الأربعاء ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٢٣
قراءة تأويلية في ديوان
بقلم البشير البقالي

«عتبة تشايكوفسكي» للشاعرة أمل الأخضر

كان الشعر دائما معينا متدفقا بالتشكيلات الجمالية للغة والصور والدلالات والتصورات، التي تنم عن وعي غير عادي وعن حساسية خاصة للذات الشاعرة أمام الوجود، وكذا عن حكمةٍ مستوحاة من الحياة، وتراكم أفكار وتجارب وتصورات ورؤى، يتم تصريفها في عمل شعري يفجر مشاعرَ مُنجِزة لحالة تأويلية أولى تتعلق بالمبدع ذاته، إذ يؤول صور الموجودات والحالات والأشياء والقيم والأفكار، ويصوغها في قالب ورؤيا تحمل تصوره وتأويله لمظاهر الواقع. ثم يأتي دور القارئ لينجز تأويله للرؤيا والدلالة، مما يجعل النص بؤرةَ تأويل مزدوج؛ تأويل أوجد المعنى أي القصد، وتأويل ينبش في معنى المعنى أي المقصدية.

إن النص الشعري، بما هو تأويل لمعطيات الواقع وتصريف لها في رؤيا فنية خاصة، يتسم بسمة الغموض، وتتفاوت درجة الغموض من نص إلى آخر، وقد يصل الأمر أحيانا إلى حد التعمية والمحاجاة. ولعل الغموض هو الذي دفع البعض إلى القول بأن الشعر هو فن استدعاء التأويل، بوصفه (أي التأويل) جسرا لتحويل الكلام الغامض إلى مقولات منطقية وإدراكات منسجمة قابلة للفهم والتمثل والتذوق.

وترتبط عملية التأويل لدى القارئ بالذوق والشعور والفهم والحدس، وكذا بالوعي بالتاريخ والسياق والفنون والنظم، والقدرة على مد الجسور بين النصوص والتجارب، إضافة إلى القدرة على فك الرموز. وإذا ما تعلق الأمر بالقارئ الناقد، فإنه إلى جانب كل ما سبق، يلزمه الوعي بمقومات النوع الأدبي والاستناد إلى سياق النص، والنبش في استشرافات الطاقة اللغوية والطاقة البلاغية.

ورغم أن النظرية التأويلية انفتحت بالنص على سياقات القراءة وركزت على المتلقي فقط، فإننا، من جانبنا، نرى أن سياق الإبداع له مركزيته الملحاحة في أية عملية قرائية تأويلية. ذلك لأن النص مسافة للحوار الفني والشعوري والفكري بين المبدع والناقد، مما يقتضي استحضار سياق الإبداع في أية عملية قرائية تروم استخلاص القيم الجمالية والفكرية والشعورية التي يستبطنها النص، ونقصد بسياق الإبداع مؤثرات التصوير لدى المبدع، والاختيارات البنائية والجمالية والفكرية التي استند إليها في تشكيل رؤياه، والتي يشهد عليها المُنجَز الأدبي، وهي تحتاج، بالضرورة، إلى فاعلية قرائية اختراقية كي يدركها القارئ.

ولأن الأمر يتعلق بندوة قرائية تأويلية لا تحتمل دسما نظريا وأكاديميا، فسأمر إلى قراءة عملية للنص في ضوء ما حددته من مرتكزات. وعليه، فإن نظرة إلى ديوان «عتبة تشايكوفسكي» للشاعرة أمل الأخضر، تكشف أنه على قدر من الغموض الذي يستدعي التأويل، إذ تبدو فيه القصائد كأنها قطع البلور المكسور، تتلألأ؛ كلٌّ في اتجاه، لكن محاورتها بفاعلية تأويلية من خلفية التفكير في مؤثرات البناء والتصوير، يكشف أنها تلتحم في رؤيا منسجمة دلاليا وشعوريا وجماليا.

إن أول ما يثير القارئ في هذا الديوان هو العنوان، حيث إن تشايكوفسكي يحيل على مؤلِّف موسيقي له معزوفات مشهورة تحاكي صراع الخير والشر، وإيراده في العنوان يوحي بأن الشاعرة كتبت قصائدها بمشاعر وتصور العائش في النغم، وبأنها أوجدت منظومة شعرية تتناص، بنائيا وشعوريا، مع عتبة معزوفة، أي افتتاحية. غير أن العتبة قد تعني كذلك معبرا إلى فضاء آخر، وطالما أن الموسيقى نافذة الروح، فإن عتبة تشاكوفسكي في العنوان قد ترمز إلى عتبة الروح، وطالما هناك عتبة، فتلك إشارة إلى حاجز معنوي بين نوازع الجسد ونوازع الروح.

من هنا، فإن الديوان يسائل الروح ومآزقها خلف كثافة الجسد والواقع المادي، تستشرف فيه الذات معنى آخر للإنسان والوجود، وترسم صورة قاتمة لواقع إنساني يملأه الفراغ والعزلة والحزن والوجع والسجون المعنوية والموت والمزايدات والحب ذو الطقوس غير المكتملة.

وتكشف القصيدة الأولى عن الأزمة العظمى في الواقع، هي أزمة الحب التي لا تخلف إلا الخسارات والخيبات والانزواء، تعززها القصيدة الثانية بعنوان «في الحب» ترصد فيها الشاعرة ضحايا وخردوات الحب:

في الحب شال برده تضعه على صدرها وتنام
في الحب تجلس على أريكتها المرأة المسنة تحوك بأصابعها قميص
حبيبها الذي لم يعد منذ عشرين عاما. (ص 7)

وفي القصيدة صور أخرى تبوح بمعاني الفَقد والهجران والموت والخيبة، في صور كأنها بانورامية تستدعي التمثل والشعور في آنٍ.

ثم يعزف الديوان تقاسيم الوجع حين تقول الشاعرة:

الوجعُ.. زاوية مظلمة
في غرفة من غرف القلب
هاتف أخرسُ، لا صوت له
امرأة وحيدة في بيت بطابقين
غربة طرفين على سرير واحد
نبتة يتيمة على حافة بئر مهجورة
صمت ثقيل بشفاه امرأة جميلة
رسائل الحب لا تبرح مكانها
منذ ثلاثين عاما... ( ص 10- 11)

وغيرها من صور الوجع التي أثثت قصيدة «على حافة بئر مهجورة»، هي بئر الحب التي لم يعد يرتوي منها أحد، مما فتّق الظلام والخرس والوحدة واليتم والصمت...، وقد حملت القصيدة مشاهد شعرية تصويرية على نمط الكتابة عند بايرون، إذ اتسمت بسمة التأثيث والتشخيص.

فيعم الحزن في قصيدة «عازف سكسفون» وكأنها ترنيمة تجسد ملحمة للحزن الذي ملأ كل مكان وغمر كل شيء:

حزينة.. كشجرة زيزفون وحيدة
في صحراء شاسعة
(...)
حزينة كخطى عاشق مخذول
وكعناق في فيلم قصير لم يكتمل
حزينة كعمود نور أخطأه رصاص غارة غادرة. (ص 13-14)

في صور تخاطب البصر والذهن والشعور، مرسومة بمهارة وإحساس، تخطف المشاعر وتحملنا على بساط الدهشة أمام دقة الملاحظة وشفافية الرؤية، شكلت فيها الذات مركز استقطاب، فبدا الحزن كأنه حزن واقع بأكمله، في إيحاء بفكرة وحدة الوجود.

وفي قصيدة «عتاد حربي» ترصد الشاعرة صور الدمار والخراب في الواقع، حيث نقرأ:

كل الذين مروا من هذي الطريق
تركوا أغراضهم/ كنزةً بكُمّ واحد
نظاراتٍ سميكةً لامرأة عجوز
مخطوطَ روايةٍ لكاتب مغمور
منديلا مطرَّزاً لغادةٍ عروس... (ص 64).

وعلى هذا النسق تتوالى صور الفواجع، توجه إدانة إلى واقع الإنسان الذي اختلق المآسي، في مشاهد شعرية لا تلتقطها إلا بصيرة شفافة، وروح عميقةُ الحساسية الإنسانية. وتستمر الشاعرة في توتير صورة واقع يقوم على القصف الذي صار معجما وسلوكا اجتماعيا ينتشي به أصحابه، حين ترصد بعض مظاهره الاجتماعية والسياسية:

في غيابك.. حدثت أشياء كثيرة
قصف الأولاد مسعود الأبله
قصفوه بوابل من الحصى
وقصفت صحافة المعارضة السيد الوزير
وقصف إمام المسجد نسوة القرية النائمات عن رغبة أزواجهن
في غيابك
ماتت عاملات الحقول في حادث بالصدفة... (ص118- 119)

وغيرها من المظاهر التي تشايعها الذات بنبرة تهكم مرير وإحساس جريح، منددة بلغة القصف والمزايدات التي يجف معها القلب ويفقد نسغه، فلا يثمر إلا «قرنفلة يابسة».

وتمعن الشاعرة أكثر في التقاط صور سقوط الإنسان في واقع فقد المعنى الرومانسي للوجود، تقول في قصيدة «هل حقا فغلتِ؟»:

هل سملتِ عيني دمية شقراء؟

هل قطعتِ شريان عصفور صغير بسكين حاف؟ هل نكأت عين الحقيقة عمدا؟... (ص 68- 69)

هكذا تواصل سؤالها إن كانت قد اقترفت كل فعل شنيع، إلى أن تختم القصيدة بالقول:

هل أحدثتِ ثقوبا في مظلات الروح؟

هل تجرأت.. هل حقا فعلتِ؟

أيتها الأصابع.. أصابعُها الجميلة. (ص 71).

لتبوح الكلمات والمعاني بالسخرية والمرارة أمام واقع يزين للإنسان ما اجتنت يداه.

وتتناسل صور إدانة الواقع الإنساني في قصيدة «أستمر في الحياة» التي تلتقط امرأة تستهلك روتين الحياة ورتابة العيش، وتتدرب على لبس الأقنعة لملاقاة الآخرين، وغيرها من الرهانات الصغيرة والمنحرفة التي ينشغل بها الإنسان، وتزج بالحياة في معترك المزايدة والزيف والظاهر والجسد، في إهمال لأبعاد الروح. وفي خضم ذلك تشتاق الذات للحب في قصائد عديدة، كما تشتاق للعفوية والفطرة وحياة بلا أقنعة، فتشتهي الجنون في قصيدة «أكثر جنونا» كرد فعل واحتجاج وتعويض عن حياة بأبعاده طبيعية.

هكذا ترسم الشاعرة ملامح واقع مرير ومظلم، فيه سطوة الجسد على حساب الروح، واقعٍ يفتقر للحب والصفاء والعيش السليم، تخندق فيه الإنسان وتمترس، وكأنه في ساحة حرب مع «جثة فارهة لخصم عنيد» على حد تعبير الشاعرة في قصيدة «بفم مطبق»، وهي عبارة تشير إلى عالم هياكل وأشباح تُطبِق فمها في واقع يسوده التربص والتأهب والتوجس، وتختم الشاعرة القصيدة بقولها:

جئت.. يسبقني الفزع
وتقودني الخطط
أحاذر الوقوع في الحب
أحاذر البسْمات الصفراء
أحاذر رصاص القنص المرابط
بكل الجهات. (ص 44- 45)

وتنفي الشاعرة مسؤوليتها في ما حصل، وتلح على هذا المعنى في ثنايا القصيدة بتكرار عبارة «لا يد لي فيما حصل»، تقول:

لا يد لي في ما حصل
النادل البسيط المفصول عن العمل
لم تسعفه رهافة حسه لتحمل عتاب زوجته ويدي ابنته ذات العامين
الممتدة بطلبات صغيرة جدا وفم صهره المملوء بالسباب والبصاق..
علق جثته بحبل الغسيل على المسمار الغليظ لصحن البارابول بالسطيحة... (ص 90)

وقد وظفت الشاعرة جملا شعرية طويلة تمتح من اليومي والمعيش، تحاكي لحظة فزع ودهشة، بأسلوب سردي في قصيدة، وكأنها بذلك تحتج على مبنى الوجود. وهي تلح على نفي المسؤولية ليس بدافع استخلاص براءة للذات، وإنما لتسجيل إدانة ضد الواقع، والإمعان في توجيه الاتهام إليه. في تصوير شعري يقوم على الصوت والصدى، والوجه والمرآة، أي على الكلام ولازم معناه المقابل، في إطار من القطبية الدلالية.
وموازاة مع ذلك، تُعلن الشاعرة عجزها عن معالجة الوضع من خلال قصيدة «لست سليمان»، تقول بعد أن تصور أحوال الحشرات:

لست سليمان لأفك شفرة أصواتهم
وأفسح الطريق أمام حشودهم
ولكنني فقط مجردُ آدمي فضوليّ
أتلصص على صندوق أسرارهم
وأدون أحوالهم في الحب بمداد الدهشة
ثم أنسخها بحدَب العارفين
وأمُرّ. (ص 114)

لتبوح العبارات بالعجز وبإشارات قطبية مرآتية؛ فالدهشة أمام أحوالهم في الحب تستدعي معنى قطبيا مقابلا على مستوى الواقع الإنساني الذي يفتقد الحب، ولعل الضمير «هم» يزكي هذا الإسقاط العكسي للدلالة، طالما أنه لا يجوز لغير العاقل. كما أن كلمة «العارفين» توحي بسمة العرفان والروحانية والغنوص، وكثير من حس التصوف في القصيدة والديوان.

ورغم السوداوية وانحطاط الواقع الإنساني جراء أزمة الحب، فإن ذلك لا يعيق الذات عن الانفتاح على فضاء لصوت الروح ورفرفتها في موال، تقول عنه في قصيدة «لا أدعي الغناء»:

يصعد محموما من نقطة بعيدة في الروح
يريد أن يعانق الغيم. (ص 94)

وهو موال يجترح الجسد ويتيح للروح فسحة الارتقاء. بذلك تعلن القصيدةُ عن عتبة التَّماس بين واقع الجسد ومجاهل الروح البعيدة، إذ يصعد صوتها محموما من الأعماق.

إن نداء الروح يومض في قصائد عديدة، منها قصيدة «عمر طويل» التي نقرأ فيها:

ثمة موسيقى تهدر
في أبهاء الروح القصية. (54)

لتكشف العبارة عن صخب داخلي يحرك فطرة الذات، فتنجذب إليه بانسيابية وعفوية. وفي قصيدة «دون سبب واضح» تقول الشاعرة:

دون سبب تدعوني نايات
الرعاة الوحيدين
في الحقول البعيدة
لأفتح كوات الدواخل
الموغلة في الصخب
تتسلل الفراشات الحبيسة
وتهرب الوعول مذعورة
من صرير باب القلب الثقيل
دون سبب كافٍ
أدور. أدور. (ص 33- 34)

تلمح عبارة «دون سبب» إلى استجابة عفوية، وإلى سمة الروحانية، إذ يصعب تبرير الموقف عقلانيا. تتعزز الروحانية بعبارة «تدعوني نايات...»، على اعتبار أن الناي آلة قوية تحتاج إلى أن تضع روحك فيها قبل أن تصبح طيعة بين أصابعك، وبذلك فالنايات تشير إلى حجم الحمولة الروحية لهذه القصيدة، في مقابل كثافة الجسد الذي عبر عنه باب القلب الثقيل. وبهذه السمات تطرق القصيدة عتبة الروح. وهي إذ تجسد انفلاتها العفوي من كثافة الجسد، فإنها تحمل مغزى صوفيا مشفوعا بتكرار كلمة «أدور»، في إشارة إلى رقصات بحركات دائرية للصوفيين، يقولون إنها جزء من المناجاة، وفي دورانهم تجسيد لدورة الحياة والفصول الأربعة، مما يكسب الصورة الشعرية بعدا خيميائيا غائرا يلتحم مع مغزاها الصوفي.

على أن ارتقاء الروح يتجلى أكثر في قصيدة «نشيد الحب»، تقول الشاعرة:

سأصعد إليك أيها الحب
وردةً، وردة
وأنأى بدمي عن صقيع العمر... (ص 19)
وتختم القصيدة بالقول:
وفي الأخير سنبارك ليلتنا بكورال جماعي
نُنشِد فيه نشيد الحب الأعظم
واضعين أيديَنا على قلوبنا
متجهين برؤوسنا صوب الله
ودمع المحبة يتحدّر. (ص 23)

وهي قصيدة استشرافية لملحمة حب، تقترحه الشاعرة بلسما لعلاج مآزق الواقع الإنساني وغسل أدرانه وتحقيق الارتقاء في الحب، والنأي عن صقيع الزمن وإدراك الدفء، في صورة موغلة في التصوف، وكأن الذات في محراب تقرأ وِرد الحب «وَرْدة ً. وَرْدة»، كما ورد في القصيدة، والكلمة مصدر مرة من الوِرد.
وفي قصيدة «تعب» نقرأ:

ولأنني ابنة البحر هكذا
بدون سبب
أتفهم فرط الملوحة في جروحي. (ص 58)

لتظهر سمة الروحانية مرة أخرى، من خلال نفي السبب، كما تحمل الصورة سمة المكابدة. وابنة البحر كناية عن سفينة، هي سفينة الروح والحب، لكنها جريحة تعبث الملوحة بجروحها، وكانت السفينة ظهرت في قصيدة أخرى تائهة: «نوارس الله تظلل سفينة عشاق تاهت»(ص9)، في إشارة إلى عبَّارة العيش السليم.

وصورة السفينة والنشيد الأعظم في هذه المقاطع، مستوحاة من كورال سفينة الحب الغنائي المشهور، تعبيرا عن رغبة إشعال لهيب المحبة، في ظل البرود والصقيع الإنساني الذي جعل نشيد الحب مجرد حلم.
وقد امتلأ الديوان بمغزى البرودة، فالأيادي باردة، وكذلك الريح، والأرصفة الإسمنتية، والحب بارد، والعمر صقيع، وغير ذلك. وهو مغزى ممتد في شعر أمل الأخضر، ففي إحدى قصائد ديوانها السابق «يد لا تهادن» نقرأ:

زَخٌّ طويل، الأرض تفتح شقوقها تبتلع السيول
رأيت النار تصطخب تحت أجنحة اللهب
رأيت الماء يصفر للرابية
رأيت التراب يئن تحت وطأة الجبل
رأيت الهواء يعوي بين فج وفج
رأيتني إلى أربع منشطرة. (ديوان: يد لا تهادن. ص: 78).

وهي صورة عميقة في شكل ماندالا خيميائية (*) تضم العناصر الأربعة؛ النار والماء والتراب والهواء، غير أن النار تغيب فيها الفاعلية، طالما أنها تصطخب تحت لهيبها، مما يجعل حضورها كغيابها، إذ تغيب فاعليتها في ظل الزخ والسيول، وتبقى مجرد اصطخاب في الداخل، علما بأن النار عنصر تحويل، يرمز إلى حجر الفلاسفة، وبغياب فاعلية النار، لا يبقى سوى البرود في تصفير الماء وعويل الريح. أما النار فتبقى مستعرة في الداخل دون أي أثر خارجي، حتى الفعل الذي ارتبط بها ذو حركة جوانية طالما هي تحت.

وتؤكد الشاعرة هذا المعنى في قصيدة أخرى بعنوان «صديقتي الأرض»، إذ تقول:

صديقتي الأرض
ثمة لهب يستعر في قلبينا معا. (ديوان: يد لا تهادن، ص: 47)

حيث تبدو النار مستعرة في القلب، لكن بدون أثر خارجي، إذ نقرأ في قصيدة أخرى: «أصابعي التي تصهر صقيع العمر/ تتجمد من وقع الغياب» (يد لا تهادن. ص24). ليتأكد غياب الدفء في الحياة والواقع رغم وجود النار، لأن وجودها بلا فاعلية أو أثر، لذلك تهيمن البرودة، تعززها كثرة السيول في الديوان.

غير أن البرودة ستكسرها القصيدة الأخيرة في ديوان «عتبة تشايكوفسكي» وهي بعنوان «تنحي قليلا»، تقول الشاعرة:

تنحَّيْ
صديقتي العزلة
تنحي قليلا
قلبي.. متوثب
يداي جمرتان. (ص: 123)

وهذا تحول كبير في المسار والحالة بين الديوانين، فالأصابع التي كانت باردة في الديوان السابق، صارت ملتهبة، واليد التي لا تهادن صارت يدين، وهما هنا امتداد للروح وليس للجسد، طالما أننا أمام عتبة موسيقية، والموسيقى صوت الروح، واليدان هما اللتان تعزفان ترانيم الروح، والصورة تعبر عن فيض دفء الحب لدى الذات الشاعرة؛ عن نار مستعرة في الداخل بدأت تفيض على الأطراف...-

هكذا إذن طرزت الشاعرة ديوانا جمع عمق الرؤيا، ورقة الكلمة، وجمالية التصوير والترميز، وعذوبة الإيقاع الغائم، وشطحات الروح، وتقنية التشخيص، إذ أثثت فضاءاتِ القصائد بالكائنات والأشياء والألوان والحركة، واستدعت شخصيات وحالات وأبطالا وقيماٌ في قصائد عدة منها قصيدة «إنهم يتقدمون» تقول فيها الشاعرة:

إنهم يتناسلون
من ضوء المرآة الماثلة أمامي
فان غوخ يحمل بيد أذنا مبتورة
وبالثانية يسحب رصاصة من جوف صدره
ويضحك يضحك عاليا
ماياكوفسكي يخبئ غيمة في سرواله
ويعبر إلى الجهة الثانية
فيرجينيا وولف تلفظ ما تشربه الجسد من ماء ووحل
وترمي ما تبقى في جيبها من حجر... (ص 51- 52)

وتستمر القصيدة في رصد أعلام سخروا من الحياة كما من الموت، وانتحروا احتجاجا على واقع يفتقد البعد الرومانسي للوجود، رأتهم الذات يتناسلون من ضوء المرآة ويتقدمون، في صور ثلاثية الأبعاد. مما فتَّق حيوية الدراما ومدَّها في المكان والزمان، في قصائد بدت في هيأة وهيبة ترنيمات تنظم نشيدا أوبراليا تمثيليا، من باب المحاكاة، وحتى الأسطر الشعرية على الصفحات تبدو في شكل اوكتافات سوداء ضمن أوكتافات بيضاء، وكأننا أمام عتبة مفاتيح البيانو.

لقد حاكت الشاعرة صراع الشر والخير، والجسد والروح، والظاهر والباطن، والظلام والنور، على غرار معزوفات تشايكوفسكي، لكنها وقفت عند حدود العتبة، وأجلت نشيد الحب الأعظم، في إشارة إلى غياب الجوقة أو الكورس، وتلك إدانة مضاعفة للواقع إذ لا يعزف لحن الحب. ليستمر بحث الشاعرة عن قصيدتها المشتهاة...

(*) الماندالا لوحة خيميائية تتضمن رموزا ترمز إلى العناصر الأربعة (الماء والنار والتراب والهواء)، والعنصر الخامس (الأثير)، والمواد الثلاث. إضافة إلى حجر الفلاسفة، أي عنصر التحويل...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى