الجمعة ٣ شباط (فبراير) ٢٠١٧

المثقف الطفيلي عندما يعتلي منصة

بسّام عليّان

لا اقصد من مقالي هذا كل المثقفين، فالحياة لم تزل تتسع للخيرين والمبدعين من كتّاب ومفكرين وشعراء وفنانين ومختصين محترفين بارعين لم تزل رؤيتهم صافية ومكابداتهم مستمرة وهمومهم لا حدود لها.. ولم تزل منطلقاتهم نزيهة وحية ومفعمة بالحركة.. ولكنني اخصص مقالي هذا لكل من اضاع الزمن معاييره في الحياة وبات يحمل امراضا وتعقيدات لا حدود لها، فضلا عن الطفيليين الذين انتجتهم الازمان الخاطئة عندما سارت بنا الحياة في غير طريقها.. دعوني اقول انه لا يمكن حصر امراض المثقفين في مقال واحد، فهي لا تعد ولا تحصى من ترسبات تاريخ او عادات مجتمع او بقايا اوبئة سياسية متهتكة.. خصوصا اذا ما تقدمت عوامل التشخيص وفضحت المكاشفات والنقدات ما يدعيّه هذا او ذاك من المثقفين.. وغدا مصطلح الثقافة والمثقفين في حالة من الابتذال ابان هذا الزمن الصعب! نعم، لقد كثرت امراض المثقفين، وتورمت عما كانت عليه منذ ازمان الانقلابات والايديولوجيات والهوس العاطفي باتجاه اليمين او اليسار ناهيكم عما حفل به كل من القرنين العشرين والواحد والعشرين؛ من نخب مثقفين سلطويين ومن مطبلين ومزمرين ورقاصين ومتهتكين من خطباء وكتّاب وشعراء وصحفيين ومؤلفين وفنانين وقوالين.. الخ

من جانب آخر، ازدادت اليوم تلك الفجوة الساكتة بين المثقف والاخلاقيات العالية او قل التقاليد الرائجة، وباتت الامور مهترئة الى درجة لا يمكن ان تبقى مختفية.. رّد عليّ صاحبي ليفصح لي عن حقائق كانت مغيّبة عني وهي تحكي ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تاريخ من جعل من نفسه أحد سدنة الثقافة الفلسطينية؛ و"ثقافته المتسعة" التي لا أول لها ولا آخر! ماذا احدثّكم عن لصوص الكلمات ومستلبي الافكار من الذين يسمون انفسهم بالمثقفين ظلما وعدوانا؟ وماذا احدّثكم عن مزوّري المواقف ومخرجي الادوار الذين يسمون انفسهم بالسياسيين وهم يتطفلون على الثقافة والمثقفين وعلى السياسة والسياسيين؛ من دون ان يمتلكوا اي احساس بالحذاقة ؛ فالمثقف له صنعته بفكره او قلمه او ابداعه ويستوحي الاشياء ليعبر عن روح مجتمعه بعيدا عن اي سلطة او اي جاه او اي اجندة؟ اما من يلهث وراء اي سلطة أو إدارة أو هيمنة؛ او نفوذ في مؤسسة الكتاب والمثقفين، فانهم – كما وصفهم صديقي الفيلسوف ـ بسراق الاقنعة ومنتحلي كل الادوار الرائجة.

حالة اخرى لم تكن موجودة لدى مثقفينا في ماضينا التليد، تلك التي تجدهم فيها يشترون منك ثم يبيعون اليك.. انهم يجترون افكارك ويستلبون كتاباتك على عينك يا تاجر.. وهذا لم نجده لدى مثقفين آخرين في هذا العالم. كل هذا وذاك لا نجده في مجتمعات مثقفة في اي من العالم المتقدم، فالحقوق محفوظة والامانات مصانة ويا ويل من يتجاوز على حقوق الاخرين. وان كان هذا او ذاك قد حصل في كتب ومنشورات مطبوعة، فلا تسل عما يحدث من استلابات في الصحف اليومية والمواقع الالكترونية التي لا يمكنها ان تحيا ابدا من دون نشر مقال لهذا او ذاك من دون ان يعرف بذلك.

لقد زادت امراض المثقفين العرب هذه الايام، بحيث لا يمكن ان يجد من يحاسب السراق والمنتحلين والسلابين وفقراء المعرفة المساكين.. وربما يسقط واحدهم، ولكن حين يسقط شرف الكلمات يبقى الكلام محكوما بالحقيقة الضائعة! ناهيكم عن تلك المزاجية المازوشية والنرجسية القاتلة.. تجد هذا منفوخا وتجد ذاك متعجرفا وتلك تؤله ذاتها.. والاخر مزاجي لا يمكن ان تتعامل معه.. وانت في وسط غابة تعّج بالعلاقات الانانية الموبوءة والاحقاد الدفينة والكراهية التي تبدو على سيماهم واضحة جلية وخصوصا اولئك الذين يتوهمون انفسهم كبارا وهم من الصغار.. انهم يأكلون الحقيقة بقوة اللفظ لا بقوة الدلالة والوقائع والسلوك والاعمال والاخلاقيات العالية، وهؤلاء عاشوا على قوة اللفظ ولم يعيشوا ماثرة التواضع او ايثار العرفان الفكري في الكلمة، المعرفة بلا عرفان كالهواء في الغربال... انهم اضعف الناس في المواجهة، ففاقد الشئ لا يعطيه، اذ تجدهم يهربون من المواجهة ولكنهم يغالون في الانشاء والكلام الفارغ والتهريج الممّل.. انهم يعدوّن من افضل المشوهين في الهامش السياسي والحوافي الفكرية.

دعوني اكون صريحا لأقول بأن اغلب المثقفين، هم من اكثر الناس تنّكرا لمعروف ابناء جلدتهم وليعذرني كل المثقفين ان اطلقت هكذا صفة بشكل عام، ذلك انهم لا يقدرّون حقوق رجالهم ونسائهم خصوصا اذا اختلفوا عنهم في المذهب والتيار والتفكير.. ان بعضهم لا تعرفهم الا من خلال استعراض عضلاتهم!! وان الكثير منهم لا يعترفون باخطائهم وخطاياهم.. ويا ويلك ان اختلفت في الرأي معهم! انهم من اكثر الناس ايغالا في الجحود وهم ينافقون ويهربون من المواجهة.. ونادرا ما اجد من يقف مخلصا للاخر او وفيا لمن يشاركه اغلى الاشياء!! وان كان هناك من يتمتع بالمصداقية وروعة الابداع والشهرة المبكرة، فانه سيصادف مشكلات وعوائق.. ففي مجتمعاتنا تقوم العملة السيئة بطرد العملة الجيدة.

لقد تمّرس البعض على ان يكرهوا كل الوجود بمقالاتهم السياسية، بل غدوا يكرهون بعضهم بعضا بشكل لا يصدّق!! وليس أسوأ من ينعت مؤسسات معينة باشنع الصفات لاسباب علاقات شخصية ليس الا، ويمكن ان نختلف سياسيا وفكريا مع احترام المؤسسات الفاعلة والحيوية، اما ان نقلب الطاولة باستخدام كل المبتذلات ضدها، فان الثقافة العربية في ازمة اخلاقية حقيقية. لعلّ من اسوأ الصفات ان تفقد تواضعك وتحارب زملاءك وتسيئ الظنون بهم.. ان من اجمل الصفات ان تكون صريحا وشفافا وجادا ومباشرا وملتزما باصول المجتمع وتحترم كل تنوعاته من دون اي تعصّب ولا اي تطرف..

وانظر، انهم يذبحون البشر بالسنتهم واقلامهم قبل ان يستخدموا تصفياتهم لانفاس الاخرين.. لا اعتقد ان هناك من صنف يسيئ لنفسه وتاريخه مثل هذا الذي يفعله المثقفون!! انهم نتاج بيئات مشوهة واساليب تربوية هزيلة.. ويتوّضح هذا التشّوه في الشتات، بحيث يريد احدهم افتراس الاخر، بل ويحاربه حتى في رزقه!! وأسأل : هل لأنهم غير متجانسين؟ هل لأنهم غير متوازنين؟ ام انهم غير مثقفين حقيقيين؟ هل لأنهم يمتلكون بقايا كمّ هائل من بشائع التاريخ؟ هل تجدهم أسوياء في تصرفاتهم؟ لماذا لم يستمعوا لاصوات العقلاء وضرورات المستقبل؟ وهل خلا ثقافاتنا في بيئاتنا المتنوعة من عقلاء الى هذا الحد؟ لا اعتقد ابدا، فليس هناك اذكى من المثقف الحقيقي عبر التاريخ، ولكن قوة التشوّهات التي صنعوها لأنفسهم قد جعلتهم بمثل هذا الحال وهذه الاحوال..

.. ثمة قيود لابد لها ان تكون في ما يخص حقوق المؤلف والمثقف والمبدع والفنان.. ثمة قوانين وتقاليد واعراف لابد لها ان تعيد للمثقفين مكانتهم في الحياة الجديدة.. ان المثقف الحقيقي الذي يحتاجه مستقبلنا هو من يؤمن ايمانا حقيقيا بالتفكير المدني والحياة المدنية والعلاقات المدنية والافكار المدنية والقطائع على اسس مدنية.. ومن خلال مبدأ العلمنة والتحرر من قبضة كل بقايا التاريخ ورواسبه القاتلة، فضلا عن الاستعانة بالعقل دوما. ثمة علاجات واقية لابد لنا ان نجدها لدى حياة مثقفين حقيقيين في هذا العالم كي نتعلم منها الكثير من دون اي شعور كاذب بالعظمة الفارغة....!!!؟؟

بسّام عليّان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى