السبت ٢٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم جورج سلوم

تباعُد اجتماعي

لستُ من معالجي مرضى الكورونا، ولست مخوّلاً باختصاصي إلا للاشتباه بالمرض وإحالة المريض لمركزٍ مختصٍّ بذلك.

ومجموعة الأعراض والعلامات التي جاءني بها ذاك المريض جعلتني أشتبه بالمرض فقط وألمّح له تلميحاً، لكنّه فهم الأمر على أنه تشخيصٌ مؤكّد، لأنّ الحملات التثقيفية جعلت كلّ المواطنين مستعدّين لخبرٍ مؤلم كهذا.

كان أمامي كالمتّهم بجريمة العصر، وكان تلميحي كالقضاء والقدر بالرغم من نبرتي الخافتة وكلماتي المتردّدة وغير الواثقة.

وسرعان ما نفرت من عينيه الدموع، وسرعان ما ابتعدَتْ وتباعدَت عنه زوجته، ولولا العيب لفرّت منه مذعورةً، وكأنه كلبٌ مصاب بالسُّعار، والابتعاد عنه سيقيك عضّاته المعدية.

أعطيته رقماً هاتفياً خاصاً ليتّصل به ويتلقّى التعليمات المناسبة، وخرجا من عندي يتسابقان في التباعد الاجتماعي عن بعضهما.

وبعد أيامٍ ثلاثة، دفعني الفضول لأتّصل به مستفسراً عن نتائج التحاليل المخبرية، لكنّ زوجته أجابت بأنه سافر فوراً إلى أهله في القرية ليمارس الحجر والانعزال الطوعيّ، حيث ـ كما قالت ـ أنّ بيوت القرية كبيرة وتحيط بها البساتين التي تداعبها الريح صيفاً وتلاعبها شتاءً، وهكذا سيكون بعيداً عن أطفاله، وبيت القرية ما فيه إلا أمّه العجوز، وكما تعرف فالعجوز أكلت عمرها!

قلت:

 ونتيجة التحليل إيجابية؟

قالت:

 لم يشأ أن يُجري مسحةً من أنفه ولا تحليلاً..بل انطلق من باب عيادتك إلى قريته مباشرة!

قلت:

 هذا لا يجوز يا سيدتي..فالأمر كان اشتباهاً فقط.

لم يعنيني الأمر، ولم أشعرْ بأني اقترفت جرماً بتوجيه إصبع اتهامي لهذا وذاك جزافاً وبلا يقين، ورأيت مواطننا مستعدّاً لتهمةٍ كهذه ومعبّأ لها وجاهزاً للعزل والحجر بما يشبه الهروب الطوعيّ من محيطِه الموبوء.

محيطُه القريب الموبوء والمشحون ليس بالكورونا، وإنما بالكثير الكثير من الأمراض الاجتماعية المستوطنة والتي يكون علاجها بالتباعد الاجتماعي فقط، لكنّهم كانوا بحاجة إلى العذر المقبول والشرعيّ والمحبّذ للإفلات من المحيط، لا بل وتغييره ولو مؤقتاً.

ما كانت حزينة لابتعاده، وما شعر صاحبنا بنقصٍ افتقده، وغيره وغيرها ومثله ومثلها، كان الأمر بالتباعد نعمة، وكأنهم كانوا ينتظرونها ويحنّون إليها، وخاصة بعد فترة حظر التجوّل السابقة والتزام البيوت والتلاصق الاجتماعي التي زاد أمراض العائلات الموصدة على جراثيمها والمنغلقة على فيروساتها والهاجعة على أورامها والكامنة فوق خباثاتها، فتكاثرت حتى سبّبت الاختناق العاطفي والاحتقان الرّوحيّ..ولذا كان التباعد الاجتماعي كمن يتنفّس الصعداء.

كانوا ـ بمعظمهم ـ سعداء بإضافة اسمهم إلى قوائم المصابين، وكانوا مستعدّين لتقبّل فكرة أنني سأموت بعد أسبوعين،لا بل وإعلان ذلك على الملأ، فدعوني أودّع الدنيا بطريقتي!

أما في قرارة أنفسهم فهم يثقون بأنهم ليسوا مرضى بذاك المرض، ولذلك ظلّوا بلا تحاليل ولا علاج، وفكرة الانعزال الطوعي والتباعد الاجتماعي راقت لهم فهجعوا إليها، وركنوا أجسادهم في مرآب الراحة التي لابدّ منها.

ومشافينا غير كافية لاستيعابهم، وإمكاناتها محدودة، وظروف العزل في المشافي غير لائقة، إذن دعوني يا قوم أغيب عن عملي غياباً مبرّراً، ودعوني أعتزل الخلق المخالطين لي لأنّ المرَض الحقيقيّ فيهم ومنهم وبهم أيضاً، بعيونهم وألستنهم وسوء عشرتهم وحقدهم ونميمتهم واغتيابهم وحسدهم وجشعهم، دعوني أرتاح في فترة حضانة الفيروس لأسبوعين، وأنام كالدجاجة الحاضنة على بيوضي في عشّي أو أي عشٍّ يحتويني.

طبعاً..ولا يُعمّم كلامي على الجميع، لأنّ المريض الحقيقي تراه غريقاً ملتمساً قشّة طافية وسط الموج العاتي ليتعلّق بها، لا بل ترى المريض الحقيقي أشدّ التزاماً بعائلته، إذ يطلب منهم العون والإسناد والإمداد لأنّ شدة الأعراض تستضعفه حقيقةً فيذوي ولا ينزوي.

 لا تقترب منّي فقد أكون مصابة بالوباء فأنقله إليك، نَمْ أنتَ اليوم خارجاً وابتعد عني مترين على الأقل، لا تجعلني أرى وجهك وشاربك المتهدّل، ابقهما خلف قناعك الواقي، ودعنا لا نجتمع ولا نلتقي على مائدة الطعام، أصلاً أنا لن أستطيع تحضير وجباتك حرصاً عليك..وا زوجي الحبيب!

وقال في نفسه، بعد أن أومأ برأسه وأسدل جفنيه موافقاً:

 نعم..نعم..وذلك ضروريٌ لنا نحن الاثنين، أصلاً كنا نمارس حياتنا الزوجية من واديين يفصلهما جبل من جليد، حاولنا تذويبه ولكنّ البرودة قسّته وفاقمته..كنا متباعدين سرّاً والآن سنتباعد جهراً لأنّ الفيروس غدا ثالثنا.

وفعلاً تابعا حياتهما ضمن المنزل الواحد ولا يربطهما إلا الهاتف الجوال، الذي لم يثبت حتى الآن أنه قد ينقل الفيروس الخانق.

وفي العمل، ما أحلى التباعد الاجتماعي عن زميل أمقته، ووجوده وثرثرته في مكتبي يرفعان حرارتي، وما أحلى الدوائر الحكومية التي خفّ زحامها، وكم كنت أكره تلاصق الأجساد عديدة الروائح ومتعدّدة السموم.

لكنّ صديقاً لي قال وهو يعبث بكمامته:

 وما زال بي حنين إلى صويحبتي، وما زلت أستلذّ ارتشاف القهوة من فنجانها حيث انطبعت شفتاها، وأندفع مقترباً منها لأسترق قبلة من تحت كمامتها، فما أطيب فيروساتها التي ترفع حرارتي ولا تقتلني!

وحتى ساعة إعداد هاتيك السطور، كان الأمر بالتباعد بالمعروف كالنهي عن التقارب الذي صار منكراً.

لكنْ بالله عليك قل لي..تباعدٌ عن مَن؟..وتقاربٌ مِن مَن؟

لست أدري!

هنيئاً لكم يا قوم فقد فزتم بالتباعد الاجتماعي الذي كنتم تنشدونه، وصبراً على الفيروس ريثما تهجع فوعته، وعندها ستعودون للتقارب إن كنتم تحنّون إليه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى