرة على تحويل التراجيديا النضالية الفعلية التي حصلت خلف القضبان والأقبية الى تراجيديا ورقية كي لايندثر ماحصل من ظلم بحق مناضلين ماديين يساريين وآخرين ضمن المعتقدات المثالية، كي يعرف القاريء من أن هناك حقبة زمنية باغية عَذبت وقتلت وذوبت بالتيزاب العديد من الشباب مّن كانوا بعمر الزهور وهناك من بقواعلى قيد الحياة كي ينقلوا لنا ماحصل هناك في السجون من تحطيم للنفس الإنسانية ومن هؤلاء الذين بقوا هو كاتب الرواية هذه التي في متناول دراستنا (كي لايعود دكتاتورُّ ثانية) لؤي عمران (بسام عمران في الرواية) المناضل الشيوعي الشاب أنذاك وطالب الكلية الذي أفنى ردحا من عمره كاد أن يطيح به لولا لعبة القدر التي أبقته حيا بيننا...

كي لايعود دكتاتور ثانية رواية السيرة الذاتية التي تتناول حياة الروائي نفسه، وإسم الرواية جاء على غرار كي لاننسى. تتحدث الرواية بشكل أساسي عن نضال الحركة الشيوعية في العراق وما قدمته من تضحيات يعجز أن يوصفها العقل البشري. رواية تتناول أحداث تأريخ لشباب عراقيين في عمر الزهور ساقهم العارُ البعثي الى السجون وظلام الأقبية. رواية لشاب صغير السن بدلا من ان يقضي عمره في الدراسة، أو بين الفتيات حاله حال ملايين الشباب في هذا العالم المترامي المتحضر الذي نراه اليوم بعد إنقطاعنا عنه نتيجة الحكومات المتعاقبة التي لاتسمح لنا برؤيا العالم الآخر من خلال الفضائيات المتنوعة، ولم نعرف ماهي أسراره، لكننا اليوم أمسكنا بالحرية نوعا ما وعرفنا العالم وماذا ينبغي أن تكون الحياة لشاب في عمر لؤي عمران أنذاك، ينبغي ان تكون مثلما يقضيها أي صبيٍ في مرقص بسيطٍ في تلك الدول المنعمة التي تسيطرعلينا بإستعمارها القبيح بشتى أنواعه، ينبغي أن يكون لؤي (بسام عمران) موسيقيا، رياضيا، فنانا، حرفيا أو ذو شهادة يستطيع من خلالها نيل الحياة الحرة الكريمة، ينبغي أن يكون مدلّعاً من إحداهن وفارس أحلامها ويقضي الوقت بالمواعيد المترفة والمشعشعة تحت أضواء المقاصف، مع الصبية الآخرين من مجايليه كي يقضوا أوقاتهم معربدين مطربين نزقين فرحين ما امتد الليل حتى إنجلائه وبزوغ الشمس المشرقة. او على أقل تقدير ضمن بلدٍ عراقي يستطيع أن يعيش التقليد البسيط لشعوبنا الفقيرة والقاحلة في كل أنواع الترف والأنس، فيعيش على طيوب إحداهن وهي تنشد له (آنة أرد الوك اللؤي..مالوك أنا الغيرة..مجفلني برد الصبح..وتلجلج الليرة..ياريل باول زغرنة..إلعبنه طفيرة).أو أن يعيش متنقلاً بين المكتبات الثقافية والمقاهي المختلطة و المسارح والسينما وأضواءها متأبطاً ذراع إحداهن وهو متفاخراً مزهواً برجولته مكتفياً جنسياً وحباً وشميماً من الجنس اللطيف الذي حرمنا منه طيلة مراهقتنا القاتلة والصادية. ألمفروض أن يعيش لؤي عالمه المتخيّل وفق تخيلاته الشخصية التي ترسم له الحقيقة ولاغيرها، أن يكون نفسه بكل معنى الكلمة لكي يكون حرا لايعيش تحت تأثير إنقباضات الآخرين أو أهواء أناس ذهبت من قلوبهم الرحمة وأصبحوا في عداد الوحوش الكاسرة. المفروض أن يعيش لؤي في عالم البذخ والتدخين وسكر الليالي الحمراء الذي رسمته قوى الأمبريالية العالمية البغيضة لنفسها ولشعوبها لكنها علينا كالأسود والنمور التي تنهش في لحمنا وتتركنا عظام على الطرق المهجورة للديدان والحشرات كما نرى في الكثير من بلدان المجاعة والفقر مثل الصومال واليمن حيث يتقاتل أبناءهم فيما بينهم على تأريخ زائف جلّه يشير الى التخلّف والرجعية التي إنتهت حتى من قاموس المصطلحات الحديثة. فبدلا من هذه الحياة التي هي من حق أي كائن بشري، يدخل لؤي السجن وأقبيته المخيفة ومسمياته التي يتطرق لها في السرد، كمثل المسلخ، النظارة، جوّه الدرج، كلها مصطلحات مرعبة من صنع القتلة والسفاحين. بدلا من ذلك راح لؤي يودع قسرا إخوته وأخواته الذين شاطرهم المنزل والأبوين ليعيش الحياة المشتركة مع رفاقه في السجن والذين أصبحوا فيما بعد هم العائلة وهم موطن الأسرار. لؤي دخل المعترك السياسي والألم يعصر قلبه على أخيه الشهيد زهير عمران الذي أعدمه البعثيون منذ بداية الثمانينات.

من خلال السرد والروي نرى كيف أنّ لؤي كان في يفاعته حالما بالوطن الحر والشعب السعيد، حالما بصرخة ماركس (ياعمال العالم إتحدوا). وفي هذا العمر يكون الحلم هو الحقيقة الوحيدة التي لاتستنفد في العقل الباطن. فهل تنتهي الأحلام تلك التي تبقى في الذاكرة مهما إبتعدنا عنها زمكانياً (الذاكرة هي التي تملكنا ونحن لانملكها... المخرج الإيطالي الشهير فدريكو فلليني). ولذلك لؤي حتى بعد سنين عديدة لم يستطع أن يخرج من هذه الذاكرة والأحلام فراح يسطرها لنا بحرقة وألم شديدين لما تركت في نفسه من حفرٍ بالغ لايمكنه الإندمال، سطرها هنا وفي روايته المؤلمة هذه قيد دراستنا. علاوة على ذلك ندرك من أنّ الإنسان يواصل حياته مادام هناك أحباء يعرفوه ويهتموا به. لؤي يسجن بسبب الدفاع عن الجياع وقول الصدق لأن (قول الصدق في زمن الخديعة ثورة..جورج أوريل).

السجن كتب عنه الكثيرون من الأبطال والكتاب والشعراء وكلُّ منهم يراه من زاويته الخاصة به ومدى الأهوال التي رآها هناك من تعذيب وتحطيم للذات البشرية ولذلك كتب محمود درويش شاعر المقاومة الفلسطيني نصا جميلا بعنوان (السجن) الذي يقول فيه:

تغيرّ عنوان بيتي
و موعد أكلي
و مقدار تبغي تغيرّ
و لون ثيابي، ووجهي، و شكلي
و حتى القمر
عزيز عليّ هنا
صار أحلى و أكبر......

كي لايعود دكتاتور ثانية رواية خالصة عن التعذيب ومايحصل لسجين سياسي إذا ماوقع بين جلادي البعث، عقب فشل الجبهة الوطنية التي أطاح بها البعثيون وأنقلبوا عن مواعيدهم ومواثيقهم وحصل الذي حصل من آلام على الشيوعيين ودمار صفوف الحزب الشيوعي، والشعب العراقي بشكلٍ عام، لنر ماذا تقوله الرواية بخصوص ذلك ادناه:

(في منتصف سبعينيات القرن الماضي قام الحزب الشيوعي العراقي بتجميد منظماته المهنية بناءً على ضغوط من حليف الجبهة الوطنية القومية التقدمية)الكلش وطنية وتقدمية (في وقتها حزب البعث العربي الاشتراكي. فقد تم تجميد اتحاد الطلبة ورابطة المرأة و كذلك منظمة الشبيبة، ولذا كان على المنتسبين لهذه المنظمات أن يكونوا خارج العمل التنظيمي).

(لقد كان النظام يخطط للانقضاض على معارضيه وتأسيس أكبر دكتاتورية في الشرق الأوسط. وبالفعل وفي العام نفسه تمت مهاجمة مقرات الحزب الشيوعي واعتقال عناصره فقد غادر العراق من غادر وقد أعدم من أعدم وأعتقل من أعتقل).

(من جانبه قام الحزب الحاكم بإصدار قوانين تحرم التنظيمات غيرالبعثية في القوات المسلحة وأصدرت قوانين أخرى تحكم بالإعدام على أي عسكري في كافة صنوف القوات المسلحة يثبت عليه انتماؤه أو تعاونه مع أي تنظيم غير بعثي. ولم يحرك الحزب الشيوعي ساكنا،ً بل جمد عمل أعضائه الذين يساقون إلى الخدمة العسكرية، فكانت هذه الخطوة تمثل طعنة رمح قاتلة في جسد ذلك التحالف الهش أساسا).ً

لو نظرنا الى ماحصل لاستطعنا ان نر بكل وضوح ماقاله ماركس (إياكم والتنازل النظري والمساومة على المبادئ). فما الذي حدا بقيادات الحزب الشيوعي العراقي أنذاك بالتنازل هكذا وبشكل محيّر لايقبله العقل السليم. مما أدى ذلك الى تجروء النظام الجائر في توجيه الضربة القاصمة للحزب والشيوعية أنذاك التي كانت بالأساس قد مرّت بمراحل قاسية وعداءات كثيرة من قبل الحكام، أولها وليس آخرها التي شهد عليها الشاعر الشهير معروف الرصافي حيث أنه في ثلاثينات القرن الماضي، عبّر رئيس الوزراء حكمت سليمان عن خوفه من كلمة (الفقراء) ومعناها، لأنه يشمّ منها رائحة الشيوعية، ردّه الشاعر الكبير معروف الرصافي في خطبة في المجلس النيابي، الذي كان عضوا فيه عن لواء الدليم:

(سادتي، أنا شيوعي. لقد جاء في القرآن الحكيم (وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم، الذاريات: 19) فالضمير هنا يعود إلى الأغنياء. فسألتكم بالله: هل انّ الشيوعية غير هذا؟).

لؤي كاه طالبا غرا أنذاك فيعتقل مع مجموعة هي الأخرى معروفة في السماوة أو في نطاق آخر. في التعذيب يفقد الوعي مرارا ويصحوا من جديد على تعذيب آخر من قبل مجرمين ساديين اوغلوا في القتل وفقدان الضمير (أفٍ لها من عيشةٍ... مابين وغدٍ او لقيط....الجواهري).

الذي يحصل في العراق هو أننا مثلما نعيش في العصور الوسطى التي لم يكن فيها الضمير موجوداً اساسا حتى جاء شكسبير معلم الرقص وهو أول من إكتشف الضمير، لو تخيلنا العراق بهذه الصورة يعني أننا نعيش حالة الماقبل خمسمئة سنة التي كان يعيش بها شكسبير قبل إكتشافه للضمير. حتى وإن كنا نعيش هذا التخلف الوسطوي يفترض أن يكون لؤي عمران الصبي الطالب في الكلية في خضم حياة الرقص والفن والشعر واللهو مع النساء وقصص الحب الرومانسية الشكسبيرية أنذاك بدلا من السجن والتعذيب والتنقل بين أيدي الجلاّدين حتى يرى في السجن الكثير من الأطفال والصبية الذين لم تتجاوز أعمارهم الستة عشر كما هو (محمد السيد جاسم بائع الباقلاء الفقير والمعدم) ولذلك قال لويس أراغون (إنــني لأعـجــب مـن الـقتــلــة كيف لا يلقون أسلحتهم أمام الطفولــة..!!؟).

هنا لؤي يجسد نضال الحركة الطلابية كما الطالب الألماني الذي اعدم هو وأخته الطالبة هي الأخرى (صوفيا شول) بالمقصلة من قبل نازية هتلر في عام 1943، وهي مناضلة الحركة الطلابية، وقفت في المحكمة وقالت للقاضي الذي حكم عليها ودون خوف، اليوم نحن نقف هنا وغدا انت ستقف مكاننا وبالفعل إعدم كل من شارك في إعدام هؤلاء الصبية الطلاب بعد القضاء على النازية.

احد المعتقلين البريئين مع بسام (لؤي) وهو ابراهيم، يعذب تعذيبا وحشيا، وهو ليس له علاقة بأي حزب سياسي، كل ما في الأمر أنّ جاراً له كان ماشيا بجانب بيته فسمع من الشباك المطل على الشارع أنّ في بيته من ينصت إلى إذاعة إيران ولأنه يعرفه متدينا فكتب عنه تقريراً إلى أسياده وعندما هاجموا بيته وجدوا قصائد و كاسيتات للشعرتدين النظام ومنها قصائدَ حسينية.
ثم السجين موسى محي حمادي، رجل في الستين من عمره يعمل في مكتبة السماوة العامة وهو من أهالي كربلاء يشي به أحد المصريين يكنى ابو منى كان ساكنا معه في أحد فنادق السماوة، حيث يظهر في التلفاز السيد الخميني الذي كان يطلب من العرب أن يغيروا سياستهم النفطية، فكانت جريمة موسى محي أنه قال (السيد الخميني) أمام هذا المصري الذي يعمل وكيل أمن. فما هذا البلد المرعب الذي يأتيه رجل أجنبي من مصر فيتجسس على أبنائه.
(تتطرق الرواية الى بداية الحرب العراقية الإيرانية وإعتقال التجار لرفعهم أسعار الدولار. ولكثرة السجناء ينقل كل من لؤي ومحمد (محمد مشل هو الآخر من أهالي السماوة) من امن السماوة الى الخناق، ويوضعون في غرفة كانت ولزمن طويل تستخدم كمراحيض. ثم يسجن كل من توفيق وطالب وجبار. توفيق رياضي على مستوى من الممكن أن يؤهله للوصول الى المنتخب العراقي). طالب فنان رسام ثم جبار كان في تشيكسلفاكيا وعاد الى البلد وكان شاعراُ حيث قال في السجن:

"حبيبتي من زمنٍ فارقَتْ مدينتي فكلُّ شيءٍ سَأمَ
وفي رسالات الهوى بيننا سألتها تأتين؟ قالت:نعمْ
الآن أصبحت ملاكا ولي مطرقة ومنجلٌ والقلمْ "

الكثير من المناضلين وعلى رأسهم لوركا كان ينادي حبيبته من السجن، لومومبا يخاطب زوجته قبل الموت ويقول لها (لا الوحشية، ولا القسوة ولا التعذيب ستجعلني أطلب الرحمة).

ثم يقول.... زوجتي العزيزة(أنا أكتب هذه الكلمات ولا أعرف ما إذا كانت سوف تصل إليكم، وأنا ما أزال على قيد الحياة عند قرائتها).

إذن هو العشق الممزوج بين حب الأوطان وإمرأة هناك في المدن أو الأمصار الأخرى وتحت الشمس تستكين لها روح السجين. هذا العشق الذي يجعلنا نقول (الا بالله يارجال إذا حلّ عشقُ بالفتى كيف يصنعُ....يداري هواه ويصبرُ في كل الأمور ويخضعُ)... هكذا هي تعاليم الحياة الحرة الكريمة لو أراد إنشادها لؤي وهو في السجن، تعاليمُّ صعبة للغاية.. أحيانا تحشرنا في منعطف خطير لانعرف ما هو التصرف حيالها.. هل نستمر في الحب.. هل نطويه..أم ماذا... حلول كلها على طاولةِ العقل وحب عينيها أو ظفائرها التي تتمايلُ في مخيلة السجين وعلينا الخيار...والخيار لابد أن يكون كما فعله لؤي في المضي قدما في الصمود والصبر والعناد وإغاضة السجان والجلاوزة المجرمين مع الإبقاء على حبها، بل نستمد قوانا الجسدية وصمودنا من خلال عينيها وبريقهما. لنر أدناه كيف هي المرأة (الأم) وحنوها على بطل الرواية (لؤي) حين تريد رؤياه ولم يتحقق لها ذلك:

(ظلام وخوف، آلاف الخنافس تهاجمنا ليلاً، كان عددنا ستة معتقلين. كان المكان مراحيض سابقة قذرة، القمل كثير، أكثر من أن نسيطر عليه. لم نر شيئا،ً عزلة كاملة. أنا ذو التاسعة عشرة ربيعا أصغرهم سنا.ً أصرّ طالب (سجين مع لؤي)على كسر العزلة محاولاً الاطلاع على شيء ما، فحفر ثقبا قطره أقل من سنتمتر، لنطل من خلاله على العالم. فرأى بطل القصة (لؤي) أمه من خلال الثقب وهي تأتي بالطعام له لكن مفوض الشرطة طردها وظل يشتمهم ويحلف بأسم القائد الضرورة.. ثم يردف لؤي ويقول... ذهبت أمي مسرعة، خرجت من ذلك المكان. لا أعلم ماالذي حصل بعد ذلك، إلا بعد سنة ونصف عند زيارتها الأولى.).

ومن الخناق في السماوة ينقلون الى الأمن العامة وهناك يرون العديد من السجناء اليزيديين والشيوعيين وحزب الدعوة وغيرهم وسط سياط الجلادين والمجرمين الذين يشتمون الخميني ولينين ثم يساقون الى محكمة الثورة، وهناك يحكم على كل من لؤي عمران و جبار خضير عباس، محمد عبد الامير مشل، فاضل هاني طاهر، بالسجن خمسة عشر عاما مع مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة. ثم ينقلون بعدها الى أبي غريب حيث سجنهم الدائمي بلاشمس ولابصيص أمل.

في أبي غريب يتعرف لؤي على مجموعة من السجناء ومنهم كما نقرأ في سطور الرواية ادناه:
(إقتربت من الشبك حاولت أن اجمع شتاتي وأحاول التعرف عليه وهويشير لنفسه وبصوت عالي يقول....ألم تتعرف علي بعد أنا جارك لطالماالتقينا عند بوابة مدرسة الرشيد أنا محمد السيد جاسم أبو الباجلة اشبيك ما عرفتني... اهتز جسدي وتجمع شتاتي على غير عادته حيث لم يتجمع منذ زمن. إنه محمد الجار الذي اختفى ولا يعلم عنه أهله شيئا ذلك الشاب اليافع ذو الستة عشر ربيعا الذي اعتقلوه لانتمائه لمنظمة العمل الإسلامية.... لم أرَ سيد محمد و رفاقه إلا بعد ثلاثة و عشرين عاما ولم أتعرف عليه للوهلة الأولى عندما التقينا في عام 2003).

في الحجر يعذب بسام (لؤي) من جديد وهو محكوم بخمسة عشر عام، ثم تأتيه امه لزيارته لكنه في وضع مؤلم من التعذيب...فيطلبوا منه المساومة بين رؤيا أمه أو العمل معهم كوكيل أمن ورفض لأنه المناضل الحقيقي الذي لاتلويه الأعاصير. فتذهب أمه ولم يرها وماعليها سوى أن تذهب للكاظم وتطلب الدعاء لإبنها وهذا دأب شعوبنا البسيطة وصدق ماركس حين قال (أن الدين هو صرخة المظلوم).

99999999999999999999999

في رواية لؤي نرى المتناقضات في طبيعة المجتمع العراقي والمجتمع الشرقي بشكل عام حيث نرى من أنّ لؤي يسجن لكونه شيوعي وهذه بحد ذاتها تعني الكثير وخصوصا في مجال الدين والتدين، وهو في سجن أبي غريب وحين يزوراه أمه وأبوه ثم يعودا من زيارته يذهبان الى الإمام موسى الكاظم لغرض طلب الرجاء والدعاء لإبنهم كي يحفظه الرب من الشرور والأشرار، متناقضات عجيبة غريبة في داخل الإسرة نفسها لدى شعوبنا فنرى الأب متدين لكن الإبن ليس كذلك، فلا يستطيع أحد أن يفهم هذه اللخبطة الفكرية حتى كبار المثقفين، لكنها ليست صعبة على رجال حكماء غيروا من مصير شعوبهم في سير التقاليد والإعتقاد على سبيل المثال (بوذا) قال بصدد ذلك (الكهنة والشيوخ ورجال الدين بمختلف تسمياتهم هم أعداء الحقيقة وسلاحهم الوحيد هو إتهام الباحثين عن الحرية بالزندقة).

قضية زيارة الأولياء هذه التي تطرق لها الروائي لؤي لم تأتِ إعتباطا وإنما أراد منها ن تكون رسالة معينة، لما لها من أثر في نفس أبويه اللذين يحبهما حبا عميقا حيث نقرأ إهداء الرواية في الصفحة الأولى الى أبيه، وهذه غريزية لاتحتسب ضمن المجهود الفردي والسعي للحب وماعدا ذلك فهو من الشواذ الغير طبيعية. ولذلك أستطيع التنويه في هذا المجال وأقول (إنّ صرخات المستغيثين تنطلق سريعة ولكن الإستجابة لها تأتي متأخرة.......التأريخ في زجاجة...رواية سويدية) ودليلنا على ذلك إطلاق سراح لؤي بعد سنين طويلة وطويلة، هذا إذا كان إطلاق سراحه نتيجة الدعاء والرجاء من قبل أبويه وليس نتيجة السياسة التي تلعب بنا كلعبة الأفعى والسلّم...وأحيانا يدب الجهل في الإنسان الى حد الموت نتيجة الأمية وعدم المعرفة الأكاديمية التي يجب ان تعرض الى الآخرين لغرض منعهم من الإنجراف الى وهم القدسية المطلقة لولي من الأولياء بحيث نتخذه طبيبا مداويا ومشافيا كما حصل لصديق لي من أهالي الحمزة الشرقي حينما كان مريضا ويتناول الدواء الذي وصفه له الطبيب لكنه ذاق ذرعا من الدواء فذهب الى أحد الأولياء الصالحين ورمى الدواء في شبّاكه وقال للولي أنا جئتك هنا وأريد الشفاء منك فأنت الطبيب المشافي والمداوي ولاغيرك. ورحل مطمئنا متأكدا من شفاءه على بركات رحمة الولي...وفي الليل جائني خبره من أمه...لقد مات صديقك.

في الرواية نشهد بعض المفارقات التي تحصل في السجن والتي تشير الى غباء السجان والعاملين هناك، حيث انّ أحد السجناء يقرا من مكتبة السجن كتاب لأجاثا كريستي ولأن لونه يميل الى الحمرة عوقب عليه من احد العرفاء الجهلة وهذا العريف ينطبق عليه ماقاله لينين (إذا سقط المرء اصبح شرطيا..وأنا أضيف شرطيا غبياً..لأن شرطة اليوم في الغرب على مستوى عالي من الثقافة والمعرفة)، بينما (لؤي) كان يقرأ شرق المتوسط لعبدالرحمن منيف وهي الرواية الخطيرة والممنوعة أنذاك قد هربتها احد الزوجات لزوجها السجين لكن لونها ليس أحمرا فلم يعاقب عليها السجين الشيوعي لؤي.

يبقى لؤي في أبي غريب حتى يأتي العفو العام في زمن فاضل البراك الذي كان مدير الأمن العامة الذي أعدمه صدام حسين فيما بعد وبهذا يتحقق ماقالته الطالبة الألمانية التي أشرنا اليها أعلاه(صوفيا شول) التي قالت للمحقق أنت اليوم تعاقبنا وغدا يأتي من يعاقبك، وعلى الباغي تدور الدوائر.

يُنقل بسام مع بقية رفاقه السجناء من ابي غريب الى الأمن العامة حيث يجد هناك عائلته وابيه مع بقية العوائل لإستلام أبنائهم المفرج عنهم مع بعض المحاضرة لتخويفهم فيما لو تكلّموا يما لايرضي السلطة أنذاك. وبهذا يصبح لؤي حرا طليقا ليعيش الحياة مرة أخرى ليلاقي عراقا مدمرا محطما من جميع النواحي لنقرأ ماتقوله الرواية:

(خرجنا هذه المرة عيوننا غير معصوبة والأيدي غير مكبلة وسارت سيارة الكوستر باتجاه مدينة السماوة، لم نكن لنصدق حتى حطت السيارة رحالها في شارع الإستقلال (باتا)، عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل. الشارع موحش وفارغ إلا من أولئك الذين يرتدون الزيتوني وكأنهم في إنذار، فكان سهلاً أن نلاحظ أن الحرب قد تركت بصماتها على المدينة وأن هناك صوراً لشباب قد غادروا الحياة في الحرب المعتوهة التي افتعلها الدكتاتور).

أستطيع القول أن لؤي كان بديعا وأكثر بهجة ونضارة ومؤازرة لكل ماهو شفاف يتعلق بالحب لأمه ولوطنه أو الحب الأزلي الذي من شأنه أن يجعلنا سعداء هانئين وهذه هي الحياة التي يجب أن تعاش في حلّها وترحالها والتي قرأناها منطلقة من قلم لؤي نفسه لحب الوطن ورجاله الميامين الذين إستشهدوا و بقي الرصيف يشتاق اليهم لكونهم من السابلة الذين مروا فوقه وتركوا آثار أقدامهم وذكراهم وأحزانهم وبكاء ذويهم عليهم. مع العلم أن الحياة مهما طالت أو قصرت فهي نسبية دائما لأن جميع بني البشر هم لاحقون ببعضهم البعض مثلما ماقالها عمر الخيام (وكم تساوى راحلُ في الثرى غدا وراحلُ منذ آلاف السنين)، وهكذا هو مسرح الحياة، مهما طالت فترة بقائنا في هذه الأرض التي لانعرف لماذا جئنا اليها إذا كنا راحلين والى أين تسير بنا في دروبها الحالكة والهالكة (قل لي الى أين المسير...في ظلمة الدرب العسير...طالت لياليه بنا... والعمر لوتدري قصير). ثم انّ الحياة على خافقها شعلة منكّسة على الدوام، فيها من العثرات التي لابد لنا أن نحاكمها، العثرات الناجمة عن نظام حاكم أو صديق أو حبيب حاول الطعن بنا مرات ومرات.
وفي النهاية يبقى المثقف التقدمي على غرار لؤي ورفاقه الآخرين شموس ساطعة مستمرة تخيف الطغاة ورجال السلطة (أتحسس مسدسي عند سماعي كلمة مثقف....جوزيف جوبلز.. وزير أعلام هتلر)، هذا الرجل قتل أطفاله الستة وكانوا جميعهم يحملون حرف الهاء تيمنا بهتلر ثم انتحر هو وزوجته لكي لايهانون من قبل الروس ولكي يبقى حتى مماته مناصرا للجريمة والمجرم هتلر، وهذا النوع من الرجال هم من المثقفين المتملقين والمصفقين والمؤازرين لرؤسائهم حتى في الجريمة وقتل شعوبهم وما أكثرهم وهؤلاء هم الأخطر على الشعوب (لينين)، ومن أمثال هؤلاء عبد الرزاق عبد الواحد المجرم الذي مات وهو يشكر ولي نعمته صدام، ثم وزير الإعلام العراقي المجرم محمد الصحاف.

السجن مهما كان هو تحطيم للنفس خصوصا لسجناء الرأي، لأنهم الأكثرعناداً واصراراً على الحب. هم دائما على غرار ريتسوس الشيوعي الذي سجن مرارا ولم يتوقف عن نضاله في سبيل الحرية والتحرر، بل أكثر من ذلك راح يكتب لنا أجمل اشعاره الآيروتيك والحب الذي ظل عابقا بنكهتهِ الريتسوسية التي ترجمت الى كافة لغات العالم.
ورغم مرارة الحياة التي تكبدها وعاشها الشيوعي في السجون ومالاقاه من أهوال لكنه اليوم يحسد على سمعته ونزاهته وأخلاقه في كافة مجالات الحياة، وأنا كاتب المقال و في وقت كتابتي لهذه القراءة، كنت أتحدث مع إحداهنّ في الماسنجر فقالت لي عن طريفةٍ أضحكتني كثيرا وقد حدثت قبل يومين فقلت حمدا لله أنّ الشيوعي هكذا تكون له هذه السمعة التي نقلتها لي (سميّة) الفتاة الأربعينية الرائعة في هذه الحكاية أدناه:

(شيوعي من السماوة أراد ان يؤنب أخته لفعلها بعض المشاكسة فصار عصبيا، بينما صديقتا أخته تنظرانَ اليهما فيما يتشاكسان فقالت أحداهما خطية سندس سوف يظربها أخوها، لنفعل شيئا ونوقفهما فقالت الأخرى..سميّة.....لالالالا عيني سعاد لاتخافي سوف لن يضربها... لأنّ أخاها هذا شيوعي... والشيوعيون لايَضرِبون.... بل يُضرَبون).

وفي النهاية أعلنُ صرختي مع لؤي ورفاقه الشيوعيين الذين نالوا الحرية او الذين إستشهدوا فأقول ماقاله ُالشيخ جمال الدين الأفغاني (ملعونُّ في دين الرحمن..من يبني سجناً.. من يرفعُ رايات الطغيان..ملعونُّ في كل الأديان..من يهدرُ حق الإنسان..حتى لو صلّى أو زكى..أو عاش العمر مع القرآن).

هـــاتف بشبــوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى