الأحد ١٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم رشيد سكري

السيرة الذاتية و النقد الأدبي

إلى الحقائق البنائية يسعى البحث في الأدب، بما هي تشكل المنطق الذي يفرز لنا منهاج التعامل مع هذه الظواهر الأدبية. ومنه فالحكي يخيط كل منتجات الإنسانية منذ الأزل. فالإلياذة و الأوديسة لهومر، مثلا، عبارة عن حكايات نظمت شعرا. فالتأصيل، هنا، لابد من أن يعود إلى الامتداد التاريخي للمسألة الأدبية،بغية التحكم في المؤشرات المتغيرة داخل الصيرورة الأجناسية. فكما فعل خورخي لويس بورخيص عندما استنطق التاريخ من أجل إظهار الإبدالات في سفريات السندباد البحري. ومنه تفرض السيرة الذاتية نفسها بإلحاح، على اعتبارها جنسا أدبيا مائزا، تواكب التطورات المجتمعية، التي مهدت، في مستهل بداية القرن العشرين، لهذا الجنس الأدبي. فضلا عن ظهور سير وتراجم في الأدب الغربي، بما هي محطات يتأمل فيها الكاتب و المترجم مسار حياته الاجتماعية و الأدبية،وبذلك يدخل الكاتب حياته إلى عالم التخييل، باعتبارها بؤرة الحكمة و المرجعية.

إن الأدب الغربي كان سباقا إلى هذا الجنس الأدبي، و كان مسار تطوره واضحا بخلاف السيرة الذاتية في الأدب العربي حيث اكتنفها بعض الغموض، إلا أن الدكتور إحسان عباس بحث في التراث العربي عن جذور السيرة، و استطاع أن يحدد الإطار العام الذي يؤطر الحكي مم داخلها.

يؤكد عباس في كتابه"فن السيرة"أن الإحساس بالتاريخ هو تأكيد مدى أهميته في بناء وعي نظري جديد للأدب، ومن ثم فإن ما كان يقوم به اليونانيون من وضع تماثيل لأبطالهم يندرج في هذا الإطار العام، أو ما كان يفعله المصريون من تحنيط موتاهم هو إحساس عميق، أيضا، بقيمة التاريخ والزمن، أو هو تخليد لهذه الشخصية أو لتلك. إن هذا التفاعل الموجود بين التاريخ والسيرة بمختلف أنواعها يؤكده إحسان عباس في كتابه"فن السيرة"، أنه لا يمكننا الحديث عن السيرة الذاتية بمعزل عن التاريخ، بما هو معطف يغلف الأحداث و يضعها في إطارها الحقيقي.

كانت الانطلاقات الأولى لهذا الفن تنحو نحو معانقة التاريخ، و هو إحساس بمدى أهميته بالدرجة الأساس، فالتاريخ لا يصنعه الأفراد، بل الجماعات،لأن منطق القبيلة و العشيرة هي التي تسيطر على الرؤية الإبداعية في تاريخ الأدب العربي. و بالتالي لا وجود لشيء اسمه التطور أو الإحساس بقيمة الزمن، فالسيرة في الأدب كانت عبارة عن أقوال مأثورة وأخبار وحروب، لا نعثر فيها عن مفهوم الوحدة الزمنية، أو الوحدة المصيرية و البنائية للإبداع الأدبي

تمحي هذه القيم و غيرها عندما يسيطر، مثلا، رجال الدين في الكنيسة على هذا الفن الذي بدأ يعيش مخاضا حقيقيا و عسيرا، وولادة قيصرية لم تظهر بعد أهم سماتها المهيمنة. فاستأثر بها رجال الدين و الزهاد والمتصوفة من العامة،فأبرزوا فيها كرامات القديسين و خوارق أعمالهم، و فيه تغيب شبه تام للفرد و مواقف السيرة من الحياة.

و مع عصر النهضة بزغت الفردية في حدودها القصوى، فانفتحت السيرة الذاتية على مختلف الأجناس الأدبية و في مقدمتها المسرح، حيث اقتبست منه الحوار الفني الذي ينحو نحو التطور و النمو في شكل دائري، ومن حيث إن الفن المسرحي مجتزأ من سيرورة حياتية للأفراد، فإن السيرة الذاتية سارت في هذا المنحى نفسه.

هذا المنعطف الخطير في تاريخ السيرة الذاتية دشنه الدكتور سامويل جونسون و رفيقه بوزول في الأدب الانجليزي، حيث عرف هذا الأخير بكاتب سيرة جونسون، و عن طريق رفيقه ظل يعيش حيوات متعددة في تاريخ الأدب الانجليزي. أما الشاعر كولي فقد كتب سيرته الدكتور سبرات، و فيها تفنن و أبدع الخيال الخصيب، فجنح إلى الأخلاق،كي يعبر عن مدى قوة الأدب في الخلق والإبداع.

ومع ليتون ستراتشي دخلت السيرة عالم الاحترافية الأكاديمية تحت يافطة النقد الأدبي، فبدأت تمتح من علوم مجاورة للأدب الإنساني،متحت من علم النفس و البيولوجية و الباتولوجية و الأنتروبولوجية، و انفتحت على تحليلات سيكموند فرويد و دراسة النواحي النفسية لشخصيات السيرة الذاتية، و الشذوذ الجنسي الذي عرف به كل من بليك و إدجار ألان بو و تابعت الخطى نحو الإنتاجات القصصية، حيث أصبحت السيرة الذاتية عبارة عن مجموعة من التجارب الحياتية اليومية، و بهذه الخصوصيات الفنية عرفت تجربة أندري موروا.

ففي الأدب العربي تباينت الآراء و اختلفت الرؤية حول السيرة الذاتية، فسارت في ظل السيرة الغربية، بما هي انفتاح على الجوانب النفسية و الاجتماعية لأبطالها، غير أن النقد الأدبي لعب دورا مائزا في بناء رؤية حداثية للسيرة الذاتية،فكانت العبقريات للعقاد"محمد، الصديق و عمر"فاتحة هذا التوجه الجديد في الأدب السيري. و"جبران"لمخائيل نعيمة كانت كلها تجارب عاشها الكاتب رفقة صديقه من خلال الرابطة القلمية و أدب المهجر، فرمى نعيمة صديقه بنقائص خلقية أساءت لصديقه.إلا أن هذه السير قوبلت بالرفض من قبل نقاد الأدب،لأن هذه العبقريات،التي اختارها العقاد، لا تحتاج إلى هذه الالتفاتة المتواضعة شكلا و بناء، فمحمد "ص"فهو صديق و أب و زوج ورئيس دولة معروف عند العامة والخاصة.غير أن عمل العقاد، بالرغم من ذلك،أغنى خزانة تجارب السير الذاتية في الأدب العربي. فهي ـ أي العبقريات ـ حسب إحسان عباس لم تكن سيرا بالمعنى الحديث للسيرة، و إنما هي عبارة عن مظاهر لشخصيات و أقوال ومواقف معروفة في التاريخ. ومن حيث أخفق العقاد في تناوله لسير العبقريات، نجح في سيرة سعد زغلول، و السبب في ذلك توفره على كل الوثائق الضرورية و اطلاعه على المواقف التي تناولها في هذه السيرة، والعامل الحاسم و الدافع الرائد، الذي له يد طولي وراء هذا التتويج هو، حسب معظم النقاد، مصاحبته لسعد زغلول، و فهمه لطبيعة الأحداث التي عاصرها العقاد وهذا من صميم النقد الأدبي.

يفرض مفهوم التطور نفسه، في أدب السيرة، بقوة، من حيث إنه يبرز امتداد الذات في الزمان و المكان. و لا ضير أن نشير، في هذا الصدد، إلى أبي حيان التوحيدي، عند إحسان عباس، الذي كان يجالس المتصوفة في دمشق، و دارت به الدوائر إلى أن جالس الفلاسفة في بغداد. كما أبو حيان التوحيدي كما المعتمد بن عباد ملك إشبيلية، عندما تكالبت عليه إمارات الأندلس وسلطة المرابطين، و اقتيد أسيرا إلى سجن أغمات بمراكش عقب سقوط الدولة الأموية. فلم تنفعه حنكته السياسية و لا دهاءه الفكري، حيث دون، حسب أحمد بدوي، سيرته الذاتية شعرا، حينما استسلم للقضاء قائلا لزوجته اعتماد الرميكية:

قالت: لقد هنا هنا
مولاي، أين جاهنا
قلت لها: إلى هنا
صيرنا إلهـــــــــنا

و في احترامنا المشروط بالتاريخانية المرتبطة بالنقد الأدبي، في تناول موضوع السيرة الذاتية، لا بد من أن نعرج على سير دهاقنة الفكر العربي، الذين بنوه بالاسمنت المسلح، و في مقدمة هؤلاء نجد ابن خلدون في تونس و لسان الدين بن الخطيب في المغرب. فابن خلدون، كما هو معروف، استكمل دراسته بالمغرب، وكان من المقربين إلى السلطان أبي عنان المريني في القرن السابع الهجري. فاستقدم إلى فاس و أصبح عضوا في المجلس العلمي للمدينة. وإثر ذلك بدأ يدبر الدسائس لخصومه من الفقهاء و العلماء، طمعا في توليه وزارة من الوزارات، و سجن على إثر ذلك، فأدرك الموت أبا عنان و ابن خلدون في السجن. فخلف لنا كتابا ضخما يعرفه الكل:"كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر ـ ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". و قسم هذا الكتاب الضخم إلى ثلاثة أقسام:

المقدمة؛
قسم مخصص للتاريخ؛
قسم خاص بسيرة ابن خلدون.

و في هذه السيرة برهن ابن خلدون على الفطنة و الذكاء، و استحدث علما جديدا سمي فيما بعد بعلم الاجتماع، بما هو استقاه من البيئة المغربية.

أما سيرة لسان الدين بن الخطيب فهو طبيب و عالم و فيلسوف و مؤرخ ووزير بني الأحمر في مملكة غرناطة. و أوفده السلطان يوسف بن الأحمر على أبي عنان المريني لتقديم تعازيه إثر وفاة أبيه أبي الحسن. و عن طريق الطبيب، لسان الدين،تعرف المغرب على بلاد الأندلس. و ألف كتاب"معيار الاختيار في ذكر المعاهد و الديار"، و هو عبارة عن رحلات صغرى قام بها ابن الخطيب في المغرب،فزار كل من: فاس، مكناس، تازة، سلا، أغمات، مراكش....و في هذه الالتفاتة، نلاحظ كيف أن المكان يرافق السيرة، بل يمكن اعتباره معطفا يغلف مختلف أطوار السير. و بالتالي فالسيرة الذاتية ما هي إلا سيرة للمكان، الذي يرافق الشخصية الرئيسة.
في ظل هذه المعايير المتداخلة، يبقى الأدب واحة ظليلة لمختلف الأجناس، التي تنحت منه ـ أي من الأدب ـ عريشا تلجأ إليه حينما يشتد وطيس المنافسة بين هذه الأجناس عن أيها أقرب إلى التعبير عن الخيال و المخيال الأدبي. فالسيرة، كما سبق، قسيمة الإحساس والشعور بالزمن الذي يغير البشر والحجر، بل يدفع نحو التأمل في الذات وما لحقها من تبدلات و إبدالات، قد طالت الظاهر والباطن،لتجد مكانا آمنا تستريح فيه، وتخلد بفعل الكتابة والإبداع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى