الاثنين ٨ أيار (مايو) ٢٠١٧

قلب الروائي مهند الصباح لا زال هناك

ديمة جمعة السمان

"قلبي هناك" رواية مهند الصباح أهداها الكاتب إلى قلبه النابض بها، إلى من كانت سببا ليكون قلبه هناك، إلى قريته التي هجر منها جده، إلى قرية قالونيا.

يستطيع القارىء أن يقرأ ما أخفاه الكاتب بين السطور، فالاهداء لم يقتصر على قالونيا، بل شمل كل قرية أو بلدة لا زالت تسكن في قلوب مهجريها، حيث انتهت مصائرهم في إحدى مخيمات اللاجئين، تاركين ذكرياتهم وراءهم تشهد أنهم كانوا هناك. حياة خشنة عاشوها في مخيمات اللجوء التي تكرمت وجادت عليهم بها وكالة الغوث. لوحة رسمها الكاتب بإتقان، تصور لنا قسوة الحياة في المخيمات، وبيئتها غير الصحية، والحياة الاجتماعية التي تحرمه من خصوصيته، حيث عاشها اللاجىء مكرها.

هي مخيمات وما أدراك ما المخيمات! تمضي الأيام، وتتحول الخيام المعهودة إلى اسمنتية، يتغير شكلها الهندسي الهرمي المألوف أيضا، ولكن وضع اللاجىء ونفسيته وظروفه تأبى أن تتغير. يكبر الأولاد في "تغريبتهم" ويدركون الأمور من حولهم على حقيقتها. يكبر الطفل ابراهيم، يلتحق بالجامعة ويتخرج منها وصديق الطفولة محمود، وكأي شاب مفعم بالحياة، كان يظن أن الدنيا ستفتح أبوابها له فور تخرجه، وإذا به يصطدم بواقع البطالة التي تلاحق الشباب، وتقتل أحلامهم. وبعد سنتين من عذابات البطالة يتعثر محمود في إحدى برامج المؤسسات النرويجية غير الحكومية التطبيعية (إن. جي. اوز). وما شجعه أن المنحة مدفوعة كاملة لمدة سنتين، بشرط العودة الى البلاد، مع ضمان العمل بعد العودة. وبما أن هناك فرصة لاثنين، يقوم محمود بإقناع إبراهيم التقديم للمنحة؛ ليكون رفيقه في السفر، خاصة وأن ابراهيم كان قد تعرض لصدمة عاطفية أوصلته مرحلة الياس، فقد تزوجت حبيبته من آخر بعد فشله في إيجاد عمل، مما منعه من التقدم لطلب يدها، فضاعت منه فرصة الزواج من سلمى. ولم يكن قبول ابراهيم للمنحة سوى نوع من الهروب من واقع مرير. لقد أجاد الكاتب التطرق لهذه القضية التي تواجه شبابنا، وتدفعهم الى الهجرة خارج البلاد بحثا عن فرصة عمل.

أصابع اليد ليست واحدة، وهكذا هم الشباب المهاجرون أيضا، فمنهم من يلتزم بدينه وخلقه وعاداته وتقاليده في بلاد الغربة، ومنهم من يخلعها على باب الطائرة إلى حين عودته إلى البلاد؛ ليلتم الشمل من جديد، تماما كمحمود الذي سمح لنفسه أن ينجرف خلف الشّهوات والملذّات في النرويج. أمّا ابراهيم فقد كان ملتزما، وتقيّد بنصائح الجد الصديق الصدوق الحكيم، على الرغم من المغريات التي أوقعت العديد من ضعاف النفوس من الشباب في براثنها، الا أن تمسك ابراهيم بالثوابت التي نشأ عليها جعله يرد شتى المغريات خائبة، مع ضرورة الاشارة أن الفضل الأكبر كان لجده وعلاقته المتميزة معه، فقد كان صديقا قريبا مخلصا لحفيده مثّل عنده الضمير. كم أعجبتني علاقة الحفيد بالجد، أتقن الكاتب وصفها، وأظهر أهميتها، فللجد والجدة دور كبير في حياة الحفيد، قد يؤثر به أكثر من أبويه، وهذا ما كان.
ويعود الصديقان إلى البلاد ليكتشفا أن العمل الذي حصلا عليه بعد حصولهما على المنحة ما هو سوى محاولة لترويضهما؛ ليقبلا الذل والهوان، وليغضا البصر عن الانتهاكات الاسرائيلية بحق أبناء جلدتهم باسم الحضارة والديمقراطية. فتغلب الضمير الوطني الانساني، وتركا العمل غير نادمين. فعاد محمود وزوجته النرويجية إنغريد إلى النرويج× ليبحثا عن عمل يناسبهما. وبقي ابراهيم وزوجته صوفيا (وهي من أصول عربية ومن أم نرويجية) في القدس يديران مؤسسة تعنى بحقوق الانسان، ليعملا على إحياء الذاكرة الوطنية الفلسطينية، ينظمان رحلات إلى المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948. كل يروي قصة تهجيره من بلدته تاركا بيتا يحتضن ذكرياته وذكريات أسرته، ويعود العلم الفلسطيني يرفرف هناك عاليا حرا طليقا. وإذا بعين المحتل ترقب من بعيد، فوقفوا له بالمرصاد، اعتقلوا وهددوا وحاولوا إيقاف برنامج ابراهيم الوطني بشتى الوسائل، فلم ينجحوا، بل زاده ذلك إصرارا على المضي في طريقه.

وتتدخل عاطفة الأبوة محاولة منع ابراهيم من الاستمرار بالرحلات، التي قد ترمي به في غياهب سجون الاحتلال، فهدد الأب وتوعد محاولا استخدام سطوته وسيطرته كأب شرقي، إلا أن إصرار ابراهيم انتصر.

رواية عدلت البوصلة، وكشفت عن أصالة الفلسطيني، وكشفت عن مؤامرات يخطط لها الغرب تحمل عنوان الديمقراطية وحقوق الانسان، برامج تقود الفلسطيني بنعومة إلى التقيد بنص كتبه الأوروبي بذكاء؛ ليخدم مصالحه ومصالح الاحتلال يحمل شعار الديمقراطية، وهو براء منها ومن مفهوم الانسانية التي يتغنى بها الغرب، ويتصف فيها زورا وبهتانا.

ديمة جمعة السمان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى