الخميس ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١٧
جولة مع مثل:
بقلم فاروق مواسي

الصيفَ ضيّعتِ اللبن

هذا المثل يقال لمن يضيّع الفرصة بسبب الطمع.

المثل يلفظ كما ورد في الأصل، فإذا خاطبت جماعة لا أقول لهم "ضيعتم" بل "ضيعتِ" – كما وردت في الأصل.

(انظر:الحريري في "درة الغواص"، ص 237، وابن السِّكّيت في "إصلاح المنطق، ص 28).

وردت القصة في روايات مختلفة تلتقي في فكرتها الجوهرية: الخيرِ المُضيّع بالطَّمع، أو فيمن ضيع الفرصة وفوّتها.

ورد المثل في (مجمع الأمثال) للميداني- المثل رقم 2725.

فِي الصِّيفِ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ

"ويروى "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللبن" والتاء من"ضيعت" مكسور في كل حال إذا خوطب به المذكر والمؤنث والاثنان والجمع؛ لأن المثَلَ في الأصل خوطبت به امرَأة، وهي دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زُرارة كانت تحت عمرو بن عُدَاس، وكان شيخًا كبيرًا فَفَركَتْهُ (فركته: كرهته) فطلقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه، أجْدَبَتْ فبعثت إلى عمرو تطلب منه حَلُوبة، فَقَال عمرو:

"في الصيف ضيعت اللبن".

فلما رجع الرسول وقَال لها ما قَال عمرو، ضربَتْ يَدَها على منكِب زوجها، وقَالت:

"هذا ومَذْقُه خَيرٌ"- تعني أن هذا الزوج مع عدم اللبن خيرٌ من عمرو، فذهبت كلماتها مَثَلاً.

فالأول يضرب لمن يطلب شيئًا قد فَوَّته على نفسه، والثاني يضرب لمن قَنَع باليسير إذا لم يجد الخطير.

وإنما خص الصيف لأن سؤالها الطلاقَ كان في الصيف، أو أن الرجل إذا لم يطرق ماشيته في الصيف كان مضيعًا لألبانها عند الحاجة".

انتبه للجملة الأخيرة من الاقتباس، فالمثل إذن له سبب آخر، وقد أشار إلى ذلك كذلك ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، فهو لا يذكر أية قصة تتعلق بامرأة تطلب لبنًا، بل شرح المثل ضمن "طلب الحاجة بعد فواتها":

"معناه أن الرجل إذا لم يُطرق ماشيته في الصيف كان مضيّعًا لألبانها عند الحاجة".
(ج3، ص 126).

ملاحظة:

إذا بدأنا المثل: الصيفَ، فإعراب الكلمة: ظرف زمان منصوب متعلق بالفعل بعدها.

رواية أخرى لقصة المثل:

كانت امرأة الأسوَد بن هُرمُز عنودًا لا ترغب في صحبة زوجها، ثم جرى بينه وبين العنود ما أدى إلى الطلاق، فحنّ الأسود إليها، فراسلها، فأجابته بقولها:

أتركتَني حتى إذا
عُلِّقتَ أبيضَ كالشطَنْ
أنشأتَ تطلب وصلَنا
في الصيف ضيعتَ اللبن

التاء هنا مفتوحة ، وهي في المثل مكسورة.

(الزمخشري: المستقصَى في أمثال العرب، رقم 1426)

(الفيروز أبادي- القاموس المحيط ، مادة "ضاع"، وهو يذكر فتح (ضيعتَ).

الشيء بالشيء يُذكر:

خاطب وضّاح اليمن (ت. 709 م) حبيبته روضة مقتبسًا بيتي امرأة الأسود بن هرمز:

يا رَوضَة َ الوضَّاحِ
قَدْ عَنَّيْتِ وَضَّاحَ اليَمَنْ
فاسقي خليلكِ من شرا
بٍ لمْ يكدِّرْهُ الدرنْ
الريحُ رِيحُ سَفَرْجَلٍ
والطعمُ طعمُ سلافِ دنّ
أخبرهُ إما جئتهُ
أنَّ الفؤادَ بهِ يُجَنّ
أبْغَضْتُ فيهِ أحِبَّتي
وقليتُ أهلي والوطنْ
..[...]
أتركتني حتى إذا
عُلِّقتُ أبيضَ كالشطنْ
أنشأتَ تطلبُ وصلنا
في الصيفِ ضيعتِ اللبنْ

(الأصفهاني: الأغاني، ج6، ص 228)

نعود إلى رواية الميداني المشهورة كما ترد في مصادر أخرى كثيرة:

هذا المثل في الأصل خوطبت به امرَأة وهي دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زُرارة (تميمية توفيت نحو 594 م) كانت زوجة لأبي شُرَيح عمرو بن عُدَاس، وقيل إنها كانت ابنة عمه، وبعدما أسنّ زوجها وأصبح عجوزًا، وكان أكثر قومه مالاً وأعظمهم شرفًا، وكان رجلاً كبيرًا وشهمًا كريمًا، فكان يغدق عليها طعامًا وشرابًا ولبنًا سائغًا للشاربين، لكنّها كرهت شيخوخته، بعد أن أصبح قبيحًا رديء الفم وأبرص أبخر أعرج، فأخذت تؤذيه وتسمعه ما يكره وتهجره، ففركته حتى طلّقها. وكان سبب الطلاق هو أنه وضع رأسه ذات يوم في حِجرها، فهي تُهمهُم وتُفلي في رأسه فأغفى ونام عمرو، فَسال لعابه وهو بين النائم واليقظان فانتبه لِذلك، فلقي دختنوس تَتأفف منه، فقال :
“أيسرك أن أفارقك وأطلقك؟”

قالت: “نعم”

فَطلقها، وكان ذَلِكَ في الصيف.

ثمّ تزوجت بعده بشابٍ جميل المُحيّا وسيمًا وهو عُمير بن مَعبد من “آلِ زُرارة”، لكنّه لم يكن كزوجها السابق في الشجاعة والمروءة وكريم الخصال، ولا وجهًا مشرقًا بالسرور ولا معاملة محفوفة بالإعزاز والإكرام .

وذات عام أجدبت الأرض وأصبحت قاحلة، وكان الوقتُ صيفًا قائظًا، فمرت إبل عمرو بن عدس عليها كأنها الليل من كثرتها، فقالت دختنوس لخادمتها:

“ويلك انطلقي إلى أبي شُريح فقولي له: فليسقنا من اللبن”!

فأتت الخادمة تطلب منه حَلُوبة فقالت له:

إن بنت عمك دختنوس تقول لك اسقِنا من لبنك!

فقال لها عمرو:

قولي لها “في الصّيف ضيّعْتِ اللّبن” يا دختنوس!

فمضى مثلاً مُتداولا بين العرب يضرب لمن ضيّع الفرصة، وفوّت الغنيمة، وقيل إن هذا المثل يروى هكذا :”الصيف ضيَّحتِ اللبن” بالحاء بدلاً من العين، وهو من الضياح والضَّيح، وهو اللبن الممذوق (والمذقة شربة ممزوجة) الكثير الماء، ويقصد: الصيف أفسدت اللبن وحرمته نفسك.

ثم أرسل إليها بلقوحين من لبن، فقالت الخادمة:

أرسل إليكِ أبو شُرَيح بِهذا، وهو يقول لكِ: في الصّيف ضيّعْتِ اللّبن.

فقالت دختنوس حين سمعت ذلك وضربَتْ يَدَها بخفة على منكب زوجها الشاب:

“هذا ومَذْقُه خَيرٌ‏”‏- تعني بقولها هذا أن هذا الزوج مع عدم اللبن والمال خيرٌ وأفضل من زوجها السابق أبي شريح – فذهبت كلماتها مثلاً مُتداولا بين العرب- لمن قَنَع باليسير إذا لم يجد الخطير‏.‏

المصدر: (إبراهيم، شمس الدين باشا، معجم الأمثال العربية، ص 200، وهو يحيل إلى مصادر متعددة)

رواية أخرى مهمة باختلاف في تصرف عمرو:
..
كان أحد سُراة الجاهلية ووجهائها وهو "عمرو بن عمرو بن عُدسٍ" تزوّجَ ابنة عمِّه بعدما ارتفع سنُّه وصار شيخًا كبيرًا. وكانَ يحبُّها ويكرمُها ويسخو عليها بمالهِ الوفير. لكنّها كرهت شيخوخته، ونسيت في غمار هذه الحسرة ما يتمتّع به زوجها من كرمٍ وشجاعة وذكاء ووجاهة في قومه فضلاً عن حبّه العظيم لها، لكنّها فركته حتى طلّقها أي ظلّت معه على سوء الطباع والخصام والنفور حتى طلّقها، ثمّ تزوجت بعده بشابٍ جميل المُحيّا من "آلِ زُرارة"، لكنّه لم يكن كزوجها السابق في الشجاعة والمروءة وكريم الخصال؛ فلما أغارت عليهم قبيلةُ "بكر بن وائل" نبّهتْ زوجها ليدافع عنها ويمنع عن عِرضها الأذى، لكنّه استعظم القتال واستهول الرجال، وأصابهُ الفزعُ فماتَ في مكانِه، فسباها قومُ "بكر بن وائل". فسمع بذلك زوجُها الأوّل - عمرو بن عمرو- فأسرع إليها بالنّجدة والفرسان فاستنقذها من السّبي والمهانة.

ثمّ تزوجتْ ثانيةً بشابّ آخر لكنّه - هذه المرَّةَ - كانَ فقيرًا إلى حدّ أنّها كانت تتشهَّى أنْ تشرب الحليب الذي لم تكن تفتقده في بيت "عمرو بن عمرو"، بل كانت تشربه بديلا للماء عند هذا الزوج الأول. وبلغَ بها اشتهاءُ اللّبنَ درجة شديدةً. إلى أن كانت ذات ليلةٍ واقفةً أمامَ خيمتها ومعها جاريتُها فمرّت بها قافلةٌ عظيمة من الإبلِ تكاد تسدّ الأفقَ فقالت لجاريتها: اطْلُبي من صاحب هذه الإبل أن يَسْقِيَنا من الّلبن. فذهبت الجارية وأبلغت الرسالة لصاحب القطيع، وإذا به "عمرو بن عمرو بن عُدس" - زوجها الأول، فسأل الجارية: أين سيدتُكِ؟ فأشارت إلى حيثُ تقفُ زوجته السّابقة، فقالَ لها : قولي لها:

"الصَّيفَ ضيَّعتِ اللّبن"، ورفض أن يعطيها من حلبِ إبله. وكان يشيرُ بقوله هذا إلى إضاعتها له وإسراعها إلى الزواج بغيره ممّن لم يدانُوه في خُلُقِه وحبّه لها، ولم يستطيعوا - مثله - أن يمهّدوا لها العيش الكريم؛ فأحدُهم مات جُبنًا ولم يستطع الدفاع عنها، والآخرُ أجاعها وأظمَاَها إلى حدّ أنها اشتهت حلبَ الإبلِ من الغُرباءِ.

وصارت مقولةُ عمرو بن عمرو مثلاً يُضربُ لكلّ من يُضيِّعُ ما بيديه من خيرٍ طمعًا في غيره وبطرًا بالّنعم وجهلاً بقيمة ما يملكه من مُتاَحِ النّعَمِ.

(موقع ويكيبيديا وفيه دراسة مستفيضة عن دختنوس بنت لقيط)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى